إرهاب في صورة مختلفة.. وربما أكثر خطورة

المثلث العملاق: امتداد جغرافي مقلق للقوى المرتبطة بتنظيم القاعدة

أبو بكر البغدادي زعيم تنظيم {داعش}
أبو بكر البغدادي زعيم تنظيم {داعش}
TT

إرهاب في صورة مختلفة.. وربما أكثر خطورة

أبو بكر البغدادي زعيم تنظيم {داعش}
أبو بكر البغدادي زعيم تنظيم {داعش}

يبدو أن حالة النكران التي كان من الواضح أنها تهيمن على تقييم معظم القادة الأميركيين والأوروبيين لوضع تنظيم القاعدة خلال السنوات الثلاث الماضية قد انتهت؛ فقد أشار اثنان من كبار المسؤولين بالاستخبارات الأميركية خلال الشهر الماضي بوضوح أمام الكونغرس إلى أن التنظيم يشهد تحولا جذريا حيث تتزايد الجماعات التابعة له ويوسع نفوذه على الساحة العالمية. وبالمثل، تحدث رئيس المخابرات البريطانية الخارجية (إم آي 6)، جون سويرز، إلى البرلمان البريطاني قائلا: «علينا التعامل مع بزوغ تنظيم القاعدة وإنشائه لأفرع جديدة في عدد من البلدان الجديدة»، مضيفا: «ليس هناك أدنى شك أن الخطر يتزايد».
مما لا شك فيه أن هذه التقييمات مختلفة تماما عن النبرة التي كنا نستمع إليها قبل سنة على كلا جانبي الأطلسي، فقد ظهر الخطاب الذي يروج إلى أفول نجم تنظيم القاعدة في العواصم الغربية في بداية عام 2011، حيث بثت الشهور الأولى لما يطلق عليه الربيع العربي الأمل في نفوس المراقبين الغربيين وهم يشهدون آلاف المتظاهرين في أنحاء العالم العربي يقاتلون من أجل الديمقراطية ولا يتبنون شعارات «القاعدة» أو مثلها. وكانوا يقولون إن رسالة «القاعدة» منيت أخيرا بالهزيمة، مؤكدين أن الديمقراطيات التي ستبزغ من رماد الأنظمة الطغيانية لمبارك وبن علي والقذافي سوف تدفع العرب والمسلمين بعيدا عن قيم ذلك التنظيم.
بالإضافة إلى أن مقتل أسامة بن لادن في مايو (أيار) 2011 عزز ذلك الخطاب الحالم، حيث نظر إلى الواقعة باعتبارها المسمار الأخير الذي جرى دقه في نعش «القاعدة». ووفقا لهذا الخطاب، لم يمن التنظيم فقط بالهزيمة على المستوى الآيديولوجي عبر خروج جماهير المسلمين إلى الميادين للمطالبة السلمية بالديمقراطية. ولكن التنظيم أصبح أيضا على المحك حيث لم يعد بإمكان قياداته تنفيذ أي هجمات مؤثرة، بل إنهم أصبحوا يختبئون لحماية أنفسهم. وبناء عليه فإن الحرب على الإرهاب (الذي أصبح ينظر إليه باعتباره مصطلحا بائدا وعتيق الطراز) يمكن أن يستبدل بها عمليات متفرقة محدودة النطاق تستهدف أفرادا أو جماعات محددة؛ فقد كان الغرب الذي رزح تحت وطأة عقد كامل من المواجهات العسكرية والسياسية تواقا لتقليل خطر إرهاب «القاعدة» إلى المستوى الذي كان عليه قبل الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) والذي كان يقتصر على كونه إزعاجا ومسألة تتعلق بإنفاذ القانون ليس لها سوى أهمية ثانوية. وتزعم أوباما، الذي كان دائما ما يعرب عن انتقاده الواضح لرد الفعل الأميركي المبالغ فيه في أعقاب هجمات 11-9 ويؤكد على رغبته في توجيه الاهتمام إلى الاقتصاد المحلي والأجندة الاجتماعية، ذلك الاتجاه. وبالمثل كان الأوروبيون الذين تأثروا على نحو أكبر بالأزمة المالية والتوترات الناجمة عن الحرب على الإرهاب داخل جالياتهم المسلمة، تواقين لتقليل أهمية القضية.
