شانيل تحتفل بالعادي بأسلوب استثنائي

كارل لاغرفيلد يستعمل {البوب أرت} لترجمة ثقافة الشارع

من عروض شانيل لشتاء 2014 ــ 2015
من عروض شانيل لشتاء 2014 ــ 2015
TT

شانيل تحتفل بالعادي بأسلوب استثنائي

من عروض شانيل لشتاء 2014 ــ 2015
من عروض شانيل لشتاء 2014 ــ 2015

ساحر يخفي في جعبته آلاف الألاعيب والمفاجآت، هذا هو كارل لاغرفيلد. مصمم لا يتوقف عن إدهاشنا بالجديد، في كل عرض من عروض دار شانيل، من اللحظة التي ندخل فيها «لوغران باليه» المقر شبه الرئيس للدار الفرنسية منذ سنوات، إلى أن نخرج منه. ولا نبالغ إن قلنا إن غالبية الضيوف، يتعمدون الوصول قبل الوقت بكثير، لأنهم يعرفون مسبقا أن ديكورات مبتكرة تنتظرهم. وهي في الغالب ديكورات يمسك فيها المصمم أحد خيوط الدار وينسج منها قصصا مثيرة. لكن رغم كل التوقعات، فإنه لا أحد كان يتصور ما حضره لهم صباح أول من أمس، الثلاثاء، على الساعة العاشرة والنصف. فقد غير الاتجاه تماما، حتى لا يقع في خانة المتوقع من جهة، وحتى يتلذذ بمفاجأتنا من جهة ثانية، وهو ما نجح فيه. فقد حول «لوغران باليه» إلى «سوبر ماركت» ضخم، يتوفر على كل ما يخطر على البال من منتجات استهلاكية يومية، من علب غسيل إلى مبيد حشرات وعلب حلوى وأكياس سباغيتي، مرورا بالفواكه والعسل وهلم جرا. كان المشهد ببساطة عبارة عن لوحة من البوب أرت، تجعلك تقف مبهورا لا تعرف إلى أين تتجه. فالمنتجات، وإن كانت استهلاكية محضة، إلا أنها لم تكن عادية، لأنها ببساطة كانت تحمل اسم «شانيل» وتلعب على معان مزدوجة، لتضفي عليها بعض المرح والتفكه الذكي، مثل قارورة ماء كتب عليها «أو دو شانيل» Eau de Chanel، وعلبة سكر نبات كتب عليها «شانيل بون بون» Chanel Bon Bons وعلبة مناديل ورقية أطلق عليها «لي شاغران دو غابرييل» (Les chagrins de Gabrielle) وترجمتها الحرفية «أحزان غابرييل» وغيرها من العناوين المثيرة في شكلها ومضمونها. وهنا لا بد من ذكر أن المصمم كارل لاغرفيلد، أكثر مصمم يقرأ تحولات العصر الثقافية والاقتصادية وحتى السياسية، ثم يترجمها في إبداعاته بأسلوب شانيل، الذي مهما لامس الاستهلاكي، يبقى محتفظا بسحر وجاذبية يصعب تفسيرها وتؤكدها أرقام المبيعات. في الآونة الأخيرة، بدأ يركز على الفن ويطرح تساؤلات حول علاقته بالموضة والمجتمع، بدليل أنه حول «لوغران باليه» في الموسم الماضي، إلى متحف استعرض فيه لوحات فنية، قد تعتبرها زبونات السوبر ماركت، وما يمثله من فن شعبي، من الكماليات نظرا لاختلاف ثقافتهما ظاهريا، مع أنهما في الأساس يعكسان حالة اجتماعية واحدة، كما يسلطان الضوء على العلاقة التي تربط بين الموضة والفن. في العرض الأخير بالذات، يبدو وكأنه يلقي بتحية للفنان آندي وورهول، عراب الـ«بوب أرت» الذي كان أول من أدرك بأنه يمكن للفن أن يتزاوج مع الموضة بطريقة ممتعة، قبل أن