أسقطت الحملة العسكرية التي تشنها روسيا دعمًا للنظام السوري بحجة ضرب مواقع تنظيم داعش خلال الأسبوع المنقضي محادثات «جنيف 3»، ذلك أن استمرار القصف العنيف للمدن والأرياف على امتداد سوريا، ولا سيما، في محافظة حلب، أدى إلى إفشال المحادثات. ومعلوم أن المعارضة السورية كانت قد اشترطت لحضورها وفاء المجتمع الدولي بالتزاماته وتطبيق القرارات الدولية الخاصة بالشق الإنساني، بما فيها فك حصار التجويع عن المدنيين، وإطلاق سراح السجناء، وتلقت ضمانات دولية وأميركية بهذا المعنى، غير أن تصعيد روسيا، ومعها نظام بشار الأسد والميليشيات المتحالفة، جعل من أي محدثات سياسية غير ذات معنى في ظل التغيير الديموغرافي الحاصل على الأرض. وفي ما يلي نسلط الضوء على واقلما لا يستهدفها.
سهّل وجود معاقل آمنة للتنظيمات المتشددة في سوريا، تجنيد الشبان في صفوفها، وحثهم على الانخراط في تنظيمي جبهة النصرة و«داعش»، بعد نضوح سببين مهدا للانضمام إلى التنظيمين: أولهما التحشيد الديني والسياسي، وثانيهما توفر الإغراءات المادية ووضع الإمكانيات العسكرية بين أيدي المقاتلين الجدد.
ويرى مواكبون لحركة الجماعات المتشددة في سوريا، أن وجود معاقل آمنة للتنظيمات المتشددة، تتيح لها إنشاء معسكرات تدريب، وتجهيز المقاتلين وتلقين اليافعين دروسًا دينية، «أسهم في استقطاب الشبان إليها».. ومن دونها، «لا يمكن لتلك التنظيمات أن تجمع آلاف المقاتلين، نظرًا لأن العمل في ظروف سرية، يصعب المهمة عليها، ما يجعل خلاياها مكشوفة أمنيًا».
غير أن التجهيزات اللوجيستية، ليست إلا نهاية طريق الانضمام إلى التنظيمات المتشددة. فالعمل على التجنيد، «يبدأ من الترهيب والترغيب»، كما يقول مصدر سوري معارض في ريف حلب الشمالي لـ«الشرق الأوسط»، إذ «تعمل خلايا التجنيد على فصل الشاب عن عائلته، بهدف تسهيل المهمة، وتمارس التعبئة العقائدية والسياسية معه، إلى أن يتخذ القرار بالانضمام»، وتواكبها «عملية الإغراء المادي والإغراء بالإمكانيات»، مشيرًا إلى أن «محاولة العزوف عن الانضمام، ستجعله بمواجهة حالات الخطف بتهمة العمل لصالح أجهزة استخبارات».
أما عائلات المنضوين تحت لواء التنظيمات المتشددة، «فتعدّ آخر من يعلم بانضمام ابنها، ولا تملك سبيلاً للرفض أو القبول، لأن الاتصال بها غالبًا ما يتم بعد أشهر من خروج ابنها عن أنظارها».
راهنًا، ينتشر آلاف المقاتلين المتشددين في أنحاء سوريا، بدءًا من مناطق نفوذ «داعش» في دير الزور والرقة والريف الجنوبي لمحافظة الحسكة، وصولاً إلى ريف حلب الشرقي وريف حماه الشرقي. بينما ينتشر آلاف آخرون يوالون «جبهة النصرة»، وهي فرع تنظيم القاعدة في سوريا، في مناطق نفوذها في ريفي حلب وإدلب، وفي جنوب البلاد.
وتقول سارة، وهي أم لمقاتل سوري انضم إلى تنظيم داعش في دير الزور، إن ابنها أحمد «اختطف على يد عناصر الحسبة، بعد سيطرة التنظيم على مدينة البوكمال الحدودية مع العراق»، موضحة أن أخباره «انقطعت، ولم أعد أعرف عنه أي خبر». وتشير إلى أنها تلقت اتصالاً منه بعد شهرين، أعلمها فيه بأنه «يجاهد في صفوف التنظيم»، طالبًا منها «الدعاء له».
