الجمهوريون والرقص السياسي على قضايا الإرهاب

هجمات باريس وكاليفورنيا الإرهابيتين دفعتا الناخبين بالحزب إلى اختبار مدى جدية المرشحين في محاربة التطرف

الجمهوريون والرقص السياسي على قضايا الإرهاب
TT

الجمهوريون والرقص السياسي على قضايا الإرهاب

الجمهوريون والرقص السياسي على قضايا الإرهاب

تدخل معركة ترشيحات الحزبين الجمهوري والديمقراطي لانتخابات الرئاسة الأميركية المقررة في مطلع نوفمبر (تشرين الثاني) 2016 بداية الاختبارات الجماهيرية على مستوى الولايات، اعتبارًا من شهر فبراير (شباط) المقبل في ولاية آيوا، وهي ولاية زراعية متوسطة الحجم تقع في المنطقة المعروفة تاريخيا بالغرب الأوسط إلى الغرب من ولاية إيلينوي (حيث تقع مدينة شيكاغو). وحاليًا، بينما تبدو وزيرة الخارجية و«السيدة الأولى» السابقة هيلاري كلينتون المرشحة الأوفر حظًا بوضوح في سباق المرشحين عن الحزب الديمقراطي، تزدحم ساحة الجمهوريين بالمرشحين الذين يشكك كثرة من المراقبين في أن يحافظ كل منهم على مواقعه خلال الأسابيع والأشهر الأولى من الحملة. والملاحظ خلال الفترة الماضية بروز مرشحَين من خارج الطبقة السياسية التقليدية نجحا عبر خطبهما المتطرفة والمثيرة للجدل في لفت الأنظار إليهما، وإكسابهما نسبة لا بأس من التأييد على حساب الساسة الجمهوريين التقليديين، ولا سيما من وجوه مجلسي الكونغرس وحكّام الولايات.