القوى المرتبطة بـتنظيم القاعدة
ومع ذلك، حذر الكثيرون، بداية من وكالات الاستخبارات الغربية وصولا إلى القيادات العربية، من ذلك التفكير الحالم، وأثبتت أحداث العام ونصف العام الماضي أنهم كانوا محقين في تلك التحذيرات. ومع ذلك، حاول المسؤولون الأميركيون تصوير حقيقة أن القوى المرتبطة بـ«القاعدة» تستحوذ على مساحات واسعة من الأراضي في الصحراء الكبرى واليمن باعتبارها نكسات مؤقتة للربيع العربي. كما حاولوا أيضا التقليل من شأن هجمات سبتمبر 2012 على القنصلية الأميركية في بنغازي التي أسفرت عن مقتل السفير ستيفنز باعتبارها أعمال شغب عفوية ضد فيلم مسيء للإسلام. ولكن تلك الحالة من النكران لم تعد قابلة للاستمرار في ظل الأخبار التي تتردد يوميا من جميع أنحاء العالم والتي تؤكد أن تنظيم القاعدة في حالة تعاف.
والحقيقة هي أن تنظيم القاعدة يشهد ازدهارا يمتد جغرافيًّا من السواحل الأطلسية لأفريقيا ويمتد إلى كبرى مدن باكستان بالإضافة إلى بعض المناطق المتفرقة في الغرب.
وربما تكون أكبر المكاسب التي حققها التنظيم تلك التي كانت في القارة الأفريقية، حيث تنشط الجماعات المرتبطة بـ«القاعدة» في المثلث العملاق الذي تحده من الشرق سيناء وتنزانيا، وتحده نيجيريا وموريتانيا من الغرب. فقد تمكنت الكثير من الجماعات الجهادية من توسيع نشاطاتها في تلك الحدود الواسعة والغامضة التي لا تحظى بحماية أمنية، مستفيدة من الاضطرابات السياسية والفقر والموارد المحدودة للحكومات التي تهددها. ورغم هزيمتها على يد الجيش الفرنسي في مالي، ما زال تنظيم القاعدة في المغرب الإسلامي وفروعه يجوب أنحاء الصحراء الأفريقية محققا المكاسب من الكثير من الأنشطة غير القانونية، ومدد الأسلحة الليبية الذي سهل الحصول عليه بعد سقوط القذافي. وقد أظهر هجوم يناير (كانون الثاني) 2013 على مجمع البترول بأميناس بوضوح أنه حتى أقوى الدول بالمنطقة، وهي الجزائر، يمكنها أن تتعرض لضربات حادة من التنظيم. وبالمثل، كانت الحكومة التونسية تخوض معركة شرسة ضد الميليشيات الجهادية العاملة في الجبال.
وبالاتجاه شرقا، نجد الكثير من الميليشيات الجهادية التي تمارس نفوذا قويا في جميع أنحاء ليبيا خاصة في منطقة «درنة» وتمثل خطرا جديا على الحكومة الوطنية الهشة. وتشير التطورات الأخيرة إلى أن الجماعات الجهادية تعزز أنشطتها في مصر، حيث لم تعد تهاجم فقط المنشآت الحكومية، ولكن أنشطتها امتدت إلى السائحين في إعادة إنتاج للآليات الكارثية التي كانت تمارسها في التسعينات من القرن الماضي. وفي أفريقيا جنوب الصحراء، تمثل آليات التنظيم القدر نفسه من الخطر. فرغم أن حركة الشباب لم تعد تسيطر على مقديشو وقطاعات واسعة من البلاد فإنها ما زالت قادرة على أن تمثل خطرا محدقا سواء داخل الصومال وفي الدول المجاورة (كما حدث في هجوم سبتمبر 2013 على المركز التجاري «وستجيت» بنيروبي). وفي نيجيريا، يبدو أن السلطات غير قادرة على السيطرة على «بوكو حرام» وعمليات القتل الواسعة التي تمارسها ضد المدنيين المسلمين والمسيحيين.