وترى سارة أن ابنها البالغ من العمر 18 سنة «غرروا به، ولا أعلم ماذا حصل معه»، مشيرة إلى أن ابنها «كان طالبًا قبل تدهور الأوضاع الأمنية في المنطقة، ولم تظهر عليه علامات التشدد أبدًا، وقد اعتقل في مقهى للإنترنت». وإذ ترجح بأن يكون ابنها «مجبرًا على القتال في صفوفهم»، تشير إلى أن أخباره «انقطعت منذ الخريف الماضي، ولا أعلم أي شيء عن أحواله».
* طرائق جديدة
ويقول ناشطون سوريون إن تنظيم داعش ابتكر طرائق جديدة لتجنيد الشبان السوريين، عبر «معاملتهم بطريقة حسنة». وأشارت حملة «الرقة تُذبح بصمت» في وقت سابق، إلى أن التنظيم «يشن عبر جهاز (الحسبة) الأمني، حملة اعتقالات عشوائية في مدينة الرقة، من غير وجود سبب مقنع لذلك، واستخدم أسلوبًا جديدًا مع المدنيين داخل سجونه، تمثل في معاملتهم بطريقة جيّدة من غير تعذيبهم»، مشيرة إلى أن «شرعيي التنظيم وبعض السجناء يقومون بإقناع الشباب للانضمام إلى التنظيم للدفاع عن الدين والقتال في معركة أعدّت ضد الإسلام». إضافة إلى ذلك، «يستخدم التنظيم أسلوب إغراء الناس بالمبالغ المالية وعرض الزواج عليهم وتقديم المساعدات الإغاثية لأهل الشاب إذا وافق على الانتساب للتنظيم».
ويعد تسهيل زواج الشبان، من أبرز المحفزات التي يقدمها التنظيم لمقاتليه، وخصوصًا الجدد منهم. ويقول «المرصد السوري لحقوق الإنسان» إن التنظيم «يوفر منازل وسيارات ورواتب مغرية للمقاتلين، تصل إلى حدود 800 دولار أميركي للمقاتل الأجنبي»، فضلا عن تقديم «100 دولار أميركي لكل زوجة، و50 دولارا لكل طفل من عائلة المقاتل المهاجر»، في إشارة إلى المقاتلين غير السوريين.
ولا تبدو المحفزات المالية مقنعة بالنسبة لعائلات المنتسبين إلى التنظيم. يرى علي الذي يتحدر من مدينة الباب في ريف حلب الشرقي، أن المال «لم يكن سببًا لأن يلتحق شقيقي محمد (17 سنة) بالتنظيم، نظرًا إلى أننا من العائلات الميسورة ماديًا»، مرجحًا أن يكون «التحشيد الديني والسياسي من أبرز الأسباب التي دفعت شقيقي للالتحاق بالتنظيم». ويضيف: «واظب شقيقي على الذهاب إلى المسجد، منذ سيطرة (داعش) على المنطقة، قبل أن يختفي بعد ثلاثة أشهر، لنعلم أنه التحق بصفوف التنظيم»، لافتًا إلى «أننا لا نعرف عنه أي شيء منذ ذلك الوقت».
* وضع لبنان
ولا تختلف ظروف التجنيد بين سوريا ولبنان، أو أي منطقة أخرى من العالم. فوالد الانتحاري اللبناني نضال المغير، الذي نفذ هجومًا انتحاريًا استهدف مقر المستشارية الثقافية الإيرانية في لبنان، في فبراير (شباط) 2014، رجح عدة فرضيات دفعت ابنه لتنفيذ عملية انتحارية، من غير أن يكون متيقنا من أي منها، بينها «التضليل بابني ودفعه لتنفيذ التفجير».
أما الانتحاري قتيبة الصاطم الذي نفذ تفجير حارة حريك في ضاحية بيروت الجنوبية، فيقول عارفوه إن قتيبة «تحول من شخص معتدل، إلى متشدد أصبح يقصد الجوامع بشكل يومي ويصلي ويتحدث بالجهاد والقتال في سوريا لنصرة الأطفال والنساء، وتحول اهتمامه بمستقبله إلى اهتمامه بالقتال».
وتستخدم التنظيمات المتشددة الذرائع الدينية والسياسية على نطاق واسع، في حملتها لاستقطاب الشباب إليها. وتعتمد مصطلحات دينية لتوصيف خصومها، وسط ضخ دعائي عبر خطباء المساجد ووسائل إعلامها، بأنها تقاتل «أعداء الإسلام»، وتدافع عن «الدولة» المزعومة.