يتغير الأمر ويكتسب صبغة جدية مفتعلة. ترجمة لاغرفيلد لكل هذا جاء من خلال تشكيلة منطلقة ومريحة، بعيدة كل البعد عن استعراض الفخامة أو الجاه كما عن التكلف والبهرجة. بمعنى أنك إذا كنت تجدين في السابق أن ارتداء تايور من التويد للتسوق في سوبر ماركت يبدوا نشازا، فإن هذه التشكيلة تقدم لك الحل لأنها مناسبة جدا للاستعمال اليومي والعادي. وهنا تكمن قوتها ومتعتها في الوقت ذاته، فهي لا تعكس الإمكانيات المادية بقدر ما تعكس أسلوبا خاصا وبسيطا يخفي بين ثناياه الكثير من الرقي والحرفية. فقد كانت العارضات يتنقلن بين أروقة السوبر ماركت بأناقة سهلة غير متكلفة ودون تعقيدات تكبل حركتهن، منهن من تحمل سلة على شكل حقيبة بسلاسل، ومنهن من تدفع عربة تضع فيها منتجات تأخذها من الأرفف بعد تفكير وتمحيص، وأخريات يتمشين ببطء ولامبالاة وهن ينظرن يمنة ويسرة إلى كل المعروضات وكأنهن يحاولن أن يتذكرن ما يحتجنه والسبب الذي جئن من أجله إلى السوبر ماركت. ولحسن الحظ أن هذه الصورة لم تغط على جمال الأزياء، فحتى في الحالات التي كان الإخراج المسرحي يطغى فيها، فإن الألوان المعدنية أو البنطلونات الضيقة والمعاطف الواسعة والفساتين الأنيقة، كانت تذكرنا بأننا في عرض أزياء راق، نفذت فيه كل قطعة بحرفية عالية ولغة فنية بليغة. أما البساطة التي توحيها من النظرة الأولى، فما هي سوى خدعة بصرية يتطلبها الإخراج المسرحي الذي يعكس حالة يومية عادية.
وهذا ما يجعل هذه التشكيلة تنبض بثقافة الشارع وتعكس روح الشباب، الذي تمثله العارضة البريطانية كارا ديليفين. فهذه الأخيرة أصبحت وجها مألوفا في عروض لاغرفيلد، تلهمه وتجسد له مفهوم امرأة شابة بات يتوجه إليها في الفترة الأخيرة. كانت هي التي افتتحت العرض بمعطف واسع من التويد وحذاء رياضي من صنع شركة ماسارو، يذكر بالأحذية الرياضية التي طرحها في موسم «الهوت كوتير» الماضي. بعدها ظهرت عارضات أخريات مثل ستيلا تينينت وشقيقة كيم كارداشيان، كاندل جينر، في اقتراحات متنوعة كان القاسم المشترك بينها أن ألوانها تصرخ وتصاميمها ترقص وكأنها تحتفل بتحررها وانطلاقها، خصوصا القطع المستوحاة من البدلات الرياضية، والمعاطف الواسعة ذات الأكتاف المنسدلة. أما تنوعها، فيعكس إلى حد ما الحالة الاستهلاكية التي سلط لاغرفيلد عليها الضوء، لأن كل واحدة منا ستجد فيها ما تحتاجه، وبنفس السهولة التي نتسوق بها في أي سوبر ماركت.
غني عن القول إن الحضور الأنيق نسي نفسه في آخر العرض وحاول الكثير منهم، رجالا ونساء، أن يتسوقوا بالفعل بحمل بعض المنتجات معهم للذكرى، لكن للأسف لم تدم فرحتهم، لأنهم اضطروا أن يتخلوا عما جمعوه بعد توقيفهم عند الباب. فهذه المنتجات، كما شرحت الدار، ليست للبيع وستعرض في بعض المحلات، كأعمال فنية. طبعا كان بإمكان الضيوف أن يأخذوا ما شاء لهم من الفواكه والحلويات.