تتزايد سخونة الجدل السياسي في سباق معركة الرئاسة الأميركية مع وجود مرشح جمهوري يميني متطرف على غرار الملياردير دونالد ترامب، قادر على إثارة الجدل واختلاق المعارك، وتصدر عناوين الصحف وعناوين الأخبار بتصريحاته الاستفزازية التي تأتي أحيانا غبية تنم عن جهل وسطحية، وأحيانا غائبة عن الواقع، ناهيك بأنها في معظم الأحيان مسيئة وتتسم بالعنصرية الفظّة.
ولقد أطلق ترامب جولة جديدة من التصريحات المثيرة للجدل، مساء الاثنين خلال ملتقى انتخابي بولاية ساوث كارولينا، داعيًا إلى منع المسلمين كافة من دخول أراضي الولايات المتحدة. إذ قال ترامب الذي يتبوأ راهنًا مرتبة متقدمة في استطلاعات الرأي العام بين الجمهوريين: «أقول لكم إن دونالد ترامب يدعو لمنع تام وكامل للمسلمين من دخول الولايات المتحدة حتى يتسنى للمشرعين معرفة ما الذي يجري»، وذلك في إشارة إلى المنفذين المسلمين لجريمة سان برناردينو (بولاية كاليفورنيا) الذين يشتبه في تعاطفهم مع تنظيم داعش. وأضاف المرشح اليميني المثير للجدل: «لا يمكن لبلادنا أن تظل ضحية لهجمات بشعة يشنها أشخاص لا يؤمنون إلا بـ(الجهاد)، وليس لديهم أي احترام للحياة البشرية»، على حد زعمه.
ومن جهة ثانية، قال كوري ليفاندوفسكي، مدير حملة ترامب الانتخابية، إن «حظر دخول المسلمين (الذي ينادي به ترامب) للولايات المتحدة لا ينطبق فقط على الأجانب الذين يتطلعون للهجرة إلى الولايات المتحدة فحسب، بل ينطبق أيضًا على المسلمين القادمين كسياح». وادعى ليفاندوفسكي أن استطلاع رأي – أجراه مركز غير معروف – يشير إلى أن «ربع المسلمين الذين يعيشون في الولايات المتحدة يعتقدون أن العنف ضد الأميركيين هو جزء من (الجهاد) الإسلامي وله ما يبرّره!».
وحقًا، أعرب كثيرون من أنصار ترامب عن موافقتهم على اقتراحه عبر مواقع التواصل الاجتماعي، معبّرين عن المخاوف المتزايدة التي تنامت خلال الأسابيع الماضية من تهديدات «داعش» ضد الولايات المتحدة، وكذلك في أعقاب هجمات العاصمة الفرنسية باريس الدامية في الثالث عشر من نوفمبر الماضي، وفي أعقاب جريمة سان برناردينو الجماعية التي أسفرت عن مقتل 14 شخصًا.
غير أن هذه التصريحات ما كانت الأولى من نوعها على لسان ترامب، بل سبق لرجل الأعمال الملياردير أن دعا من قبل إلى «فرض رقابة» على المساجد، كما حث السلطات على إعداد قواعد بيانات بجميع المسلمين الذين يعيشون في الولايات المتحدة. مع هذا، ناقض ترامب نفسه وتراجع عن بعض تصريحاته خلال لقاء مع شبكة «سي إن إن» التلفزيونية عندما سئل عما إذا كان المسلمون يشكلون خطرًا على الولايات المتحدة، فأجاب أنه يعتقد أن المسلمين «شعب عظيم». وأردف: «أنا أحب المسلمين... أعتقد أنهم شعب عظيم». وكان قبل ذلك قد تراجع أيضًا عن تصريحات صدرت عنه حول إعداد قواعد البيانات بجميع المسلمين الذين يعيشون في الولايات المتحدة، مُصرًا على أنها «كانت فكرة لأحد الصحافيين»، وهو بالتالي غير ملتزم بهذه الفكرة.
* آراء إزاء «التطرّف الإسلامي»
ومع العد العكسي لموعد المناظرة التلفزيونية المنتظرة بين مرشحي الحزب الجمهوري منتصف ديسمبر (كانون الأول) الحالي في مدينة لاس فيغاس لولاية نيفادا، أشارت التوقعات إلى جدل ساخن يحتدم بين المرشحين حول أي منهم يقدم «أفضل السياسات لمكافحة (التطرف الإسلامي)» و«أنجع الحلول لمكافحة (داعش) في إطار السياسة الخارجية»، وأفعل السبل لمنع تحول المسلمين داخل أميركا إلى متطرفين يقتلون الأبرياء» في إطار حماية الأمن القومي الأميركي.
والواضح أن المرشحين الجمهوريين المتنافسين يتأهبون للمزايدة ونيل بعضهم من بعض خلال المناظرة المرتقبة، بل ويعدون العدة للانقضاض على ترامب والتشهير بتصريحاته المسيئة للمسلمين في محاولة لكسب أصوات الجالية المسلمة من ناحية، وإظهار ترامب بمظهر الرجل المتعصّب غير المسؤول ما قد يؤدي إلى خفض شعبيته المتصاعدة بين الناخبين.
وبالفعل، هاجم عدد من المرشحين الجمهوريين تصريحات ترامب ورموه بتهمة «الافتقار إلى الخبرة». وقال كريس كريستي، حاكم ولاية نيوجيرسي: «هذا هو الشيء الذي يقوله شخص ليس لديه أي خبرة ولا يعرف عما يتحدث. نحن لسنا بحاجة إلى اللجوء إلى مثل هذا الأمر، بل ما يتعين علينا فعله هو زيادة أنشطة الاستخبارات، كما أننا أيضًا بحاجة إلى التعاون مع الأميركيين المسلمين المسالمين الذين يريدون إعطاءنا المعلومات الاستخباراتية عن أولئك المتطرفين». أيضًا انتقد جون كاسيك، حاكم ولاية أوهايو تصريحات ترامب معتبرًا أنها «تزيد من الانقسامات، وهي سبب كافٍ للقول إن ترامب لا يصلح لقيادة الولايات المتحدة».
وخارج مجموعة الساسة التقليديين، أكد المرشح بن كارسون، وهو طبيب الأعصاب المتقاعد الذي سبق له أن أصدر تصريحات سابقة ترفض وصول مسلم إلى منصب الرئاسة الأميركية، تمسكه بتسجيل ورصد تحركات كل زائر للولايات المتحدة بغض النظر عن ديانته، رافضًا الدعوة الانتقائية لدين واحد.
أما سيدة الأعمال كارلي فيورينا فرأت في تصريحات ترامب «رد فعل مبالغًا فيه، في مقابل رد الفعل البطيء للرئيس باراك أوباما». وأشارت إلى أن «ترامب يلعب على وتر المخاوف لدى الأميركيين».
وفي مطلق الأحوال، يشير المحللون إلى أن هذه النوعية من التصريحات غير المسؤولة من المرجح أن تعكّر صفو السباق الجمهوري للرئاسة وتضع الحزب الجمهوري أمام تحديات كبيرة، وتدفع خصوم ترامب من المرشحين الجمهوريين الآخرين إلى الانخراط في نقاشات حول إجراء اختبار إلى الخلفية الدينية لكل شخص راغب في الدخول إلى الولايات المتحدة.
* حسابات السباق
جدير بالذكر أنه في ظل ميل الجمهوريين الجلي إلى اليمين، يرى كل مرشح جمهوري طامح إلى تسليط الأضواء عليه كمرشح جدي أن يظهر بمظهر المرشح الأقوى في مسألة حماية الأمن القومي الأميركي والسياسة الخارجية. وعلى الرغم من تجربة كريس كريستي، حاكم نيوجيرسي، ولا سيما توليه منصب المدعي العام الاتحادي في قضايا الإرهاب بالولاية في أعقاب هجمات 11 سبتمبر (أيلول) 2001، وكذلك على الرغم من خبرة السيناتور ماركو روبيو (من ولاية فلوريدا) في لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ، فإن المخطط الاستراتيجي ستيف شميت يعتقد أن كل مؤهلات وخبرة المرشحين الجمهوريين الآخرين ما زالت لا تتفوق على ترامب في أذهان كثرة من الناخبين الجمهوريين.
وينبع نجاح ترامب حتى الآن، وفقًا للاستراتيجيين الجمهوريين، من التباين بين أسلوبه القوي مقابل أسلوب أوباما السلبي والهادئ في وجه الهجمات الإرهابية. كذلك يعكس ترامب الغضب والقلق الذي يشعر به كثيرون من الناخبين. ووفق شميت، «دائمًا يكون الرئيس الجديد رد فعل للرئيس الحالي، وبالتالي فعندما ينظر الناخبون إلى أوباما ويرون ضعفه وعجزه وتردده فإنهم يتطلعون إلى أمثال ترامب لرغبتهم في زعيم قوي لأن شخصية ترامب هي النقيض الحقيقي لشخصية أوباما».
أيضًا، على الرغم من الانتقادات الكثيرة التي وجهت إلى ترامب بسبب تصريحاته المثيرة للجدل، يستبعد بعض المحللين والخبراء أن تسفر عن انخفاض في تراجع شعبيته في استطلاعات الرأي، وبالأخص في صفوف الناخبين الجمهوريين الذين تثبت النتائج خلال السنوات الأخيرة ميلهم أكثر فأكثر إلى اليمين وتبنيهم مواقف محافظة متشددة كالمواقف التي تعبر عنها جماعة «حفلة الشاي». ولعل هذا الواقع ما يذهب بعيدًا في تفسير ظاهرة احتفاظ رجل الأعمال الملياردير اليميني بالمرتبة الأولى في استطلاعات الرأي بين الجمهوريين لعدة أشهر، على الرغم من تصريحاته المتطرفة والعنصرية أحيانا.
* معركة آيوا
على صعيد آخر، يقول محللون آخرون إن تصريحات ترامب الخاصة بمنع دخول المسلمين إلى الولايات المتحدة «سلاح جديد فعال» يستخدمه ترامب الآن ليستعيد موقعه في صدارة الاستطلاعات بين المتنافسين الجمهوريين في آيوا، بعدما أظهرت استطلاعات للرأي تراجعًا نسبيًا في نسبة التأييد الذي كان يتمتع به في هذه الولاية بالذات. إذ تشير بعض التقارير إلى تراجع ترامب في آيوا إلى المرتبة الثانية التي يتقاسمها مع السيناتور ماركو روبيو (من ولاية فلوريدا)، وتقدم السيناتور تيد كروز (من ولاية تكساس) إلى المرتبة الأولى. وحسب المراقبين والمحللين حقق السيناتور كروز تقدمه في آيوا بنتيجة كسبه تأييد ستيف كينغ، عضو مجلس النواب الأميركي عن الولاية، وهو يتمتع بنفوذ قوي مع تيار المحافظين في أوساط الحزبيين الجمهوريين بالولاية.
