فقد ورحيل كتاب وشعراء وفنانين، ومؤسسة ثقافية مضطربة، تفتقر إلى استراتيجية حقيقية تشد هموم المثقفين والمبدعين إلى فضاء أوسع للثقافة والإبداع.. هكذا يبدو المشهد الثقافي المصري على عتبات العام الجديد، مثقلا بتركة من المشكلات والقضايا المزمنة، والحزن على رحيل كوكبة من رموزه، أثروا حياته بعطاء خصب ومتنوع، في الرواية والشعر والسينما والنقد والترجمة، وفي قضايا الفكر والثقافة بشكل عام.
شملت عباءة الفقد الكاتب الروائي إدوار الخراط، أحد أهم مؤسسي الحداثة الأدبية في مصر، والشاعر عبد الرحمن الأبنودي، الذي أدخل الشعر وجدان العامة والبسطاء، فأصبح بمثابة خبز يومي على موائدهم، والكاتب الروائي جمال الغيطاني الذي ضخ في فضاء الكتابة السردية دماء جديدة امتزجت فيها أقنعة الماضي بالحاضر، والكاتب المترجم خليل كلفت صاحب كثير من الترجمات المهمة في مجال الفكر والأدب وعلوم السياسة والاجتماع، والكاتبة إبتهال سالم صاحبة «نوافذ زرقاء».
كما منيت السينما بخسارة فادحة برحيل فاتن حمامة، سيدة الشاشة العربية، والفنان العالمي عمر الشريف، بطل فيلم «دكتور زيفاجو»، والفنان نور الشريف، بطل «سواق الأوتوبيس»، أحد القلائل من الفنانين الذين تمتعوا بوعي ثقافي واسع، والمخرج رأفت الميهي، الذي أشاع الفانتازيا واللامعقول في المشهد السينمائي، كما غيّب الموت الفنانين محمد وفيق، الذي برع في تجسيد الأدوار التاريخية، وسامي العدل، المعروف بدعمه للفنانين الشبان.
ألقت هذه العباءة الحزينة بظلالها على الحراك الثقافي، وأثارت كثيرًا من الأسئلة الحائرة حول دور الدولة والمؤسسات الثقافية الرسمية في رعاية الكتاب صحيًا، وتأمين نفقات علاجهم، من خلال منظومة تأمين صحي واقعية وعادلة، بدلا من تسول العلاج بطرق مهينة، ومن مؤسسات لا علاقة لها بالثقافة، خصوصًا أن أغلبية المثقفين والكتاب فقراء، لا يملكون من حطام الدنيا سوى إبداعهم، بل إن بعضهم ينفق على نشر أعماله للقراء، ناهيك بأن «اتحاد الكتاب»، وهو المؤسسة الأولى المعنية مهنيًا بذلك الأمر، يفتقر حتى الآن إلى مظلة تأمين صحي لعلاج أعضائه، وأيضًا برنامج أدبي طموح، يناقش من خلاله بشكل عملي صحيح قضايا الواقع وما يفرزه على مستوى النشر والإبداع، والحراك النقدي المواكب له.
أي إبداع إذن يمكن أن ينبت وبنمو بقوة وحرية وأمان في واقع ثقافي وصفه الناقد الدكتور محمود الضبع، نائب رئيس الهيئة المصرية العامة للكتاب، قائلا في مداخلة له في ندوة عن الحراك الثقافي المصري عقدت أخيرا في بيت السناري بالقاهرة إن «الحالة الأدبية والكتابة الثقافية في مصر والمشهد الثقافي الأدبي منذ السبعينات تعاني حالة من الإهلاك الشديد، وإن القضايا والمشكلات التي نتحدث عنها الآن في مصر هي القضايا نفسها التي تحدث عنها طه حسين في كتاباته».