دانييل لي يُقدم لـ«بيربري» أقوى «عرض» شهدته منذ سنوات

أبدع دانييل لي مجموعة من المعاطف تنوعت تصاميمها وخاماتها بشكل مدهش (بيربري)
أبدع دانييل لي مجموعة من المعاطف تنوعت تصاميمها وخاماتها بشكل مدهش (بيربري)
TT

دانييل لي يُقدم لـ«بيربري» أقوى «عرض» شهدته منذ سنوات

أبدع دانييل لي مجموعة من المعاطف تنوعت تصاميمها وخاماتها بشكل مدهش (بيربري)
أبدع دانييل لي مجموعة من المعاطف تنوعت تصاميمها وخاماتها بشكل مدهش (بيربري)

سيغادر أم لا يغادر؟ هذا هو السؤال الذي كان يدور في أوساط الموضة حول مصير المصمم دانييل لي في دار «بيربري»، حتى مساء الاثنين الماضي. أي قبل أن يقدم عرضاً كان مسك ختام أسبوع لندن لخريف وشتاء 2025. بكل تفاصيله وبهاراته، بشَّر بأن «بيربري» استعادت السحر الذي افتقدته في المواسم الماضية، وأن كل ما يدور من شائعات لا يتعدى كونها كذلك. أو على الأقل هذا ما خرج الحضور وهم يتهامسون به. كان هناك إجماع بينهم على أن العرض استوفى كل مقومات الإبهار والإبداع، بدءاً من عدد النجوم الذين شاركوا في العرض على اختلاف مقاساتهم وأعمارهم، أو احتلوا المقاعد الأمامية، وصولاً إلى الأزياء والإكسسوارات التي تفتح النفس على كل ما له علاقة بالريف الإنجليزي، بما في ذلك الطقس المتقلب.

عاد المصمم في هذه التشكيلة إلى الجذور والأساسيات (بيربري)

أقيم العرض في متحف «تيت بريتان» Tate Britain الواقع على مسافة خطوات قليلة من المقر الرئيسي الجديد لـ«بيربري». بمعماره النيوكلاسيكي شكل خلفية رائعة لعرض كان بمثابة قصيدة شعر تتغزل بالجمال الطبيعي والتاريخي لبريطانيا، فاجأ به دانييل لي الجميع بأنه يتمتع بلمسة ميداسية قادرة على تحويل التراب ذهباً. مهارة ظهرت لديه عندما كان في دار «بوتيغا فينيتا» قبل أن يلتحق بـ«بيربري». هنا أيضاً تجلت هذه المهارة والقدرات في تشكيلة حرَّكت الحواس وأيقظت إرثاً اعتقد البعض أنه فقد صلاحيته في ظل التغيرات الاقتصادية والثقافية التي يمر بها العالم عموماً وبريطانيا خصوصاً.

كونه بريطاني المولد، يعرف دانييل جيداً أن «بيربري» جزء لا يتجزأ من الثقافة البريطانية. كانت دائماً تتوجه لكل الطبقات، المتوسطة والأرستقراطية على حد سواء. وعكتها في السنوات الأخيرة تطلبت منه بذل كل الجهد لحمايتها من دوائر الزمن. وهذا ما كان. جمع نجوماً بريطانيين مثل ريتشارد إي غرانت، وليزلي مانفيل، وإليزابيث ماكغوفرن وناعومي كامبل وغيرهم لمساعدته في تلميع صورتها. هؤلاء شاركوا في العرض وأضفوا عليه بريقاً بنكهة إنجليزية طريفة، بعد أن شاركوا في شهر أكتوبر الماضي في حملة ترويجية أطلقتها الدار بعنوان «إنه دائماً طقس (بيربري)».

أبدع دانييل لي مجموعة من المعاطف تنوعت تصاميمها وخاماتها بشكل مدهش (بيربري)

بيد أنه حتى من دون مشاركتهم، فإن الاقتراحات التي أبدعها دانييل لي كانت كافية لإعادتها إلى قواعدها سالمة غانمة وتذكيرنا بماضيها الغني. يمكن القول إن تشكيلته لخريف وشتاء 2025، كانت من بين أقوى التشكيلات التي تم تقديمها منذ رحيل المصمم البريطاني السابق كريستوفر بايلي في عام 2018 إلى الآن.

دانييل لي مثل بايلي، ابن البلد. فيه تربى ودرس وغاص في وحله واحتمى من مطره، كما يعرف جيداً مدى أهمية «بيربري» في المجتمع البريطاني وتأثيرها على ثقافته. لهذا كانت ورقته الرابحة في هذه التشكيلة العودة إلى الأساسيات التي بُنيت عليها الدار منذ أكثر من قرن من الزمن، وإحياء العلاقة الحميمة التي تربطها بالريف البريطاني وما يتخلله من فروسية ونزهات صيد وفخامة تطبع جدران وستائر ومفروشات بيوته وقصوره.