وأفاد ناشطون سوريون في وقت سابق، بأن تنظيم داعش، يستغل الدروس الدينية في المساجد، ليتم من خلالها التغرير بالشباب اليافعين، وهي بمثابة «دروس غسل دماغ». ويشير مصدر لبناني مطلع على أحوال الجماعات المتشددة، إلى أن «التفاعل مع تلك الجماعات المتشددة، يعود إلى تعاطف معها على ضوء دخول التحالف الدولي في حرب عليهم في سوريا والعراق، بينما لا يُقصف النظام السوري».
والى جانب هذه الخطابات، تعتمد التنظيمات، التي تمتلك إمكانيات مادية كبيرة، على التقديمات الاجتماعية، لتسهيل ضم الشباب إليها. يقول ناشطون في حلب، إن تنظيم «جبهة النصرة»، استطاع أن يجذب المقاتلين المعارضين للنظام السوري، عبر تقديمات اجتماعية لعائلاتهم، وتقديم المساعدات العينية، ومساعدة الناس على تأمين احتياجاتها من المواد الضرورية للعيش مثل قوارير الغاز والأدوية ومياه الشفة، منذ بدء ظهوره في حلب في عام 2012.
كما شكلت الإمكانيات العسكرية، عوامل جذب إضافية للشباب السوريين، الذين وجدوا في أيدي تلك التنظيمات، كميات كبيرة من السلاح، ومقاتلين يتمتعون بخبرات قتالية عالية، من شأنها أن تسهل عمليات قتال القوات الحكومية السورية، قبل أن تتضح نيات تلك التنظيمات، بسعيها لإنشاء كيانات لها على الأراضي السورية.
* استغلال «الظلم»
يقول الخبير اللبناني في الجماعات المتشددة أحمد الأيوبي لـ«الشرق الأوسط» إن تلك التنظيمات «تستخدم في حملات التجنيد خطابًا عامًا يستهدف شريحة محددة، تعتبر نفسها مظلومة»، مشيرًا إلى أن المقاتلين في سوريا «باتوا أمام خيارات ضيقة». ويوضح أن الخيار المتاح لهم في سوريا «يتمثل في الانضمام إلى تنظيمات قوية، قادرة على مواجهة النظام، منعًا لأن تكون للنظام اليد العليا، ويستكمل عمليات القتل بحقهم». أما في العراق، فيشير إلى أن السكان من الطائفة السنية «وضعوا أيضًا أمام خيار واحد، هو التعرض للإبادة أو الوقوف إلى جانب المتشددين».
ويشير الأيوبي إلى أن الجيش السوري الحر الذي يمثل المعتدلين في سوريا «تقلص نفوذه، لأنه لم يتمكن من تشكيل حيثية ميدانية في مواجهة قوات النظام، نظرًا إلى ضعف إمكانياته»، لافتًا إلى أن ذلك «قد يكون سببًا في العزوف عن دعمه».
وأتاحت الحرب في سوريا، للتنظيمات المتشددة، إنشاء مناطق آمنة لها، مكّنتها من تأسيس معسكرات تدريب، جذبت المقاتلين لتدريبهم على استخدام السلاح، توفر ظروف الانتقال تسهل التجنيد. وأوضحت حملة «الرقة تذبح بصمت» في تقارير سابقة، أن الشباب المنضوين إلى «داعش»، يخضعون لدورات تدريبية داخل أحد معسكرات تدريب التنظيم لمدة شهر واحد في حالة الحرب و45 يومًا في الحالة العادية، ليفرزوا في وقت لاحق على جبهات القتال.
* الرقة.. المعقل
تعد محافظة الرقة السورية، واحدة من أكبر معاقل هذا التنظيم، بينما تعد أرياف محافظة درعا (جنوب سوريا) ومحافظة إدلب (شمال) من أبرز معاقل تنظيم «جبهة النصرة».
ويشير ناشطون في حملة «الرقة تذبح بصمت»، إلى أن هؤلاء الشباب والأطفال يشاركون في دروس دينية، قبل تقسيمهم إلى مجموعات بحسب الفئات العمرية، إذ أنشأ «داعش» «المعسكر الشرعي للأشبال» للأطفال ما دون الـ16 عامًا، ويتلقون دروسًا مخصصة للمبتدئين في المعسكر، بينما يخضع الآخرون الأكبر سنًا لدورات مكثفة، يتلقون فيها تدريبات على استخدام أسلحة متوسطة وثقيلة.