اللافت في هذا المشهد أن قضايا الثقافة ومشكلاتها تحولت إلى تركة ثقيلة، يتوارثها بركامها كل فترة مسؤول عن آخر، من دون تقديم حلول جذرية لها، لا على المستوى القريب أو البعيد. فعلى مدى أربع سنوات فقط تناوب على حقيبة وزارة الثقافة سبعة وزراء، لم يفلحوا في حل هذه المشكلات، بعيدًا عن إجراءات التجميل والترقيع الشكلية، حيث يتفنن كل وزير بحسب قدراته، لنيل رضاء ثلة من الكتاب والمثقفين. وهو ما انعكس على مجمل الأنشطة الثقافية التي تقيمها المؤسسة الثقافية الرسمية، فاتسمت بالنمطية المعتادة، وحس دعائي كرنفالي، لا يؤسس لشيء حقيقي، ولا يعتد بتنوع الحوار، ودعمه بين شتى التيارات الأدبية والفنية.
تحت هذه المظلة تندرج معظم الندوات والمهرجانات التي يقيمها المجلس الأعلى للثقافة، وهو المؤسسة المنوط بها وضع استراتيجية للثقافة المصرية، وتفعيل أنشطتها بشكل بناء في شتى مناحي الإبداع. كما يندرج مؤتمر أدباء مصر والذي تقيمه الهيئة العامة لقصور الثقافة، وعقد دورته الثلاثين في مستهل ديسمبر الماضي بمدينة أسوان في جنوب مصر. المؤتمر يحتاج إلى إعادة هيكلة، تشمل طبيعته وأهدافه والقضايا التي يناقشها، وتنقيته من أجواء الشللية، بما يجعله فضاء مفتوحا بحيوية على شتى دروب الإبداع والعمل الثقافي المثمر.
ووسط هذا المناخ استعادت مكتبة الإسكندرية قدرا كبيرا من حيويتها بمجموعة من الأنشطة الثقافية المتنوعة والورش العملية المتخصصة، من أجل رسم مسار واضح ومكون للثقافة المصرية، سواء في واقعها المحلي، وتقاطعاتها مع الآفاق العالمية والعربية، كان من أبرزها مؤتمر حول «دعم التنوع الثقافي والابتكار في مصر»، وهو ختام لمشروع مشترك بين مكتبة الإسكندرية والاتحاد الأوروبي تم تطويره بهدف تنمية الجانب الثقافي في مصر، وكذلك مؤتمر «مستقبل الثقافة العربية»، والذي شارك فيه نخبة من الكتاب والباحثين والمفكرين العرب، وناقش قضاياها وواقعها في ضوء موجة الإرهاب التي تضرب كثيرا من الدول العربية، ولا تزال تعاني منها مصر.
أضف إلى كل هذا، أن المؤسسات الثقافية في مصر لا تزال تفتقر إلى أرشيف دقيق ومتطور يعتد به للكتاب والشعراء والنقاد والفنانين، يفعّل عملية التواصل الثقافي بأبعادها الإنسانية والاجتماعية، بينهم وبين هذه المؤسسات، ويساهم ضمنيا في خلق حالة من التفاعل الثقافي والشفافية مجتمعيا، خصوصًا مع تعاظم دور الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي الحديثة.
الكاتب خالد الخميسي، قدم في ندوة بيت السناري، طرحا مهما عن المشكلات التي تواجه الحركة الثقافية في مصر، مشيرا إلى أن كبرى هذه المشكلات هي عدم وجود تسجيلات أو إحصاءات للإنتاج الثقافي المصري، وعدد مقدميه، وأماكن وجوده، والفئات التي تقبل عليه، كذلك عدم وجود دورة مالية ثقافية في مصر. وأن الحل يكمن في ثلاث نقاط: إدراك الناحية الرقمية للواقع الثقافي المصري، وإعادة الدورة المالية الثقافية، وأن هذا لن يأتي إلا من خلال تمويلات الأفراد وليس المؤسسات، وأخيرًا كسر هيمنة الدولة والمؤسسات الرسمية والأمنية على الإنتاج الثقافي في مصر.