* «القاعدة القديمة»

* وليس من الصواب أن ننظر إلى كل هذه الجماعات باعتبارها تابعة لتنظيم القاعدة، حيث إن درجة ولاء تلك الجماعات للتنظيم الذي يقوده حاليا أيمن الظواهري تتفاوت إلى حد كبير، كما أن لكل منها أجندتها المحلية التي تعتمد على تكتيكات مختلفة. ولكن في الوقت نفسه، تتعاون تلك الجماعات من وقت لآخر بعضها مع بعض كما تتبنى جميعها آيديولوجيا التنظيم ورؤيته العالمية. ويبدو أن عدم القدرة على استيعاب هذه الفكرة الأخيرة هو ما دفع الكثيرين في الغرب إلى تبني الرؤية المتفائلة المتعلقة بأفول تنظيم القاعدة.
وبالفعل، وكما كان أوباما يكرر بحماس لسنوات طويلة، فإن تنظيم القاعدة في حالة تراجع. ولكن ذلك صحيح فقط فيما يتعلق بـ«القاعدة القديمة»؛ تلك الجماعة المنظمة التي نفذت عمليات 11-9 والتي تعرضت لأزمة كبرى إثر عدد لا يحصى من عمليات القوات الخاصة وهجمات الدرون في أفغانستان وباكستان. ولكن سيكون من الحمق أن نتجاهل حقيقة أن «القاعدة الجديدة» هي لغم غير مركزي من الجماعات الحرة التي تتبنى آيديولوجيا «القاعدة» وترى نفسها جزءا من الحركة العالمية التي يبدو أيضا أن الظواهري لا يملك سوى قدر محدود من السيطرة عليها. وفي هذا السياق يمكننا القول إن تنظيم القاعدة في طريقه إلى الأفول، ولكن «القاعدية» في طريقها للازدهار.
ورغم أن البعض يرى أن انعدام القيادة المركزية هو أحد دلالات ضعف التنظيم، يبدو أن الجهاديين لا ينظرون للأمر على النحو نفسه؛ ففي عام 2000، قال أبو مصعب السوري، الذي يعد أحد أهم المنظرين للحركة الجهادية خلال السنوات العشرين الماضية، إن تنظيم القاعدة ينظر إليه ككيان مؤقت، حيث إن وجوده مؤقت بغرض خلق المزيد من الجماعات الجهادية المستقلة في جميع أنحاء العالم، مضيفا: «القاعدة ليس تنظيما، وليست جماعة، ونحن لا نريدها كذلك. القاعدة دعوة ومرجع ومنهج».
وعلى نحو ما، جرى تحقيق ذلك الهدف؛ حيث إن كل جماعة تعمل تحت مظلة «القاعدة» تتحرك محليا وتفكر عالميا وتركز معظم قواها على قتال الأعداء المحليين، ولكنها في الوقت نفسه تشن هجمات على المصالح الغربية وتتبنى فكرة إنشاء الدولة الإسلامية العالمية.
ويبدو أن تأسيس الدولة، على الأقل على المستوى المحلي، هو هدف كل الجماعات المرتبطة بتنظيم القاعدة. وفعليا، أشار الظواهري في كتابه الصادر في عام 2011 تحت عنوان «فرسان تحت راية النبي» إلى تأسيس الدولة باعتباره أكثر الأهداف الاستراتيجية أهمية بالنسبة لتنظيم القاعدة. وخلال السنوات القليلة الماضية في الصومال وشمال مالي، وفي مقاطعة أبين اليمنية، كلما سنحت فرصة نتيجة الفراغ السياسي، استحوذت الجماعات الجهادية على بعض المناطق وأعلنت على الفور تشكيل إمارة بها.
ولتحقيق ذلك الهدف، تحولت الكثير من الجماعات التابعة لتنظيم القاعدة من كونها جماعات إرهابية تعمل عبر خلايا صغيرة تختبئ في الكهوف أو في المباني السكنية إلى قوات منظمة شبه عسكرية تشارك في التمرد. واليوم، وبفضل عملية التحول تلك وضعف القوى التي تواجهها، تمكنت القوات الجهادية من السيطرة على مساحات من الأراضي أكثر مما حدث في أي وقت سابق.
وفي الوقت نفسه، يبدو أن كل تلك الجماعات ترتكب الخطأ نفسه، ففور تمكنها من السيطرة على مساحة من الأراضي، سرعان ما تفقد تلك الجماعات الدعم الذي كانت تحظى به في البداية من السكان المحليين نظرا لفرضها تطبيق تفسيرها المتشدد من الشريعة بالقبضة الحديدية. وكان ذلك الخطأ، الذي جعل تنظيم القاعدة يفقد دعم القبائل السنية في الأنبار في 2006، يتكرر مرارا وتكرارا. وكان آخر تكرار لذلك الخطأ هو ما حدث في شمال سوريا حيث أدت الأساليب الوحشية التي اتبعتها «الدولة الإسلامية في العراق والشام» ليس فقط إلى إثارة غضب الشعب السوري لها، بل حتى الجماعات الأخرى التابعة لتنظيم القاعدة مثل جبهة النصرة والظواهري نفسه.

