تنوعت أدوارهم الأمنية، إلا أن الهدف واحد، هو حماية السعودية من الإرهاب، واستقرار الأمن، منذ أن استهدفت عناصر إرهابية بتوجيهات خارجية، ثلاثة مجمعات سكنية في شرق الرياض في 12 مايو (أيار) 2003. هؤلاء رجال الأمن من مختلف القطاعات الأمنية، ضحوا بأجسادهم، وتيتّمت أسرهم، مقابل التصدي للفكر المتطرف، وقطع شوكة الإرهاب، والأعمال الانتحارية، بعد أن حاول تنظيم «القاعدة» في السعودية، التخطيط لشن هجوم ضد المصالح الحكومية والأمنية والاقتصادية.
وقف عدد من «الشهداء» من رجال الأمن، من مختلف الرتب العسكرية، حماة للدين ثم الوطن، وتصدوا لعمليات إرهابية مختلفة، تضمنت انتحاريين يقودون سيارات مفخخة، أو تبادلوا الرصاص مع عناصر التنظيم، أو جرى اغتيالهم نتيجة موقعهم الأمني، أو استهداف منشآت نفطية للتأثير على المصالح الاقتصادية في العالم.
بعد سنوات من تطهير السعودية، أراضيها من عناصر تنظيم «القاعدة»، والقبض على المحرضين والمنفذين، والداعمين، مرورا بالتحقيق معهم، ومحاكمتهم، وانتهاء بتنفيذ العقوبة الصادرة من المحكمة الجزائية المتخصصة بالرياض أو جدة، لا يزال بعض أسر «الشهداء» يتذكرون الحوادث التي تعرض لها ذووهم من الإرهاب، بعد مرور سنوات، خصوصا أن جميع من التقت «الشرق الأوسط» بهم، لا يزالون متمسكين بتنفيذ شرع الله فيهم.
اغتيال العميد السواط
على الرغم من مرور أكثر من 10 سنوات على اغتيال العميد مبارك السواط، ضابط المباحث السعودي، أمام منزله في حي الشرائع بمكة المكرمة، فإن زوجة «الشهيد» (أم عماد السواط) لا زلت تسترجع ذكريات الجريمة البشعة التي هزت المجتمع السعودي منتصف عام 2005. وجاءت أحداثها أثناء موجة من الهجمات الآثمة التي شنها تنظيم القاعدة على السعودية بين عامي 2003 و2006.
واسترجعت أرملة السواط شريط ذكرياتها لنحو سنوات إلى الوراء، واسترجعت مرارة الحادث المفجع الذي عاصرته، وكأنه حدث البارحة، وقالت لـ«الشرق الأوسط»، لا زلت أشعر بغصة وألم، ومن المستحيل أن أنسى ذاك اليوم البشع مهما مرت السنوات، مشيرة إلى أنها عاشت مع «الشهيد» لنحو 20 عاما، أنجبت خلالها 4 أبناء و4 فتيات، أصغرهم تدرس الآن في الصف السادس الابتدائي.
وتضيف «فقد الزوج والأب أمر صعب جدا، والمسؤولية التي ألقيت على كاهلي كانت ثقيلة وقاسية مع غياب رب الأسرة، وحتى أبنائي ما زالوا يشعرون بالحزن والغضب الشديد تجاه المجرمين الذي اغتالوا والدهم، رغم مرور كل هذه السنين».
ويأتي حديث أرملة «الشهيد» السواط مع ترقب تنفيذ القصاص في الإرهابيين المتورطين بهذه الجريمة، وبسؤالها عن إمكانية التنازل والصفح عن الجناة، تنفي ذلك بشدة، معتبرة أن حق السواط هو حق الوطن ككل ولن تتنازل عنه، وتضيف «التنازل غير وارد أبدا مهما مرت السنوات، فجرحنا الداخلي عميق جدا، و(الشهيد) حاضر في أذهاننا دائما، نتذكره في الأعياد وفي الإجازات وفي مختلف المناسبات».
وتؤكد أم عماد السواط على أن الصفح أمر مستبعد بالنسبة لأبنائها كذلك، قائلة: «نزعوا الفقيد من وسط أبنائه، وهذا شيء صعب وقاسٍ جدا ومن الصعب نسيانه أو الصفح عنه». إلا أن العزاء الوحيد لأسرة السواط إيمانهم بالدور الكبير الذي كان على عاتق «الشهيد»، إذ تقول أرملته «أبنائي يفخرون كثيرا بوالدهم الراحل، لأنهم موقنون أنه (شهيد) وطن؛ ختم رحلته في هذه الدنيا وهو متوجه لتأدية واجبه تجاه بلده».
