اتخذت السعودية خطوات جادة للتأقلم مع التغيرات الاقتصادية العالمية، تمثلت في تنويع مصادر الدخل وعدم الاعتماد على إيرادات النفط كمصدر رئيسي في الإنفاق، وسط تراجع أسعار البترول عالميًا إلى ما دون 38 دولارًا للبرميل.
وتحرص السعودية على تنفيذ مجموعة من الإصلاحات الاقتصادية ترتكز على رفع كفاءة الإنفاق الحكومي، والاستفادة من الموارد الاقتصادية وزيادة عوائد الاستثمارات الحكومية؛ الأمر الذي ظهر في الخطاب السنوي لخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، أمام مجلس الشورى، مطالبًا بوضع الخطط والسياسات والبرامج اللازمة لبدء تلك الإصلاحات.
واتخذت السعودية سلسلة إجراءات لتغطية عجز موازنة العام المالي 2014-2015، من خلال إصدار سندات خزينة محلية بقيمة 5.3 مليار دولار (20 مليار ريال)، بالإضافة إلى سحب أكثر من 80 مليار دولار من احتياطيها بالعملات الأجنبية الذي كان يبلغ 732 مليار دولار نهاية 2014، والذي تكون نتيجة التدفقات المالية الكبيرة من إيرادات النفط خلال السنوات الماضية، والذي حرصت الدولة من خلاله على اعتماد الكثير من المشاريع التنموية الضخمة وتطوير البنية التحتية إضافة إلى تعزيز الاحتياطي العام.
وفي أعقاب الطفرة في الإنتاج النفطي، لجأت معظم الدول المصدرة للنفط، خصوصًا الدول الخليجية، إلى الاستثمار في صناديق الثروة السيادية كوسيلة لتنويع الدخل، وتشمل هذه الصناديق حيازات ضخمة من الأصول العابرة للحدود. ورغم أن هذه الصناديق كانت داعما كبيرا لبقاء اقتصادات الدول الخليجية وخاصة الاقتصاد السعودي ليظل قويًا رغم عثرات التباطؤ الاقتصادي العالمي وتراجع أسعار النفط؛ فإن تنوع الاقتصاد وتوليد مصادر جديدة للدخل يحمل المزيد من الفوائد للاقتصاد السعودية في الوقت الراهن.
وفضلت السعودية الخيار الأصعب للاقتصاد ولكنه مستدام، حيث رفضت طريقًا يبدو أسهل في توفير إيرادات ضخمة على المدى القصير والمتوسط، من خلال إصرارها إبقاء مستويات إنتاج منظمة الدول المصدرة للنفط (أوبك) دون تغيير، وعدم انصياعها للآراء التي تدعوها تخفيض الإنتاج من داخل المنظمة وخارجها، رغم تأثر الموازنة العامة للدولة بهذا القرار.
وستتخذ السعودية مزيدًا من الخطوات لتنويع اقتصادها بعيدًا عن النفط الذي يمثل بحسب تقديرات صندوق النقد الدولي نحو 80 في المائة من الإيرادات هذا العام. وقد تشمل الخطة فرض ضرائب على استيراد بعض السلع مثل السجائر والتبغ؛ وسيجري إعادة هيكلة نظام دعم الكهرباء والمياه الذي يكلف الحكومة مليارات الدولارات سنويًا ليتسنى توجيهه لذوي الدخل المتوسط والمنخفض دون استفادة الأثرياء منه.
وقال تقرير مؤسسة «ماكينزي آند كو» للاستشارات المالية، إن بإمكان السعودية مضاعفة الناتج المحلي الإجمالي وخلق وظائف لستة ملايين سعودي بحلول عام 2030 إذا تمكنت من تحقيق تحول يركز بصورة رئيسية على الإنتاجية والاستثمارات. وأضاف التقرير الذي صدر الشهر الماضي، أنه من أجل تحقيق ذلك ستكون هناك حاجة لإصلاحات في سوق العمل وأنظمة ولوائح قطاع الأعمال وطريقة إدارة الميزانية الحكومية، وإلا فقد تواجه السعودية تدهورًا اقتصاديًا سريعًا على مدى الخمسة عشر عامًا المقبلة، وهو ما اتجهت إليه الإدارة السعودية في الموازنة الجديدة.
وكان صندوق النقد الدولي دعا السلطات السعودية، إلى إجراء إصلاحات لخفض عجز الموازنة تتضمن زيادة في أسعار الطاقة المحلية، وإجراء إصلاحات في النظام الضريبي، واتخاذ خطوات لرفع كفاءة الاستثمار العام، والسيطرة على النفقات الحالية، خاصة فاتورة الأجور الحكومية، مشيرًا إلى أن القطاع المصرفي السعودي، الذي أكد أنه يتمتع بوضع قوي، يمكنه تجاوز انخفاض أسعار النفط وتراجع النمو.