* أخطاء الماضي

* ومن جهة أخرى، أثبت التاريخ أن الحركات الجهادية العالمية قادرة على التكيف والوعي بأخطاء الماضي؛ فقد كشفت الوثائق التي كشف عنها بعد سقوط مدينة تمبكتو المالية العام الماضي عن أن قيادة تنظيم القاعدة في المغرب الإسلامي كانت تجري تحليلا استراتيجيا نقديا للأخطاء التي ارتكبتها في محاولتها تأسيس دولة في مالي؛ حيث كتب زعيم التنظيم أبو مصعب عبد الودود حول الدولة الإسلامية: «إن الطفل الحالي ما زال في الأيام الأولى يحبو ولم يقف بعد على قدميه. فإذا ما أردنا لذلك المولود أن يقف على قدميه في هذا العالم الذي يعج بالأعداء الذين يتحينون فرصة للقضاء عليه يجب أن نخفف أعباءه ونأخذ بيديه ونساعده وندعمه حتى يتمكن من الوقوف». ثم سرعان ما تبنت الجماعة توجها أكثر حنكة فيما يتعلق بالحوكمة والشريعة. وبالمثل، فإن تنظيم القاعدة في شبه الجزيرة العربية كان يحاول منذ زمن بعيد تأسيس علاقات طيبة مع الكثير من القبائل اليمنية خاصة عبر الزواج. وفي ديسمبر (كانون الأول) الماضي وفي محاولة واضحة لتحسين صورتها بعد الكثير من الزلات، أعلنت الجماعة عن اعتذارها الرسمي عن مقتل المدنيين في الهجوم الذي شنته على المستشفى الملحق بوزارة الدفاع اليمنية.
لقد أقر الغرب أخيرا بأن تلك التطورات تعني أن تنظيم القاعدة لم ينهزم سواء على المستوى الآيديولوجي أو العملياتي، بل إنه غير شكله فقط إلى صورة مختلفة وربما أكثر خطورة. وأصبح من الواضح أن بعض الحركات التابعة للتنظيم تمثل خطرا وجوديا لمصالح الغرب وبعض حلفائه الرئيسين في العالم الإسلامي. كما أصبح من الواضح أن الأمن القومي للغرب ما زال معرضا للخطر، سواء خطر الأفراد الذين لا تربطهم صلة عملياتية بالجماعات التابعة لـ«القاعدة» ولكنهم يتبنون آيديولوجيتها (كما يتضح من حالة الإخوة تسارنييف المسؤولين عن العمليات التفجيرية بماراثون بوسطن) أو من الأفراد الذين يعودون للغرب بعد القتال إلى جانب الجماعات الجهادية (وهو ما يمكن أن يحدث بالنسبة لنحو ألفي أوروبي يقاتلون حاليا في سوريا).
ولن تتحسن قدرة الغرب على التقييم الصحيح لوضع تنظيم القاعدة إلا إذا قلل من الاهتمام الذي يوليه لتكتيكات الجماعة وركز على المناحي الآيديولوجية للحركة. وكما قال السوري، فإن جوهر «القاعدة» لا يعتمد على الأسلحة والتكتيكات العسكرية ولكنه يعتمد على الآيديولوجيا. وكما قال مايك روجرز، رئيس لجنة الاستخبارات الأميركية بمجلس النواب الأميركي والمنتقد الشرس لمقاربة إدارة أوباما تجاه الإرهاب، «فإن هزيمة الآيديولوجيا تتطلب ما هو أكثر من الهجمات بالدرون».

* باحث وكاتب إيطالي، خبير أكاديمي وأمني متخصص في الإسلام والعنف السياسي في أوروبا
وشمال أميرك



السجن السوري الكبير... بيروقراطية القتل و«بازار» الابتزاز

TT

السجن السوري الكبير... بيروقراطية القتل و«بازار» الابتزاز

منير الفقير عضو مؤسس «رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا» في جولة على سجنه مع «الشرق الأوسط»
منير الفقير عضو مؤسس «رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا» في جولة على سجنه مع «الشرق الأوسط»

«أمي أصرت على أن ترافقني في زيارتي الأولى لزنزانتي في سجن صيدنايا وزوجتي اتصلت من تركيا لتجعلني أقسم ألا أذهب من دونها... وأنا حقيقة ما زلت غير قادر على مواجهة هذا المكان. لا بمفردي ولا مع شاهد آخر على مأساتي».

هكذا اعتذر لنا منير الفقير، الناجي من الاعتقال في أفرع الأمن وفي سجن صيدنايا والشريك المؤسس في «رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا»، عن عدم زيارة زنزانته التي كانت مقررة في صباح ذلك اليوم الدمشقي.

«في البداية تشجعت أن نذهب معاً» قال: «ولكنني فعلياً غير قادر على استعادة هذا الكابوس الآن. هناك فيض من المشاعر التي لا أعرف التعامل معها... استشرت صديقاً نصحني بألا أقوم بهذه الزيارة قبل أن أحصّن نفسي وأكون على أتم الاستعداد».