وتحولت الرقة في وقت سابق قبل بدء التحالف الدولي لمحاربة الإرهاب عملياته في سوريا، وجهة لمقاتلين متشددين، يلجأون إليها للانضمام إلى «داعش»، قادمين من بلدان حول العالم، بينها لبنان. وكان مصدر إسلامي في مدينة طرابلس، عاصمة شمال لبنان، أبلغ «الشرق الأوسط» في وقت سابق، أن نحو 30 لبنانيًا، انضموا إلى التنظيم خلال عام 2014، بعد أن انتقلوا إلى سوريا عبر الأراضي اللبناني، أو عبر المعابر التركية غير الشرعية مع سوريا، قبل انتقال قسم منهم إلى العراق، لافتا إلى أن اللبنانيين «انضموا إلى تنظيمي (داعش) و(النصرة) أو تنظيمات سورية معارضة أخرى، بهدف قتال قوات الرئيس السوري بشار الأسد».
وبموازاة تمدد «داعش» وسيطرته على نحو نصف الجغرافية السورية، وتنكيل التنظيم المتشدد بخصومه ومخالفيه الرأي الفقهي والعسكري، ومنهم مقاتلو «النصرة»، وجد كثيرون من المقاتلين السوريين ضالتهم في الالتحاق بـ«الجبهة» التي استقطبتهم، كونها «وفّرت لهم الامتداد العقائدي الذي يحاكي انتماءاتهم المتشددة».
وظهرت «النصرة» التي تتبنى آيديولوجية «تنظيم القاعدة»، لأول مرة، في أواخر العام 2011. تحت اسم «جبهة النصرة لأهل الشام»، وتلا زعيمها أبو محمد الجولاني بيانها التأسيسي في 23 ديسمبر (كانون الأول) 2011، متبنيًا أول عملية انتحارية تُنفذ في سوريا، ضربت مركزا أمنيا في مركز كفرسوسة في العاصمة السورية. وأشار حينها إلى أن أهم أهداف «الجبهة» تأسيس دولة إسلامية. وأطلقت الجبهة منذ ذلك الوقت العمليات الانتحارية التي استهدفت مدنيين، كان أهمها تفجير السلمية في ريف حماه الشرقي، في ديسمبر 2012. وذهب ضحيته نحو 60 مدنيا. وبعد تنفيذ عمليات استهدفت مدنيين في حلب والعاصمة السورية، أعلنت الولايات المتحدة في ديسمبر 2012، إدراج جبهة النصرة على قائمة المنظمات الإرهابية الأجنبية لارتباطها بـ«تنظيم القاعدة»، عادة إياها «واجهة لـ(القاعدة) في العراق»، ومنعت من التعامل معها.
* أبو بكر البغدادي
أما تنظيم داعش، فأعلن في ربيع عام 2013، عن أول وجود له في سوريا، ودخل زعيمه أبو بكر البغدادي إلى أرياف الرقة وبلدات شرق حلب، قبل أن ينسحب مجددًا، تاركًا مهمة التمدد والسيطرة لقيادات عسكرية عنده. في شهر سبتمبر (أيلول) 2013، أحكم التنظيم سيطرته على الرقة، وبدأ منها مشروعه التوسعي. واصطدم مع قيادات في فصائل إسلامية أخرى، وفصائل الجيش السوري الحر، مما أشعل معارك بين الطرفين إثر هجوم مضاد أواخر العام، نفذه مقاتلو الجيش السوري الحر و«جبهة النصرة» ضد التنظيم لتقويض تمدده.
لكن التنظيم «المدعوم ماليا وعسكريا»، ويقاتل في صفوفه عدد كبير من المقاتلين الأجانب، تمكن من إحكام سيطرته، في شهر يناير 2014، على معظم أرياف الرقة ومدينتها، لتكون أول مدينة سوريا تخرج عن سيطرة القوات النظامية بالكامل. وبدأ التنظيم بتطبيق أحكامه، بموازاة التوسع في مناطق شرق سوريا وريف حلب الشرقي، وصولا إلى الريف الشمالي لحلب، وبعض أنحاء محافظة الحسكة في شمال شرقي سوريا.