وعودة لتفاصيل ذاك اليوم الدامي، صبيحة الـ18 من شهر يونيو (حزيران) لعام 2005، ودع «الشهيد» مبارك السواط أسرته الصغيرة متوجها إلى عمله، حيث سمعت زوجته، في حينها، صوت دوي قوي لا تميزه بين إطلاق رصاص أو انفجار، اضطرت بسببه إلى النظر من نافذة المنزل، ثم قامت على الفور بالاتصال على هاتفه الجوال، لكنه لم يجب، حتى خرجت ووجدت زوجها الراحل ملقيا على الأرض ومضرجا بالدماء أمام منزله، في واحدة من أبشع العمليات الإرهابية المعاصرة.
وكانت السلطات الأمنية والعدلية في السعودية، أقفلت في وقت سابق ملف اغتيال العميد مبارك السواط أمام منزله، بعد صدور أحكام بالسجن والمنع من السفر على تسعة سعوديين، شاركوا في خلية إرهابية مكونة من 12 شخصًا (قتل منهم ثلاثة أشخاص) لاختطاف رجال قطاع المباحث العامة في وزارة الداخلية وتوثيق رسائلهم عبر مقاطع فيديو، وبثها عبر شبكة الإنترنت، من أجل مساومة الحكومة على شروطهم.
وأصدر قاضٍ في المحكمة الجزائية المتخصصة في مدينة الرياض، أحكامًا بالسجن والمنع من السفر تراوح بين 25 و10 أعوام لتسعة سعوديين، اشتركوا في التخطيط والتنسيق مع منفذي عملية اغتيال العميد مبارك السواط، وموافقة بعضهم في إعداد بيان يدعو إلى تصفية رجال المباحث العامة، فيما قتل ثلاثة أشخاص، اثنان منهم بعد 72 ساعة من تنفيذ الاغتيال، وهما كمال فودة ومنصور الثبيتي، والآخر شارك في العملية وتم انقضاء دعواه في القضية، وهو محمد بغدادي وقُتل في نقطة تفتيش أمنية (المثلث) في وادي الدواسر في ديسمبر (كانون الأول) 2010.
المولد ومواجهة الخالدية
لم تكن تعلم رانيا محمد بن كابو أن موعد العشاء مع شريك عمرها، ياسر المولد، سيتأخر ليس فقط لدقائق ولا لساعات ولكن لعمر بأكمله، وأن فرحة اللقاء سيسرقها كاره للحياة والدين والوطن، خطط ورتب لتدمير حياة كل من وقف أمامه مدافعا ومؤمنا لمستقبل جيل ومحافظا على أمن وطن، وأكدت زوجة رجل الأمن الذي «استشهد» سنة 2003 على أيدي إرهابيين كانوا ضمن خلية عرف اسمها «بشقة الخالدية» بمكة المكرمة، كانت تخطط لاستهداف سجن الرويس في جدة وتفجير وتهريب من بداخله، إضافة إلى تسميم عدد من المستأمنين بوضع سم في خزانات المياه الخاصة بهم «أن قرار الإعدام في حق قاتل زوجها لن يشفي ما بداخلها من ألم، وأنها تتمنى رؤيته يعذب 37 عاما؛ نفس العمر الذي عاشه زوجها، ثم ينفذ فيه حكم القصاص بعدها».
وتروي والدة وضاح، وهو الابن الأكبر لـ«الشهيد» ياسر، ذكرياتها التي مرّ عليها 14 عاما حتى الآن، لم تفصح عنها من قبل، لقصص ومواقف عاشتها مع زوجها «شهيد» الوطن على مدار عشر سنوات، وقصة تلقيها خبر «استشهاده»، وما كان يدور في النفس قبلها.
وقالت رانيا «قبل وفاة ياسر بـ20 دقيقة وردني اتصال منه، يسألني ماذا أريد من عشاء كي يحضره معه، وأذكر أني طلبت منه فطائر ومناقيش، لم أكن مرتاحة في هذا اليوم، وكنت أشعر بشعور غريب، وبعد مرور عشر دقائق من اتصاله عاودت الاتصال به ولكنه لم يرد، ولم أكن أعلم أن صوته لن يرد لمسمعي بعدها، وبعد الكثير من الاتصالات رد على هاتفه صديقه وكان مرتبكًا، وقال لي إن ياسر مشغول وأغلق الخط».
وأضافت: «بدأت أفقد عقلي، خاصة بعد سماعي الأخبار في التلفاز، عن حدوث عملية إرهابية، وإغلاق هاتف ياسر، بعدها جاءت لي شقيقتي، وأبلغتني أن زوجها اتصل عليه أحد الأفراد وذكر أن ياسر مصاب وفاقد للوعي وهو موجود في المستشفى، وأنه في طريقه إليه، لم أكن مرتاحة لما سمعت واتصلت بأخيه فهد، وقال لي إنه سيذهب إليه ويطمئنني».