وبعد برهة صمت استدرك: «لكن كيف يستعد الإنسان للقاء كهذا؟».

منير الفقير عضو مؤسس «رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا» في جولة على سجنه مع «الشرق الأوسط»

لم نصر على الزيارة بطبيعة الحال. فالأيام القليلة التي سبقت الوصول إلى دمشق، وما نشر عن ذلك المكان السيئ السمعة من معلومات دقيقة أو مبالغة (بلا مبرر)، كفيل بإيقاظ أي صدمة مهما اندملت أو طوته الذاكرة. فكيف والجرح طري والألم مقيم. كذلك فإن الدفق الهائل من الروايات الفردية والجماعية عن هذه التجربة المروعة، الذي لم يترك تفصيلاً إلا وتناوله في وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي كان ليجعل أي إصرار في غير صوابه.

سجن صيدنايا رأس جبل الجليد

إلى ذلك، فإنه يستحيل اختزال التجربة السجنية في سوريا على مدى الخمسين عاماً الماضية في سجن صيدنايا وحده، على فرادة التجربة لا شك، وذلك لكونه رأس جبل جليد دونه أفرع أمنية ومعتقلات وسجون كثيرة لا تقل رعباً وقسوة.

وإذا كان من نموذج لـ«الناجي المطلق» في ذلك الجحيم كله، فهو منير الفقير، المهندس ابن دمشق، الذي تنقل لأكثر من سنتين بين عدة محطات اعتقال بدءاً بالفرع 215، «سرية المداهمة» التابع للأمن العسكري، مروراً بالفرع 215 والمستشفى العسكري 601 المعروف بـ«المسلخ»، حيث التقطت صور «قيصر»، وصولاً إلى المسلخ الكبير... صيدنايا.

مدخل الفرع 215 «سرية المداهمة» التابع للأمن العسكري السوري كما بدا منتصف ديسمبر 2024 (الشرق الأوسط)

وقد يكون أول سؤال يتبادر إلى الذهن هو كيف نجا منير، وكيف خرج حياً بعد كل ذلك، فيقول: «المعجزة أنني خرجت حياً من الفرعين الأولين. أما وقد وصلت إلى صيدنايا، وريثما علم أهلي بمكاني فقد كان بزنس الابتزاز انتعش. وحاولت عائلتي كغيرها من عائلات كثيرة إخراجي مقابل المال... وكنت محظوظاً أنه تم لي ذلك». ولعل اللافت أن رئيس المحكمة الميدانية، اللواء محمد كنجو حسن الذي حكم على منير بالترحيل إلى صيدنايا في جلسة محاكمة لم تتجاوز دقيقتين، كان هو نفسه من صادق على خروجه بعد تقاضي رشوة كبيرة عبر شبكة ابتزاز تعمل لصالحه.

هذا علماً أن منير لا يزال حتى الساعة جاهلاً بتهمته. ويقول: «لا أعلم حتى الآن ما هي التهمة الموجهة إليّ ولم أعلم حينها بمدة الحكم أو إذا كنت سأعدم. طوال الفترة التي قضيتها لم أبلّغ بشيء وممنوع أن أسأل. كنت فقط أحاول الاستنتاج من طبيعة الأسئلة الموجهة لي. لكنني لم أعلم شيئاً».

المعتقلون و«بازار» الابتزاز

يوضح منير أن هناك 3 أنواع من حالات الإفراج. الحالة النادرة جداً وهي العفو الرئاسي، وحدث أن منح بشار الأسد عفواً في حالات استثنائية ولأشخاص معينين. والحالة الثانية هي التبادل أي تبادل معتقلين بمعتقلين لدى أطراف أخرى، وهي أيضاً نادرة.

منير الفقير عضو مؤسس «رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا» يزور سجنه بالفرع 215 في دمشق (الشرق الأوسط)

أما الحالة الأبرز والأكثر شيوعاً فهي الابتزاز المالي. ويقول منير: «كان لدى كنجو حسن الذي يملك ثروة طائلة وعقارات، سماسرة يرصدون الصيد الثمين من المعتقلين فيتواصلون مع الأهالي وبشكل رئيسي الأمهات ثم بدرجة ثانية مع الزوجات والأخوات».