من كل هذه العناصر، استقى قطع أزياء وإكسسوارات تتعدى الفصول والمواسم. زاد عليها حبة مسك بتطريزها وضخها بتفاصيل مبتكرة عصرية ارتقت بها إلى مستوى جديد.

تكاثف البريطانيون نجوماً وعارضات لإضفاء البريق على دار متجذرة في الثقافة البريطانية (بيربري)

من بين الأقمشة المتنوعة التي استعملها، برزت الجلود الطبيعية والبروكار المخملي والصوف المنسوج بسماكة. الممثل ريتشارد إي غرانت، البالغ من العمر 67 عاماً، مثلاً ظهر على المنصة مرتدياً معطفاً من الصوف مزدوج الصدر، وكنزة بياقة عالية. حمل معه أيضاً قفازات جلدية ومظلة صفراء بنقشات «بيربري» المربعة؛ تحسباً لأي تقلبات جوية قد تداهمه.

تصاميم أخرى كثيرة اقترحها المصمم، استوحى بعضها من عالم الفروسية تشمل سترات وسراويل وغيرها، وبعضها الآخر من أجواء الريف الإنجليزي وحياة المدن بإيقاعها السريع؛ الأمر الذي يحتاج إلى قطعة تحمل صاحبها من النهار إلى المساء بسهولة، مثل معطف باللون الأرجواني ظهرت به ناعومي كامبل، البالغة من العمر 54 عاماً. جاء بتصميم مزدوج الياقة من قماش الجاكار تم تنسيقه مع تنورة متعددة الطبقات وحذاء أسود عالي الساق.

إلى جانب المعاطف التي كانت نجم العرض تألقت العارضات في فساتين بتفاصيل مميزة (بيربري)

هذه هي خامس تشكيلة يقدمها دانيال لـ«بيربري» منذ التحاقه بها في عام 2022، والثانية بعد أن تسلم جاشوا شولمان وظيفته رئيساً تنفيذياً. استراتيجية هذا الأخيرة كانت العودة إلى جذور الدار، أي إلى تلك العلاقة التي تربط تصاميمها بالهواء الطلق، إضافة إلى إعادة النظر في أسعارها، والتي تم رفعها بشكل كبير في عهد الرئيس التنفيذي السابق رغبة منه في الارتقاء بها إلى مصاف بيوت الأزياء العالمية الأوروبية. لكن ما يصلح في باريس وميلانو لا يصلح بالضرورة في بريطانيا. فهذه لها ذائقة مختلفة تماماً في كل شيء، بما في ذلك روح النكتة.

هذا ما استوعبته الدار في هذه التشكيلة. جاءت متنوعة تخاطب الطبقات المتوسطة والأرستقراطية على حد سواء، بألوانها التي تباينت بين درجات متنوعة من البني، والرمادي، والأخضر والعنابي، وأيضاً بخاماتها التي تبث الدفء في الجسم بمجرد النظر إليها.

فساتين السهرة كادت أن تسرق الأضواء من المعاطف المتنوعة (بيربري)

الجميل في المعاطف الصوفية مثلاً أنها على الرغم من أنها تبدو سميكة، فهي تنسدل على الجسم بشكل أنيق، والمعاطف الواقية من المطر مطبوعة بالجاكار ما يُدخلها مناسبات المساء من أوسع الأبواب، بينما صُنعت التايورات من البروكار المخملي وهلم جراً.

اللافت أيضاً، أن أزياء السهرة والمساء، التي لم تكن يوماً تُشكِّل قوة كبيرة للدار، نالت اهتمام المصمم. ضخها بجرعة عصرية أكسبتها جمالاً وجاذبية. غلبت عليها نغمة رومانسية خفيفة وتفاصيل عملية، كادت أن تسرق الأضواء من المعاطف التي كانت نجم العرض بلا منازع، خصوصاً المصنوعة من البروكار الدمشقي والمطرزة بالورود.