لم يمضِ وقت طويل إلا وجاء اتصال لرانيا من أخيه فهد يطلب منها الثبات والدعاء وترديد «إنا لله وإنا إليه راجعون»، وعلى الرغم من هول المصيبة التي شعرت بها واختلاف مشاعرها وعدم إدراكها فقدان رفيق عمرها ووالد أبنائها الثلاثة، فإن رؤية زوجها في الكفن قبل دفنه، أعادت إليها ذاكرتها لحلم رأته في منامها كان يتردد عليها كثيرا ورأته آخر مرة قبل ثلاثة أيام من هذا الموقف الذي تقفه، شاهدت فيه نفس مشهد زوجها في كفنه الأبيض وبكاءها وألمها على رحيله.
عادت زوجة ياسر بذاكرتها لتتذكر الساعات الأخيرة قبل وفاته وقالت: «يوم (استشهاده) قام في الصباح باكرا وذهب لإحضار الفطور، وجاء إلى المنزل وأيقظ كل من في المنزل حتى أختي وزوجها ووالدتي وأبناءنا، واستغربت من تصرفه، ولكنه برر ذلك بأنه يريد أن يراهم وأن يتناولوا الإفطار معا، وبعدها أخذ هاتفه الجوال واتصل على كل العائلة، لم يترك شخصا إلا واتصل عليه، وقال لي إنه على موعد مع أحدهم لإنهاء موضوع مهم معه».
وبيّنت والدة وضاح أنه بعد «استشهاد» زوجها وانتهاء مراسم العزاء والعدة، قدم إليها قريبها الذي كانت سمعت منه قبل وفاته أنه ذاهب إليه لإنهاء أحد الأمور المهمة معه، ليكشف لها عن ماهية الموضوع الذي كان يريد فيها ياسر زوجها بإنهاء إجراءات نقل ملكية مبنى سكني قام ببنائه لها، مبررا فعله بخوفه عليها من المستقبل وحفظها وصونها حتى وإن (جار عليها هو نفسه فيما بعد).
كثير من القصص والحكايات التي سردتها رانيا بن كابو لـ«الشرق الأوسط»، تحمل معها غصات في القلب، هون عليها فيها - على حد قولها - «مؤانسة» سيرته العطرة التي لم يمر يوم واحد منذ وفاته وحتى الآن إلا وتمر على مسامعها من القريب والبعيد.
ياسر المولد كان أبا وأخا لعائلة رانيا بعد وفاة والدها الذي سبقه بأربع سنوات، فهو من قام بتربية أخيها واستكمال مراحل دراسته، وتزويج أختها والاهتمام بكل أفراد أسرتها، إلى جانب أسرته الصغيرة المكونة من ثلاثة أولاد، هم وضاح، وسيم ووليد، الذين حينما «استشهد» كانوا في الصفوف الابتدائية الأولى وأصبحوا الآن بين المرحلة الجامعية والثانوية.
وقالت رانيا زوجة «الشهيد» ياسر المولد «الإرهابيون أعداء للدين وللوطن وسارقون للفرح، وسرطان خطير منتشر بين الدول العربية والإسلامية وحتى الغربية، يتحدثون باسم الدين وهم أبعد ما يكونون عنه، أشدد على الدولة أن تضربهم بيد من حديد وأن تقيم حد الله عليهم، فنارنا لن تبرد، وأن تحقق عدل الله في الأرض لحماية الوطن والمواطن وحفظ مستقبل الأجيال القادمة».
اقتحام الرويس والعلياني
وبعد مرور تسعة أعوام على حادثة اقتحام عدد من عناصر الفئة الضالة سجن الرويس في محافظة جدة (غرب السعودية) ما زال أحد أشقاء الجندي العسكري الذي «استشهد» إثر هذه الحادثة يذكر أخاه مطلق حاسن العلياني، الذي كان مكلفًا بحراسة السجن وحمايته.
الحادثة التي وقعت عند الساعة الرابعة عصرًا من يوم الخميس أوائل شهر ديسمبر (كانون الأول) عام 2006. إثر استهداف سجن الرويس في محافظة جدة، بعد أن تعرض حراس الأمن لإطلاق نار من أحد المباني المجاورة، وتصدى رجال الأمن للهجوم الجديد من الفئة الضالة، حيث قبضوا على الإرهابيين بعيد إطلاق النار.
وحاصر رجال الأمن الموقع المجاور للسجن وجرى تبادل إطلاق النار مع المتحصنين في المبنى، وانتهت العملية عند الساعة العاشرة مساءً من ذات اليوم بسقوط اثنين من الفئة الضالة بقبضة رجال الأمن.