وأضاف: «نحن في رابطة صيدنايا رصدنا هذا الموضوع، وقمنا بنشر تقرير توعوي للأهالي حول شبكات الابتزاز وقدرنا المبالغ المالية التي حصلت عليها شبكات الابتزاز الأمنية بنحو مليار دولار للفترة الممتدة بين 2011 حتى 2020». وتابع أن «منظمات حقوقية أخرى قدرت المبالغ بأكثر من ذلك، لكننا رصدنا الحد الأدنى الذي استطعنا توثيقه بناء على عينة إحصائية وليست عينة مسح».

وتعمل تلك الشبكات بإحياء أمل الأمهات باستعادة المفقود وإثارة خوفهن من خسارة ابن آخر «لينطلق البازار»، على ما يقول منير، ويبدأ إرسال المال مقابل معلومات أو إشارات شحيحة عن المفقود ريثما لا يعود لدى «الزبون» ما يقدمه؛ فإما أن يتم الإفراج فعلياً عن المعتقل وإما أن يصبح الرقم خارج التغطية، أو تُبلغ العائلة بأن الوقت قد فات وأن الابن لم يعثر عليه أو أنه ربما مات.

وهنا محظوظة هي العائلة التي تمنح شهادة وفاة أو جثة تدفنها، وغالباً ما يتم ذلك مقابل إجبارها على توقيع شهادة وفاة تقول إن الموت جاء لأسباب طبيعية أو صحية أبرزها توقف القلب أو الاحتشاء أو الفشل الكلوي، علماً أن الشائع هو تسجيل من دون حتى إبلاغ العائلة ولا حتى تسليم جثة.

الموت والتغييب كإجراء إداريّ

«لا شيء متروك للصدفة»، يقول منير ونحن نقف داخل مكتب السجلات في الفرع 215: «كل شيء مسجل ومؤرشف. وهذا جزء من نجاحهم في إطباق القبضة الأمنية. فمهما كان عدد المعتقلين ضخماً ومهما كان الازدحام في الزنزانات شديداً، يمكنهم بلحظة سحب الملف وسحب السجين من أي مهجع أو زنزانة».

وبالفعل، شملت سجلات الجرد التي ملأت الرفوف واطلعنا على بعضها، تفاصيل دقيقة عن الأشخاص ومقتنياتهم وأوراقهم الثبوتية وكل ما تتم مصادرته منهم حين توقيفهم. وكان هناك عدد كبير جداً من جوازات السفر المحفوظة، وعلمنا لاحقاً أنها تستخدم لنصب الأفخاخ. فأصحابها غالباً لا يعلمون أنهم مطلوبون لفرع أمني حين يتقدمون باستخراجها أو بطلبات تجديدها، وحين تنجز ويذهبون لتسلّمها يتم اقتيادهم إلى الفرع.

وثائق وأوراق ثبوتية ومقتنيات معتقلين مبعثرة ومنهوبة بقاعة المحفوظات في الفرع 215 بدمشق (الشرق الأوسط)

ومن «الأمانات» التي وقعنا عليها في قاعة المحفوظات تلك، كتاب «الاستخبارات المركزية الأمريكية: غول وعنقاء وخل: ماذا فعلت؟» لمحمود سيّد رصاص، وأحذية لأطفال ويافعين، وبطاقة هوية عليها صورة فتى لم يتجاوز سنوات مراهقته الأولى، وكثير من علب المهدئات العصبية ومسكنات الألم بتركيبة الكوديين.

أما من نعتقد أنهم «منسيون» في الأفرع والمعتقلات وبعضهم من جنسيات غير سورية أيضاً، فينطبق عليهم المبدأ نفسه بأن لا شيء متروك للصدفة. فبحسب ما يشرح منير، هناك نوعان من العبارات التي تكتب على إضبارات المعتقلين الذين يتخذ قرار «نسيانهم» أو عملياً قرار إخفائهم قسرياً: العبارة الاولى هي «يحفظ ويذكّر به» وتعني أنه يتعين على السجان تذكير مسؤول الفرع بالمعتقل في فترات متباعدة. والعبارة الثانية هي «يحفظ ولا يذكر به» فيعطى رقماً ويصبح بالإمكان إما الإبقاء عليه أو تصفيته.

قاعة إعدام وكابوس البطانيات

غادرنا قسم العمل البيروقراطي والإداري المتقن وهبطنا إلى الطوابق السفلية. هنا المهاجع والزنزانات المنفردة وقاعة تدريب على الرماية تحولت مكان اعتقال جماعي وتعذيب في فترات الذروة، ثم مسرحاً لإعدامات ميدانية وثقتها الرابطة ومنظمات حقوقية ومنحت الفرع 215 برمته سمعته بأنه «فرع الموت». لا يزال المكان يعبق بما شهده من فظاعات. ولا تزال الجدران السوداء في قاعة الإعدام تلك سقفها يحمل تركات ماض ليس ببعيد. الرائحة تثير الإعياء.

