برزت مخاوف جمة بين المستثمرين نتيجة انخفاض السيولة المالية في الأسواق العالمية على مدار الشهور الماضية، بسبب تباطؤ الاقتصاد العالمي، ما يؤكد عدم التعافي كليًا من الأزمة المالية العالمية الأخيرة، الأمر الذي ظهر في هبوط أسعار السلع الأولية والنفيسة، فضلاً عن الأسهم والسندات والنفط في ذات الوقت.
وشكلت العوامل الجيوسياسية طريقة أسلوب إدارة الاقتصاد العالمي وبوصلة توجيهه، وهو الأمر الذي ظهر بشدة في تحركات العملات الرئيسية أمام الدولار الأميركي، حتى اعتبره مراقبون عودة لـ«حرب العملات» من جديد لتلقي بظلالها على معدلات النمو والتضخم في كل دولة على حدة؛ ووجدت السياسات المالية لمعظم الدول صعوبة في التوافق مع سياستها النقدية، حتى انكشف ذلك في تراجع إجمالي الناتج المحلي لتلك الدول؛ ما أثر على معدلات النمو الإجمالية للاقتصاد العالمي.
شريف هنري، الخبير في الاقتصاد الكلي، يقول إن «العوامل الجيوسياسية باتت تتصدر المشهد الاقتصادي العالمي، نظرًا لتأثيرها بشكل مباشر على تحركات الأسواق»، ملمحًا لبداية «حرب عملات» بين الدول.
وأوضح هنري لـ«الشرق الأوسط» أن التحكم في أسعار السلع الأولية من جانب الصين، وسيطرة أميركا اقتصاديا من خلال الدولار، مع تحرك معظم العملات لدى الدول مؤخرًا يعطي مؤشرًا بوجود حرب عملات عالمية في الأفق، مشيرًا إلى تراجع اليورو نحو 35 في المائة أمام الدولار خلال العامين الماضيين، وانخفاض الليرة التركية نحو 100 في المائة أمام الدولار خلال السنوات الأربع الأخيرة، ونزول الروبل الروسي أكثر من 70 في المائة في عام، ما يوضح انخفاض إجمالي الناتج المحلي للدول عند حسابه بالعملة الأميركية.
ومنذ أن ضخت البنوك المركزية كميات كبيرة من السيولة في الأسواق إبان الأزمة المالية العالمية في عام 2008، التي ساعدت في الحفاظ على استقرار نسبي في أسواق رأس المال، تدق أزمة السيولة أبواب الأسواق من وقتها، إذ إن معالجتها لم تكن على أسس قوية؛ وإنما بالتيسير الكمي.
ومع الوقت يزداد تحويل الأدوات المالية إلى سيولة صعوبة؛ خاصة في قطاع المدخرات وأدوات الدين الثابت مثل السندات (وهي الأصعب)، وهو ما يقلل من ضخ السيولة في الأسواق، الأمر الذي يؤدي إلى ركود نسبي؛ أما انعدام السيولة فيؤدي إلى انهيار سريع يطول أمده.
وتزداد الأزمات هنا كلما فرطت حلقتها؛ وعادة ما تكون الحلقة الثانية لكل أزمة ناتجة عن سيطرة الخوف على المتعاملين في الأسواق، من سحب أموال وبيع عشوائي والاحتفاظ بالسيولة ترقبًا للمستقبل، على أن يحتفظ بالسيولة من يمتلكها، أما من لا يمتلكها فسيعاني بالتأكيد، والأمر كذلك بالنسبة لحكومات الدول، بحسب خبراء الاقتصاد.
وسجلت الصين واليابان ومنطقة اليورو وروسيا تراجعات في معدلات النمو وصلت إلى الركود خلال العام الحالي، كما حذرت مؤسسة «فيتش» للتصنيف الائتماني الدول النامية من التراجعات المحتملة في اقتصادها لتأثرها بتباطؤ الاقتصاد العالمي.
وأشار هنري إلى التناقض الشديد بين هبوط أسعار الذهب خلال تلك الفترات وبين كونه الملاذ الآمن وسط الاضطرابات؛ موضحًا سعي أميركا الحصول على سيولة حقيقية حينما تقرر رفع الفائدة على عملتها، الأمر الذي ظهر بوضوح من تعليقات مسؤولي البنك المركزي الأميركي بتلميحاته منذ نحو عام برفع الفائدة على الدولار، وهو ما حد من ارتفاع المعدن الأصفر النفيس.
وقال هنري إن ما يحدث حاليًا في السوق يسمى «اقتصاد غير حر مع سبق الإصرار والترصد»، إذ إن محاولة تحريكه من جانب دولة عظمى أو أكثر لا يخدم اقتصاد السوق العالمي، وقال في هذا الصدد «إن هذا يدل على ضعف الاقتصاد العالمي وهشاشته وبالتالي يأتي الركود».