وكان الإرهابيون خططوا على أن يكون الهدف من الهجوم على السجن هو استهداف رجال الأمن، فيما أدى حادث تبادل إطلاق النار إلى «استشهاد» رجلي أمن، أثناء أداء الواجب في محيط سجن الرويس، وهما عويض الهذلي ومطلق العلياني، فيما نتج عن الحادث إصابة بعض رجال الأمن.
وفرض رجال الأمن طوقًا أمنيًا على موقع الحادثة وتولت سلطات الأمن بموقع الحادث حماية السكان، ومن ثم تركيز جهدها للوصول إلى ضبط الجناة، في حين حقق رجال الأمن مكسبًا جديدًا تكلل بضبط الجناة دون خسائر إلحاقية بين رجال الأمن وسكان الأحياء المحيطة بموقع الحادث.
وفتح القضاء السعودي ملف استهداف قضية اقتحام سجن الرويس بجدة، بعد أن استكملت جهات التحقيق أخذ أقوال المتهمين في القضية، واتهم الادعاء العام السعودي، عام 2012 في جلسة بالمحكمة الجزائية المتخصصة، نحو 88 متهمًا؛ منهم 72 سعوديًا و8 تشاديين ويمنيان اثنان ومصري وفلسطيني ونيجيري وباكستاني وبنغلاديشي.
حيث خطط أحد المقتحمين سجن الرويس بمحافظة جدة للعملية، وقام برسم كروكي يوضح مداخل ومخارج جميع مباني السجن، فيما أحضر الآخر أسماء جميع ضباط سجن الرويس لاغتيالهم، واشتركت الخلية الإرهابية في إحضار كيسي نوم وجاكيت عسكري وسترة واقية من الرصاص.
وأوضح طلق العلياني، شقيق «الشهيد» العريف مطلق العلياني لـ«الشرق الأوسط» أمس، أن شقيقه توفي وعمره 40 عامًا ويحمل رتبة عريف، وأنه طيلة الأعوام الماضية منذ وفاته ظلت أسرته صابرة على فراق شقيقه، مشيرًا إلى أن شقيقه لم يكن متزوجًا، وكان همه الأساسي والمهم هو إعانة أسرته وتربية إخوته الذين توفي والدهم منذ مدة طويلة، إضافة إلى حرصه الشديد على تنفيذ وصية والده بتربية إخوته بالشكل المطلوب.
وبحسب طلق العلياني، فإنه بعد مدة لا تتجاوز الخمسة أشهر توفيت والدته، ليتولى هو إدارة شؤون أسرته، وإعالتها، وحول مكان تواجده وقت حادثة وفاة أخيه، أكد أنه كان في مهمة عسكرية وطنية على الحدود الجنوبية السعودية، وتلقى الخبر بقلب مؤمن بقضاء الله وقدره، والصبر والاحتساب على فراق شقيقه الذي يمثل الأخ والأب في ذات التوقيت. وأكد أن من مهام شقيقه حراسة سجن الرويس، وكان يتواجد في إحدى بواباته، وكان حريصا على أداء عمله بكل إخلاص وتفان، كما أنه يحرص خارج أوقات العمل الرسمي على زيارة أسرته وتفقد أحوالها، ويجعل من رضا أسرته أولوية قصوى يجب أن تتحقق مهما كانت الظروف.
وأطلق شقيق «الشهيد» اسم أخيه على ابنه «مطلق»، مؤكدًا أنه سيدخل السلك العسكري بعد تجاوزه الشروط اللازمة لذلك، ويستكمل مسيرة عمه الذي «استشهد» على يد عناصر تنظيم القاعدة الإرهابي.
وقضت المحكمة الجزائية المتخصصة - أخيرًا - أحكاما ابتدائية بالقتل بحق أربعة سعوديين والسجن لـ16 آخرين حتى 32 سنة لإدانتهم بقتل رجال أمن ومواطنين، والتخطيط لأعمال إرهابية تتمثل في اقتحام سجن الرويس واستهداف المستأمنين داخل السعودية، وتحريم التعليم في المدارس والوظائف الحكومية، والاعتداء على الممتلكات الخاصة بتكسير الأطباق الفضائية.
يذكر أن المحكمة الجزائية المتخصصة بالرياض شرعت بالبدء بالحكم على عناصر خلية شقة الخالدية، حيث أصدرت أحكاما ابتدائية بالقتل تعزيرا لسعودي ومصري وتشادي، والسجن حتى 33 سنة لـ18 آخرين من جنسيات مختلفة، لمواجهة بعضهم رجال الأمن بالنار في حي الخالدية داخل الحرم المكي بمكة المكرمة في 2003، واستهداف سجن الرويس في جدة، وتفجيره، وتهريب من بداخله، بينما خطط آخر لعملية تسميم عدد من المستأمنين بوضع سم بخزان مياه خاص بهم، لا سيما أن زوجته تمثل أمام القضاء في قضية الانضمام إلى «القاعدة» ودعم المقاتلين.