فجأة انتابت منير فورة غضب عارم فراح يضرب باب زنزانته برجليه ويديه حتى كاد يدميها. ثم تماسك، وغالب دموعه وتابع المسير.

مهجع في معتقل الفرع 215 بدمشق

في بعض المهاجع كانت بقايا خبز وعلب لبن فارغة وحبات طماطم تآكلها العفن مرمية على الأرض المتسخة أو فوق بطانيات رثة هي كل ما يشكل أثاث هذه القاعات. لا شيء إلا الجدران والبطانيات وحفرة صحية مكشوفة لقضاء الحاجة. على الجدران كتابات تخطر ببال ولا تخطر، محفورة بالأظافر أو أغطية علب اللبن. مناجاة وأسماء وتواريخ ومعادلات رياضية معقدة يقول منير إنها تهبط على الشخص في لحظات صفاء الذهن المطلق كما يحدث في السجن.

البطانيات التي يحمل بعضها دمغة «مفوضية اللاجئين» التابعة للأمم المتحدة (UNHCR) وتشكل الأثاث الوحيد في هذه القاعات المغلقة تستخدم لأي شيء وكل شيء حتى أصبحت بؤرة جراثيم وبكتيريا وقمل تتسبب بتقرحات ونقل أمراض وعدوى بين المعتقلين خصوصاً في حالات الجروح المفتوحة. وليس نادراً أن تتفشى الغرغرينا في مهجع ما لأسباب كثيرة، أحدها هذه البطانيات نفسها. ويقول منير: «أحياناً كثيرة يموت سجين فيتركونه هنا لساعات أو أيام، بين رفاقه الأحياء، جثة ملقية على هذه البطانيات التي يعاد استخدامها لأغراض أخرى».

في آخر الرواق ليس بعيداً من القاعات الجماعية التي لا تتجاوز مساحتها 35 متراً مربعاً ويحشر فيها 200 شخص أو أكثر أحياناً بحسب المواسم، تصطف المنفردات فتبدو كأنها قبور منتصبة لا يمكن أن تتسع لحركة آدمي. ولكنها، وعلى الرغم من ذلك تبقى «مرتجى» كثيرين لأنها تبعد عنهم ولو قليلاً رعب البطانيات ذاك.

زنزانة منفردة في الفرع 215 بدمشق (الشرق الأوسط)

الرعب المعمّم خارج السجن

لعل أحد أوجه القسوة والترهيب المعمم في سوريا على مدى العقود الماضية، يكمن في اختيار مواقع هذه المعتقلات بين الأحياء السكنية في دمشق وتفرعات الشوارع كأنما لفرض التطبيع مع العنف الدائر داخلها. فإذا كان سجن صيدنايا بعيداً عن العين والمخيلة اليومية للناس العاديين، فإن هذه الأفرع تنتشر وسط العاصمة بمحاذاة حياة «طبيعية»، تجري خارجها.

فللوصول إلى الفرع 215 الواقع ضمن المربع الأمني بين حي كفرسوسة والمزة، الذي شكل المحطة الأولى في رحلة الاعتقال المستعادة مع منير، مررنا عبر «أوتوستراد المزة» الشهير وانعطفنا قليلاً ثم دخلنا من بوابة مفتوحة على الشارع كأننا نتوجه إلى أي دائرة حكومية في فضاء عام. ثم لدى انتهائنا من الزيارة وخروجنا من ظلمة السراديب إلى ضوء النهار، بدت فجأة من الجهة الخلفية مبانٍ إدارية تطل نوافذ مكاتبها على باحات هذا المكان، وكأننا بالموظفين يسترقون النظر إليه خلال استراحات القهوة والسجائر ثم يعودون هم أيضاً إلى عمل بيروقراطي متقن آخر.

وعلى الجانب الآخر، ثمة مبانٍ سكنية لها شرفات مظللة ضاقت بالغسيل المنشور عليها وتطل بدورها على الفرع. حمل مشهد الغسيل ألفة غامرة وخوفاً في آن.

عندها تصدق قصص كثيرة عن عائلات غيرت سكنها وباعت بيوتها لتتخلص من هذه الجيرة الثقيلة، ولعجز أفرادها عن الاستمرار في سماع صوت التعذيب المتسلل إلى غرف المعيشة وحجرات المنام.