حتى اللحظة سجلت شعبية كروز في آيوا نسبة 24 في المائة من أصوات ناخبي الحزب الجمهوري في الانتخابات الحزبية، بينما يحظى ترامب بنحو 19 في المائة، يليه بفارق بسيط السيناتور روبيو بتأييد يبلغ 17 في المائة، ويأتي بعد هؤلاء بن كارسون بـ13 في المائة، في حين يحصل حاكم ولاية فلوريدا السابق جيب بوش (نجل الرئيس الأسبق جورج بوش الأب وشقيق الرئيس السابق جورج بوش الابن) على 6 في المائة، والسيناتور راند بول (ولاية كنتاكي) على 4 في المائة. ويتذيل القائمة كل من كارلي فيورينا وجون كاسيك بأقل من 3 في المائة لكل منهما.
آيمي ديفيدسون، المحللة السياسية، قالت أخيرًا معلقة إن ترامب دأب خلال الأشهر الستة الماضية على «إشاعة روح التعصّب على المسرح الرئيسي للسياسية الأميركية. ودعوته إلى الحظر الديني للراغبين في دخول الولايات المتحدة فكرة غير مسبوقة في التاريخ الأميركي وتتعارض مع القيم الأميركية والدستور الأميركي». وأشارت إلى أنه سبق لترامب إطلاق تصريحات مسيئة والتهجم على المكسيكيين في مستهل حملته الانتخابية، داعيًا إلى ترحيلهم من الولايات المتحدة وتشييد جدار فاصل بين الولايات المتحدة والمكسيك. كذلك شن هجومًا ضد النساء وأدلى بتصريحات كانت مسيئة للمرأة، والآن انتقلت بوصلة تصريحاته إلى المسلمين.
* قضايا تشغل الناس
إلا أن بعض المحللين يعتقدون أن دونالد ترامب شخصية انتهازية أكثر منها شخصية متعصبة. ويذهب هؤلاء إلى حد القول إنه مستعد لقول أي شيء وفعل أي شيء لتحسين فرصه في استطلاعات الرأي قبل الأسابيع الأخيرة من التجمّعات الانتخابية للجمهوريين في آيوا خلال فبراير المقبل. وهو يعتقد أن تحقيق نتيجة طيبة في آيوا يؤمن لحملته قوة دفع مهمة، ويفرضه مرشحًا جديًا في حلبة الجمهوريين الذين تبين استطلاعات أجريت أخيرًا أن أحدًا منهم لن يتمكن – وفق الظروف والمعطيات الحالية طبعًا – من التغلب على هيلاري كلينتون إذا ما رشحها الحزب الديمقراطي رسميًا.
ويقول المحلل الاستراتيجي تيري كيسي إن من الواضح أن تصريحات ترامب تخلق كثيرا من الاهتمام لدى الناخبين، والملاحظ أنه تعمد في البداية تبني قضايا مثل الهجرة غير القانونية، ومن ثم انتقل بعدها إلى قضيا أخرى تشغل الناس مثل الأمن والسلامة ومكافحة التطرف.
أما صحيفة «بوليتيكو» فتقول إن الهجمات الإرهابية التي هزت باريس، وبعدها الحادث الإرهابي في سان برناردينو بكاليفورنيا، دفعت الناخبين الجمهوريين – الذين هم أساسًا من المحافظين – أكثر فأكثر إلى الرغبة في اختبار مدى صلابة المرشحين وجدية مواقفهم في مواجهة خطري «التطرف الإسلامي» و«الإرهاب».
وبناء عليه، يدرك ترامب وأمثاله من الطارئين على الساحة السياسية التقليدية، في قرارة نفوسهم، أنهم يفتقرون إلى الخبرة في ميدان السياسة الخارجية، كما أنهم لا يستطيعون كسب دعم قيادات مجربة ومحنكة تتمتع بالخبرة والفهم في المجالين الدولي والأمني. لا خيار أمامهم إلا الاستفادة من إطلاق مواقف صارمة وحازمة في مواجهة التطرف والإرهاب. وفعلاً، أشار استطلاع لشبكة «سي إن إن» خلال الأسبوع الماضي إلى أنه ينظر إلى ترامب على أنه أفضل المرشحين الجمهوريين أهلية للتعامل مع تنظيم داعش المتطرف، وكذلك مع ملف السياسة الخارجية!
على أي حال، يشتد الجدل منذ الآن حول مَن سيفوز بترشيح الحزب الجمهوري في معركة آيوا الحزبية خلال فبراير القادم، ومن سيتمكن ستشكل محطة هذه الولاية نقطة انطلاق مفيدة في المواجهات التمهيدية في الولايات الأخرى على امتداد البلاد وصولاً إلى المؤتمر الحزبي الكبير الحاسم. والسؤال الذي يفرض نفسه بلا شك هو: كيف ستكون معايير المنافسة؟ هل بإطلاق مزيد من التصريحات المستفزة وبث المخاوف ومشاعر الكراهية والعنصرية وأجواء الاستقطاب؟... واستطرادًا: هل يمكن أن يكون دونالد ترامب مرشح الحزب الجمهوري لخوض سباق الرئاسة لعام 2016؟



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.