وكان صندوق النقد الدولي قد حذر مؤخرًا من أن تباطؤ النمو في الصين واستمرار حالة القلق في الأسواق يهدد الاقتصاد الدولي، محذرًا من أن «تباطؤ الاقتصاد الصيني يبدو أن له تأثيرا على البلاد الأخرى أكثر مما كان متوقعًا». وأدى انخفاض الأسواق الصينية إلى انخفاض أسعار السلع مثل النفط والنحاس، كما أثر بشكل كبير على الدول المصدرة للسلع الرئيسية مثل البرازيل وروسيا.
وقال صندوق النقد الدولي إن المشاكل في الصين قد تؤدي إلى «توقع أضعف بصورة كبيرة» للنمو العالمي. ولكن الصندوق ما زال يتوقع أن ينمو الاقتصاد العالمي بنسبة 3.3 في المائة العام الحالي، أي أقل بنسبة طفيفة عن النمو عام 2014 الذي بلغ 3.4 في المائة. ودعا الصندوق الصين إلى مواصلة إصلاح اقتصادها رغم هبوط الأسواق مؤخرًا.
وتنخفض الأسواق في الصين منذ منتصف يونيو (حزيران)، وخفضت الحكومة بصورة غير متوقعة قيمة اليوان يوم 11 أغسطس (آب). إلا أن وزير الخزانة الأميركي جيكوب ليو، حذر بكين من استغلال عملتها بصورة غير عادلة لمنح المصدرين قدرة تنافسية.
وتستبق الأزمات والكوارث المالية العالمية عدة مؤشرات من بينها أزمة السيولة، لأنها عصب أسواق المال، وتقاس عادة بمدى سهولة بيع المستثمرين لأدواتهم المالية مثل السندات والأسهم.
منصور الجمال، رجل أعمال مصري يمتلك استثمارات إقليمية في دول عدة، قال لـ«الشرق الأوسط» إن «مؤشرات الكساد ظهرت منذ عدة شهور بالفعل لدي، وهو ما جعلني أقوم بتأجيل مشروع استثماري ضخم كان من المقرر الإعلان عنه في السوق المصرية والعربية، انتظارًا لظهور مؤشرات معدلات النمو بوضوح». وعن طبيعة المشروع الاستثماري الأمثل الذي يفكر فيه، أوضح أنه «سيعمل في الخدمات المالية» مثل بنوك الاستثمار.
وتعاني معظم الدول من أزمة كساد أجبرت الحكومات على ضخ سيولة في السوق، لتحريك عجلة الاقتصاد، وعلى النقيض تعاني دول أخرى من زيادة في التضخم وهو ما يجبر البنوك المركزية على زيادة أسعار الفائدة على العملة لسحب سيولة من الأسواق، وبين هذا وذاك باتت الاستثمارات الآمنة غير جاذبة، وصار الاحتفاظ بالسيولة هو الطريقة المثلى لضمان الأموال في ظل دق طبول حرب العملات والخوف من المستقبل الاقتصادي والاستثماري. وأوضحت البيانات المالية لمعظم البنوك حول العالم زيادة قوية في ودائعها خلال التسعة أشهر الأخيرة من العام الحالي.
وأوضح الجمال أنه «في حالات الكساد، تلجأ الدول للاحتياطي النقدي لتعويض السوق بالسيولة اللازمة.. ولا بد هنا من الاستفادة من فترة الكساد التي تقل فيها الأسعار»، موضحًا أن الدول التي تستطيع الاستفادة القصوى خلال فترة الكساد؛ من خلال تنمية البنية التحتية والقطاعات التي تحتاج للتطوير بالأسعار الرخيصة التكلفة، ستحقق أفضل نتيجة مع استقرار الأوضاع المالية مرة أخرى. مؤكدا أنه «لا يوجد اتجاه صعودي دائم أو نزولي دائم.. ولا بد من الاستفادة في الحالتين».
وخلال حديثها قبل انعقاد الجمعية العامة المشتركة للصندوق والبنك الدولي مع وزراء المالية وحكام المصارف المركزية في دول العالم في عاصمة البيرو في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، لخصت كريستين لاغارد، مديرة صندوق النقد الدولي، الوضع العام بقولها إن «ثمة أسبابًا تدعو إلى القلق»، مشيرة إلى تباطؤ الاقتصاد الصيني واحتمال تبديل الولايات المتحدة سياستها النقدية في ديسمبر (كانون الأول) الحالي.
* الوحدة الاقتصادية
لـ«الشرق الأوسط»