كتاب «الاستخبارات المركزية الأميركية: غول وعنقاء وخل: ماذا فعلت؟» ضمن أمانات المعتقلين بالفرع 215 في دمشق (الشرق الأوسط)

«قسم الرضوض»... وصور قيصر

يفيد تعميم مسرب منتصف 2018، ومؤرخ في 18/12/2012 صادر عن رئاسة فرع المخابرات العسكرية بأنه «يطلب من جميع الأفرع الأمنية الخاضعة لها الإبلاغ عن وفاة أي سجين، في اليوم نفسه وإبلاغ رئيس الفرع شخصياً عبر (التلغرام) مع ذكر سبب الاعتقال ونتائج التحقيق وسبب الوفاة».

هذه وثيقة تستخدمها اليوم مجموعات حقوقية لمقاضاة الجناة دولياً، وتعدّ اعترافاً صريحاً بوقوع الوفيات، لكنها أيضاً إقرار بأن تلك الوفيات بأعدادها الهائلة، تجري بمعرفة وقرار مباشر من أعلى هرم القيادة.

ويعد الفرع 215 السابق الذكر محطة أساسية في «خط الإنتاج» ذاك، يليه «قسم الرضوض» في مستشفى المزة العسكري (يوسف العظمة سابقاً) المعروف بالـ601، «حيث يتم تخريج الوفيات بطريقة طبية أو يتم الإجهاز على المرضى بشكل طبي أيضاً»، بحسب ما يقول منير.

وكان «قسم الرضوض» استحدث بعد الثورة في 2011 ضمن المبنى القديم للمستشفى الذي يعود إلى حقبة الانتداب الفرنسي لـ«معالجة» المعتقلين بعدما ارتفعت وتيرة التعذيب والقتل بشكل منهجي في الأفرع وأعداد الضحايا، وبرزت حاجة لـ«تصريف» الجثث وتخفيف الاكتظاظ. وذلك بالتزامن مع جعل «قسم الرضوض» مكاناً إضافياً للتعذيب «الطبي» هذه المرة، ثم حفظ الجثث وأرشفتها وترقيمها، وأبرزها تلك التي ظهرت في صور قيصر وتم تصويرها في باحة هذا المكان.

ويشرح منير دور الطاقم الطبي فيقول: «المشرفون على قسم الرضوض هم بشكل أساسي أمنيون وأطباء عسكريون، فالقسم يخضع لإدارتين أمنيتين هما: الأمن العسكري والأمن الجوي لكل منهما عزرائيل كما كنا نسميهما، لأنهما كانا كثيري القتل والتفنن به».

صور مفقودين عُلقت على جدران مستشفى المزّة العسكري - 601 في دمشق (الشرق الأوسط)

وبحسب منير، وهو ما تمت مقاطعته من مصادر أخرى أيضاً، كان عدد غير قليل من الأطباء والممرضين وحتى الممرضات متواطئين إلى حد بعيد مع العسكريين فكانوا «يرشدونهم» إلى طريقة ضرب تؤدي إلى نزف داخلي مثلاً أو فشل كلوي أو اختناق من دون أن تظهر بالضرورة على الجسد آثار تعذيب واضحة، ما يسهل تبرير سبب الوفاة في السجلات الرسمية، وتسجيلها وفاة طبيعية لتكتمل دورة العمل الإداري والبيروقراطي الدقيق.

لم يكن ممكناً دخول المستشفى لمعاينة «قسم الرضوض» الذي رقد فيه منير لفترة وقد كان في حالة سيئة جداً وخسر وزناً كثيراً. فقد أغلق المكان وتحول إلى مقر شبه عسكري تابع لـ«الهيئة». عند السور الحجري الكبير، علقت عشرات صور المفقودين وأسماؤهم وأرقام هواتف ذويهم علّ أحداً يتعرف عليهم أو يمكنه الإفادة بمصيرهم.

خلال انتظارنا لنحو ساعتين عند البوابة الرئيسية للمشفى، توافدت سيارات كثيرة بطلبات مختلفة من تسليم سلاح فردي، ومراجعين لأقسام طبية لم تعد موجودة، إلى موظفة سابقة تريد استعادة أغراض شخصية من مكتبها مقابل أن تسلم مفتاحها. كغيرها، عادت أدراجها خائبة، فوحده تسليم السلاح لقي تجاوباً وترحيباً من العناصر المسلحة.

أما منير، وقبل أن يعود إلى احتفالات ساحة الأمويين، توقف طويلاً عند لوحة رفعت على المدخل الرئيسي تقول: «إدارة المشفى تتمنى لمرضاكم الشفاء العاجل».

لافتة الاستقبال عند مدخل مستشفى المزّة العسكري - 601 في دمشق حيث جرت عمليات تعذيب وتصفية (الشرق الأوسط)