ومن أهم الإيجابيات في العام الفائت، عودة الروح إلى «بينالي القاهرة الدولي»، وهو بمثابة أقدم معرض شامل، تتلاقح في فضائه أنواع شتى من الفن (نحت - تصوير - فوتوغرافيا - غرافيك - فيديو - أعمال مركبة - المجسمات)، ويقام كل عامين وينظمه قطاع الفنون التشكيلية بوزارة الثقافة، ومنذ نحو عشر سنوات وفي نهاية عام 2006 عقد «البينالي» دورته العاشرة من 13 ديسمبر، واستمرت حتى 15 فبراير من عام، ثم توقف، نظرًا للظروف السياسية التي مرت بها البلاد، ولعدم توافر الميزانية المالية اللازمة لانعقاده.
وقبل أيام، وافق الكاتب الصحافي حلمي النمنم، وزير الثقافة، على عودة «بينالي القاهرة للفنون» لعام 2016، مؤكدا ضرورة إعداد الخطوات والترتيبات اللازمة لعودة «البينالي» بقوة بما يليق باسم مصر على الساحة الفنية الدولية.
وبروح جديدة انطلقت الدورة الثامنة لملتقى الأقصر الدولي للتصوير بجنوب مصر، في 14 ديسمبر (كانون أول) تحت قيادة الفنان القدير الدكتور مصطفى الذي يتولى «قوميسير الملتقى» للمرة الأولى، معلنًا عن رؤية مغايرة وتصورات عملية على المستويين النظري والتطبيقي، تدعم الملتقى وتفعل نشاطه، وتجعله فعلا فنيا جماعيا، تمتزج فيها متعة الرسم الشخصية للفنانين المشاركين، بمتعة المشاهدة واكتساب الخبرات من قبل الطلاب الذين يدرسون الفن في المعاهد والجامعات المصرية، وتحدوهم الأحلام في أن يصبحوا فنانين متميزين في المستقبل القريب.
كما كلفت اللجنة العليا للملتقى الدكتور أمل نصر، باعتبارها ناقدة متميزة، لتكون الناقد الفني المصاحب لهذه الدورة، وسوف تقوم بعمل كتاب موثق شامل لهذا الحدث الفني التراثي.
ينظم الملتقى «قطاع صندوق التنمية الثقافية»، ويشارك فيه 24 فنانا، منهم خمسة فنانين عرب من «المغرب، وسلطنة عمان، وتونس، والعراق، والسعودية»، إضافة إلى تسعة فنانين أجانب من «الأرجنتين، وألمانيا، ورومانيا، وإيطاليا، وإسبانيا، ومقدونيا، واليونان، وإثيوبيا، وماليزيا»، ومشاركة عشرة فنانين مصريين.
كما كرم الملتقى في هذه الدورة ثلاثة من الفنانين الذين أثروا الحياة التشكيلية في مصر والعالم وهم: الفنان جعفر إصلاح (الكويت)، والفنان أحمد عبد الوهاب (مصر)، والفنان دونغ غى يينغ (الصين).
ويبقى من الأشياء الجميلة في هذا المشهد المضطرب فوز الكاتبة المصرية سعاد سليمان بـ«جائزة الملك خوان كارلوس» الإسبانية الدولية لعام 2015، للقصة القصيرة جدًا، التي لا تتعدى المائة كلمة. وتسلمت الكاتبة، التي تشارك للمرة الأولى في المسابقة، جائزتها في حفل حضره ملك إسبانيا.
تقام هذه المسابقة برعاية مؤسسة «متحف الكلمة»، في إسبانيا لأصحاب الأعمال الأدبية للناطقين بخمس لغات، هي الإسبانية والعربية والإنجليزية والفرنسية والعبرية، ويشارك فيها أكثر من 119 دولة حول العالم سنويا.
كما فازت رواية «أداجيو» للكاتب إبراهيم عبد المجيد، ضمن روايات عربية بجائزة «كتارا» القطرية للرواية العربية.
المشهد الثقافي المصري: غياب رموز أدبية.. وعودة «بينالي القاهرة».. وصحوة لمكتبة الإسكندرية
شهد رحيل الخراط والأبنودي والغيطاني وفاتن حمامة وعمر الشريف
المشهد الثقافي المصري: غياب رموز أدبية.. وعودة «بينالي القاهرة».. وصحوة لمكتبة الإسكندرية
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة