الهجمات الإرهابية التي شهدتها العاصمة الفرنسية أخيرًا، والتي أعلن تنظيم داعش المتطرف مسؤوليته عنها، أعادت تسليط الضوء على آفة الإرهاب الذي لا يقيم وزنا للقيم الإنسانية، ويهدد بفتن لا تنتهي. ولئن كانت بعض الجهات قد حاولت لبعض الوقت تجاهل هذه الآفة، أو التقليل من شأنها، وإذا كانت ثمة جهات أخرى قد حاولت أو تحاول ربط الإرهاب بدين بعينه وتعاليم سماوية بعينها، فإن السعودية بادرت إلى تصنيف كل من يمارس العنف باسم الدين تحت المسمى الصحيح ألا وهو «الفئة الضالة». ومن كانت من دول العالم السباقة إلى اعتماد سياسات حازمة للتصدي لهذه الآفة التي استهدفت السعودية كما لم تستهدف دولاً كثيرة غيرها.
أقفل القضاء السعودي، ملفات خلايا إرهابية نفّذت عمليات انتحارية وحرضّت عناصر آخرين على تنفيذ مخططات تستهدف أمن البلاد، عبر قيامهم بتفجيرات إرهابية ومحاولة استهداف القيادات في السعودية وكذلك رجال الدين والأمن، وإلقاء قنابل المولوتوف على المنشآت الحكومية والأمنية، والتشجيع على المطالبة بإسقاط الدولة عبر مسيرات في قرى المحافظات. وتحقق ذلك بعد إصدار أحكام ابتدائية شرعية ضدهم، واستئنافها بصدور حكم الإعدام أو السجن لمدد تصل إلى 30 سنة، حيث أحيلت ملفات القضايا إلى الجهات المعنية في السعودية لتنفيذ عقوبة السجن، وتحديد موعد القصاص.
«الشرق الأوسط» علمت أن أكثر من 60 شخصًا، ممّن تورّطوا في عمليات إرهابية وتحريضية صدرت بحقهم أحكام ابتدائية بالقتل، كما جرى استئناف أحكام عدد كبير منهم، خصوصًا وأن القضاء يستمد أحكامه من الشريعة الإسلامية. وتؤكد هذه الخطوة الوقوف بحزم وعدل في وجه كل مفسد وعابث بأمن البلاد تحقيقًا للعدالة، وتعظيمًا لحق الأنفس المعصومة التي جاءت الشريعة بحفظها والتشنيع على من استهان بها.
ولقد تورّط المدانون في تنظيم «القاعدة» بالإعدام، أو السجن لمدد تصل إلى 30 سنة، في قضايا مختلفة أبرزها التحريض على الإرهاب والقتل، وعمليات التفجير الذي وقعت في السعودية، عندما استهدف تنظيم «القاعدة» ثلاثة مجمعات سكنية في شرق الرياض خلال شهر مايو (أيار) 2003. وفي العام نفسه، نفذ تفجير لمجمع المحيّا السكني، وأيضًا جرى استهداف مجمّع مبنى الوشم، الذي يتكوّن من إدارتي المرور وقوات الطوارئ التابعة للأمن العام، وتفجير مبنى الطوارئ بالرياض، وآخر في خارج مقر وزارة الداخلية، إضافة إلى تفجير مصفاة بقيق النفطية. وفي المقابل، جرى إحباط عدد كبير من العمليات الإرهابية عبر تفخيخ صهاريج مياه، وعدد من السيارات المتوسطة الحجم، لاستهداف مبان حكومية وأمنية وثلاث سفارة غربية في وقت واحد.
وبعدما وصفت وزارة الداخلية السعودية أعمال الشغب المتزايدة في محافظة القطيف وبلدة العوامية (القريبة منها) بالإرهاب، أدين عدد من المتهمين بالتحريض وقتل رجال الأمن والمواطنين، عبر إطلاق النار عليهم أو استهدافهم بقنابل المولوتوف ذات الصنع اليدوية وإثارة الفتنة الطائفية في المجتمع والتدخل في شؤون دول خليجية، أصدرت أحكام بالإعدام والسجن لمدد متفاوتة، كل حسب الجرم الذي اقترفه.
وكان خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، قد شدد عبر منابر عدة على تكثيف الجهود الدولية لمكافحة الإرهاب، في ظل تقاعس بعض الدول عن تفعيل إجراءات لتقصي الحركات المتطرفة، والقضاء عليها. وحقًا، تسعى السعودية، التي كانت ولا تزال هدفا للإرهاب، إلى بلورة فعل دولي عبر ما اقترحه الملك سلمان بن عبد العزيز، في قمة العشرين التي اختتمت أخيرًا في منتجع أنطاليا بجنوب تركيا، بإنشاء مركز دولي لمكافحة الإرهاب تحت مظلة الأمم المتحدة، وأعلن تبرع السعودية بمبلغ 110 ملايين دولار أميركي للمركز.