وذكر الصندوق أن الاحتياطيات النقدية الضخمة التي تتمتع بها السعودية ودينها العام المنخفض للغاية، يعني أنها تستطيع مواجهة هبوط أسعار النفط لعدة سنوات، إلا أنه يجب عليها أن تتخذ خطوات الآن لكبح الإنفاق من خلال إصلاحات اقتصادية.
وتسعى السعودية في ميزانية العام المقبل إلى جعل مصادر الطاقة البديلة أكثر جاذبية، وتهدف السعودية أيضا إلى تعزيز الإنفاق العام من خلال تمديد مدفوعات الرعاية الاجتماعية القائمة، مثل إعانات البطالة، للتخفيف من تأثير خفض الدعم على الطبقات الفقيرة والمتوسطة في البلاد؛ وحال رفعت السعودية أسعار البنزين فسيكون هذا أحد أكبر الإصلاحات الاقتصادية منذ سنوات، خاصة في ظل الاستهلاك المتنامي للنفط في السعودية. حيث أكدت الإحصاءات الرسمية أن قطاع النقل يستهلك نحو 23 في المائة من إجمالي الطاقة في السعودية العربية السعودية، حيث يستهلك أسطول المركبات الذي يصل إلى أكثر من 12 مليون مركبة، نحو 811 ألف برميل يوميًا من البنزين والديزل.
وتقوم وزارة البترول وجهات حكومية سعودية بجهود كبيرة لإجراء تحولات اقتصادية داخلية مثل ما قام به مركز كفاءة الطاقة في إعداد معايير إلزامية للسيارات والمكيفات وغيرها. كما تسعى الحكومة لزيادة الإيرادات، ووقف استنزاف المال العام الممنوح لدعم الطاقة وتعزيز نشاط القطاع الخاص، ومن شأن الإصلاحات أن تحقق وفرات مالية كبيرة يمكن أن تستمد من خفض الدعم.
ويقدر صندوق النقد الدولي أن دعم الطاقة يكلف السعودية العربية السعودية 107 مليارات دولار بما يُمثل 13.2 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2015. وفي إطار خطة تنويع مصادر الدخل، كشفت الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني في السعودية، قبل يومين من إعلان الموازنة، اتجاهها لتطوير 1420 جزيرة سياحية، في الوقت الذي سبق أن تم فيه طرح عدد منها للاستثمار السياحي وعلى رأسها جزيرتا «آمنة وأحبار» في منطقة جازان، إضافة إلى تهيئة عدد من الجزر السياحية لتكون نواة تطوير محفزة للاستثمار فيها. ومن الجزر التي تضمها السعودية 1285 جزيرة في البحر الأحمر، تمثل نحو 89 في المائة من مجمل جزر السعودية، في حين يبلغ عدد الجزر السعودية في الخليج العربي نحو 135 جزيرة، تمثل نحو 11 في المائة من مجمل جزر السعودية.
كما تسعى الهيئة إلى تطوير مرافق ذات كثافة وارتفاعات محدودة، مع مراعاة عناصر ومفردات الهندسة المعمارية المحلية التقليدية السائدة في المنطقة، وإيجاد مجموعة من المراكز الواقعة في المناطق ذات الإمكانات السياحية الكبيرة.
وتأتي تلك التحركات بعد شهور من موافقة مجلس الوزراء السعودي على السماح لهيئة السوق المالية بفتح سوق الأسهم السعودية، التي تعد أكبر سوق للأسهم في الشرق الأوسط، أمام المؤسسات والصناديق الأجنبية للاستثمار المباشر، في الوقت الذي تُبدي فيه صناديق أجنبية ضخمة، وعلى رأسها صندوق السيادة النرويجي رغبتها في الاستثمار بالأسهم في السعودية.
وتبلغ القيمة السوقية للأسهم المدرجة في سوق الأسهم السعودية نحو 531 مليار دولار؛ في حين يبلغ المتوسط الشهري للاستثمارات الأجنبية فيها، في حدود 400 مليون ريال.
وكان الاستثمار الأجنبي في السعودية متاحًا أمام 13 قطاعًا، هي مجالات الشركات الاستشارية، وشركات الخدمات المالية، والمشاريع الصناعية، ومؤخرًا أضيفت مجالات التعليم، والصحة وعلوم الحياة، والاتصالات والتقنية، والنقل، واللوجستيات، والمشاريع الصناعية التي يفوق رأسمالها عن 100 مليون ريال.
ويتضح من الإطار العام للموازنة أكبر تغيير للسياسة الاقتصادية للسعودية منذ نحو عشر سنوات، التي سبق التعبير عنها إعلان الهيئة العامة للطيران المدني الشهر الماضي استهدافها بدء خصخصة بعض المطارات وقطاعات متعلقة بها في عام 2016. لتحفيز النمو وخلق وظائف وخفض العبء المالي على القطاع العام.
* الوحدة الاقتصادية
بـ«الشرق الأوسط»