وتبرز الصورة الحازمة للسياسة السعودية في التعامل مع الإرهاب بشعارٍ قوي، يوازيه الضبط والمكافحة الأمنية، وسياسات عدة تسعى معها السعودية إلى تحقيق السلم والأمن محليًا وإقليميًا، ومبادرات لم يتوانَ حكام السعودية ووزراء داخليتها إلى طرحها في ملتقيات أممية عدة. ومع مصادقة القضاء على إعدام السعودية أبرز منظرين للإرهاب فيها وهما نمر النمر وفارس آل شويل، إضافة إلى عشرات آخرين ثبت تورطهم في قضايا إرهابية، تكون الرسالة السعودية في منبر عال، خاصة وأنها تأتي بعد أسبوع على وقع هجمات باريس الدامية، وبعد تبنّي «داعش» تفجير طائرة روسية فوق سيناء المصرية.
الواقع أن السعودية لم تنهج سبل الوقاية من العنف والإرهاب بعد أحداث 11 سبتمبر (أيلول) فحسب، بل كانت ساعية إلى هدف تحقيق الأمن والسلم الدوليين، والدلالة على ذلك تتضح من موقفها في قمة الألفية التي عقدت في مقر منظمة الأمم المتحدة خلال سبتمبر 2000، وألقى خلالها الراحل الملك عبد الله بن عبد العزيز - رحمه الله - (ولي العهد آنذاك) كلمة السعودية نيابة عن الملك فهد - رحمه الله - وشدد على دور الوقاية من العنف، بل وأعلن تبرع السعودية بـ30 في المائة من ميزانية صندوق العمل الوقائي الدولي.
قبل ذلك التاريخ أيضا كانت السعودية أول دولة من دول العالم الإسلامي توقّع على معاهدة «مكافحة الإرهاب الدولي» في يوليو (تموز) 2000، وسبقت في إجراءاتها عددًا من الدول الكبرى في ما يتعلق بمكافحة تمويل الإرهاب وتهريب المخدرات. فهي وقعت وانضمت إلى اتفاقية مكافحة تهريب المخدرات في عام 1988، وجمّدت أرصدة زعيم «القاعدة» أسامة بن لادن منذ عام 1994، وعملت وفق إجراءات قوية على مكافحة تبييض الأموال.
كذلك استضافت السعودية مؤتمرًا دوليًا لمكافحة الإرهاب في أوائل عام 2005 بمشاركة أكثر من خمسين دولة ومنظمة دولية، ثم استضافت في عام 2013 المؤتمر الدولي المعني بتعاون الأمم المتحدة مع مراكز مكافحة الإرهاب، وكانت جميع هذه المبادرات الدولية تحمل رسائل الرياض إلى العالم، ومؤداها أن القضاء على الإرهاب لا يمكن أن يتحقق إلا بتعاون دولي في استئصال جذوره ومعالجة أسبابه.
الدكتور ناصر العتيبي، قال في هذا الصدد إن «الجهود السعودية كبيرة في تحقيق السلم والأمن عالميًا»، مؤكدًا على الدور القيادي للسعودية في وضع أطر مؤسسية لمكافحة الإرهاب، وأضاف العتيبي خلال اتصال مع «الشرق الأوسط» أن «التقارير الدولية تشير إلى مقاربة الجهود السعودية في مكافحة الإرهاب، وأنها من أكثر الدول التي تعرّضت للجرائم التي تهدد أمن وسلامة الناس لكنها نجحت عبر برامجها في وضع حد كبير ضدها».
وعبّر العتيبي، المتخصص في شؤون العلاقات الدولية، أن «أمام الدول الغربية كثيرا من القناعات التي بادرت بها السعودية في إطار تبنيها لخطط لمكافحة الإرهاب، من خلال كثير من الإجراءات يكون من ضمنها مرصد دولي يعمل على تبادل المعلومات بين الدول، واستصدار قوانين رادعة ضد كل من يهدد الأمن المحلي والإقليمي والدولي»، معتبرا أن «ذلك من شأنه ترقية الوعي ونشر التسامح، والحوار العالمي». أيضًا، وصف تقرير لكريستوفر بوشيك، المتخصص في قضايا الشرق الأوسط بمعهد كارنيغي بواشنطن، العمليات الأمنية السعودية وعملها المؤسسي بأنها «أفضل برنامج مضاد للتطرّف في العالم من حيث الشمولية والاستمرارية»، وأردف أن البرنامج السعودي «يعطي النتائج التي تسمح للدول الأخرى من الاستفادة منه»، واستطرد في تقريره أن « دولا في الشرق الأوسط وأوروبا بدأت تحاكي البرنامج السعودي وإجراءاته».
الجدير بالذكر، أنه عبر العقود الماضية ألحق الإرهاب بالسعودية أضرارًا جسيمة وخلّف ضحايا من المدنيين والعسكريين. ولقد حاول خلال تلك الفترة أفراد التنظيمات الإرهابية شلّ الحياة في البلاد، التي تجاوزت بخبرة اليوم وقوة الأمس كل التحديات. فكانت السعودية في أبرز صور التصدي للإرهاب عند اقتحام جهيمان العتيبي الحرم المكي بعشرات من المسلحين، الذين انتهى بهم الحال جميعًا على مقصلة القضاء الذي حكم بإعدامهم في عدد من مناطق السعودية خلال العام 1979.
وكان للحزم السعودي أمام الإرهاب مثال آخر تجسّد في قضية الإعدام الأخرى في مكة المكرمة، حيث أُدين 16 كويتيا بالضلوع في تفجيرين قرب الحرم المكي في موسم الحج عام 1989، ذهب ضحيتهما شخص واحد وسجلت أكثر من 10 إصابات. وكانت وراء التفجيرين ما عُرف بخلية «حزب الله الكويتي» التي تلقّت أوامرها من إيران بهدف ضرب استقرار الحجاج قبل بدء موسم حجهم، ونفذت السعودية حكم الإعدام بعد تصديقه شرعًا وفق الأنظمة القضائية.
كذلك حكم القضاء السعودي على أربعة من الإرهابيين بالقصاص (الإعدام) بعد اعترافهم بتفجير العُليّا في نوفمبر (تشرين الثاني) من عام 1995 وهم: عبد العزيز المعثم ورياض الهاجري ومصلح الشمراني وخالد أحمد السعيد، بعدما نجحت القوات الأمنية في إلقاء القبض عليهم. ويومذاك أعلن وزير الداخلية الأمير نايف بن عبد العزيز - رحمه الله - أنه جرى القبض على الجناة «اعتمادًا على خبرات رجال المباحث العامة وكفاءتهم»، وتم تقديمهم للعدالة التي أنهت القضية بإعدامهم.
وفي أغسطس (آب) الماضي نفّذت السعودية عقوبة الإعدام في اثنين من أفراد تنظيم «القاعدة». وكانت أول عقوبة منذ بدء موجة الإرهاب قبل أكثر من عشر سنوات، حين نفذت الحكم الصادر من المحكمة الجزائية المتخصصة بقضايا الإرهاب، بحق عنصرين من عناصر «القاعدة» وهما من الجنسية التشادية، في مدينة جدة، بعد قتلهما أحد المقيمين في السعودية من الجنسية الفرنسية.
وحينذاك أعلنت وزارة الداخلية في بيانها أن صالح بركاج وإسحاق شاكيلا انضما إلى خلية إرهابية داخل السعودية تابعة لتنظيم «القاعدة» الإرهابي «تعتنق المنهج التكفيري المُخالف للكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة، وتعمل على رصد ومتابعة المستأمنين والمعاهدين». وقاما بإطلاق النار على أحد المستأمنين من الجنسية الفرنسية، ويدعى لوران باريو، حيث قاما برصده ومتابعته وإطلاق النار عليه من سلاح رشاش تسبب في قتله «بناء على معتقد فاسد باستباحة دماء المستأمنين والمعاهدين والشروع في اغتيال بعض المسؤولين الأجانب داخل السعودية، ورصد ومراقبة السيارات التابعة لإحدى القنصليات بالسعودية، وإطلاق النار على بعض منسوبيها، واتفاقهما على استهداف الرعايا الأجانب بصفة فردية بقصد اغتيالهم، وحيازتهما أسلحة بقصد الإفساد والاعتداء والإخلال بالأمن».
وفي عام 2008 أنشئت «المحكمة الجزائية المتخصصة» بموجب أمر ملكي للنظر والتسريع في قضايا الإرهاب والموقوفين في قضايا أمن الدولة. وبدأت النظر بعدها بعام ونصف في القضايا المتعلقة بالموقوفين الأمنيين والتيارات المتطرفة، وقضايا سجن أخرى بحق متهمين على علاقة بالمنهج التكفيري. وتتصدّى المحكمة الجزائية المتخصّصة قضائيا لقضايا المتورّطين في قضايا الإرهاب، منذ بدء موجة الإرهاب على السعودية في مايو عام 2003 بتفجير ثلاثة مجمّعات سكنية في العاصمة الرياض، وما تبعها من أحداث، من مجمع المحيّا السكني بالرياض وكذلك مجمّع الواحة بالمنطقة الشرقية، وهي قضايا أغلقتها المحكمة وأصدرت فيها الأحكام، وكان التنفيذ بالأمس.
وتمتثل المحكمة الجزائية المتخصصة لمبدأ علنية الجلسات، وتتيح الفرصة لممثلي جمعية حقوق الإنسان ووسائل الإعلام ووكلائهم من المحامين وذوي المتهمين لحضور جلسات المحاكمة، والاستماع إلى مداولات الجلسات ومنطوق الأحكام.
وكانت المحكمة قد أكدت في العام الماضي أن أعداد المحكوم عليهم بلغ 1940 متهمًا منهم أفراد وخلايا تورّطوا في قضايا إرهابية وتهديد للأمن والسلم في السعودية، وأصدرت خلالها أحكامًا ابتدائية على 314 متهما أدينوا بالإرهاب أو تمويله، علاوة على العشرات من الأحكام لمتهمين على علاقة بالمناهج المتطرفة من «القاعدة» و«جبهة النصرة» و«داعش» وغيرها من التيارات المتطرّفة.