* في العام 1960 قام أرنولد سبيلبرغ بزيارة موسكو في بعثة تبادل مهندسين وسنحت له فرصة التقاط صور لطائرة من نوع U2 أميركية، كان الروس أسقطوها وأسروا قائدها غاري باورز. لم يكن ذلك هو التحليق الأول للطائرة المتخصصة بالتجسس والتقاط الصور عن ارتفاع شاهق، لكن الروس لم تكن لديهم، آنذاك، القدرة على إسقاط تلك الطائرات منذ أن باشرت تحليقها فوق الأجواء السوفياتية سنة 1956.
تطلب الأمر من الروس تطوير سلاح صواريخهم الجوية، حتى إذا ما قام باورز بالتحليق في الأول من مايو (أيار) 1960 تصدى الروس للطائرة وأصابوها. حاول باورز تعطيل الأجهزة حتى لا يتسنى للروس الاطلاع عليها، لكنه عندما وجد أن الأجهزة لا تعمل على تدمير أنفسها، قفز بالمظلّة ناجيًا بنفسه ليحط خارج مدينة سفردلوفسك حيث تم اعتقاله.
حين عاد أرنولد سبيلبرغ من موسكو أبلغ ابنه الشاب ستيفن برحلته. الذاكرة بقيت في بال الابن الذي كان بدأ في تحقيق أفلام قصيرة بكاميرا اشتراها له والده. ثم غاب الحادث برمّته عن الحضور، ليس بالنسبة لسبيلبرغ الابن فقط، بل كذلك بالنسبة لما عرفته الحقبة المذكورة من حرب باردة. فبعد أن تم إلقاء القبض على باورز وعلى كاميرات التجسس التي لم تتضرر تم التحقيق معه لثمانية أشهر قبل أن يعترف، تبعًا لمصادر الاستخبارات الأميركية، ويَصدر بحقه حكم بالسجن لعشر سنوات. بعد ثلاث سنوات تمّت مقايضته بجاسوس أميركي ألقي القبض عليه متلبسا اسمه فردريك برويور. الفارق بين باورز وبرويور أن الأول أصبح موضوع الفيلم الجديد «جسر الجواسيس» الذي قام ستيفن سبيلبرغ بإنتاجه وإخراجه، بينما لف النسيان برويور تمامًا.
* حكايات لفترات مختلفة
المشروع لم يكن واردًا لدى سبيلبرغ. من بعد ثلاث سنوات على آخر فيلم من إخراجه، وهو «لينكولن»، شغل المخرج المعروف نفسه بالإنتاج فقط فأنجز ثلاثة أعمال هي «ترانسفورمرز: عصر الإبادة» (2014) و«رحلة المائة قدم» (2014) و«جيروسيك وورلد» (2015).
الغياب، يقول ستيفن سبيلبرغ لمحدّثه، كان مبررًا:
«بعد فيلم (لينكولن) فكرت في الفيلم المقبل الذي أستطيع القيام بإخراجه. كانت عندي احتمالات كثيرة، لكني كنت منجذبًا لرواية خيالية اسمه (العملاق الودود) The Big Friendly Giant، وهي رواية أطفال وضعها المؤلف البريطاني رولد دول سنة 1982، وبدأت بتحضيرها لتكون فيلمي المقبل. هذا، لجانب ما قمت به من إنتاج، شغلني لمعظم الوقت إلى أن أدركت أن (جسر الجواسيس) هو الفيلم الذي أريد تحقيقه. (العملاق الودود) يستطيع الانتظار قليلاً».
«جسر الجواسيس» هو رابع تعاون سينمائي بين المخرج وممثله المفضل توم هانكس من بعد «إنقاذ المجند رايان» (1988) و«اقبض علي إذا استطعت» (2002) و«ذا ترمينال» (2004). لكنه الفيلم الخامس عشر الذي يخرجه سبيلبرغ حاملاً حكايات من الماضي. هذا العدد يتضمن أفلامه اللاهية مثل سلسلة «إنديانا جونز» والكوميديا المنسية «1941» علما بأن معظم تلك الاستعدادات لحقب الأمس القريب منه والبعيد نوعًا، كان من تلك الأعمال الجادّة التي تشكّل الوجه الآخر من اهتمامات المخرج سبيلبرغ.
فإلى جانب سلسلة «إنديانا جونز» وأفلام الخيال العلمي، مثل «جيروسيك بارك» و«لقاءات قريبة من النوع الثالث» وسواها، وإلى جانب أفلام الكوارث من نوع «جوز» و«1941» نفسه، كشف المخرج عن نصفه الآخر كمخرج أفلام نشد أن تمثل الجانب المفكّر منه. أفلام واقعية المنشأ وإن شابها الكثير من الأحداث الخيالية، تستعيد من الماضي حكاياتها ومواقع تلك الحكايات من الفترات المختلفة، كما تحكي عن شخصيات يعتبرها المخرج بطولية، وفي حالات كثيرة، هي كذلك فعلاً.
ففي عام 1985 زار سبيلبرغ حقبة الثلاثينات في الجنوب الأميركي العابق بالتعسّف (ولو كان داخل الأسرة الأفرو - أميركية ذاتها) وهذا في «اللون بنفسجي». فيلمه التالي، بعد عامين، كان حكاية واقعية أخرى في فترة الحرب العالمية الثانية حول صبي بريطاني فقد والديه في ذروة القوة العسكرية اليابانية وذلك في «إمبراطورية الشمس» (لعب دور الصبي كرستيان بال الذي أصبح نجمًا كبيرًا فيما بعد).
وتعددت الزيارات فيما بعد: يتعرض لما وقع لليهود خلال الحقبة النازية في «قائمة شيندلر»، ويعالج سبيلبرغ مرّة أخرى حياة الأفرو - أميركيين في «أميستاد» (1997) ثم يزور الحرب العالمية الثانية في «إنقاذ المجند رايان» (1998) ثم يستلهم حكاية من الستينات في «اقبض علي إن استطعت» (2002) ليعود إلى السبعينات في «ميونيخ» (2005) حيث عمليات الموساد لاصطياد منفذي عملية ميونيخ قبل أن يعود إلى الحرب العالمية الأولى في «حصان الحرب» (2012) ثم إلى ما قبل ذلك في تلك الدراما المنسوجة حول حياة الرئيس الأميركي في «لينكولن» (2012).
* الحرب الباردة
بالنسبة لفيلمه الجديد «جسر الجواسيس» هو استقراء في الحرب الباردة خلال الستينات والسبعينات. الجاسوس باورز ليس بطل الأحداث لكنها تدور حوله. أما البطولة فهي لشخصية المحامي الذي كانت له علاقة وطيدة بعالم الجواسيس والذي انتدب لمتابعة موضوع باورز وتسهيل مسألة الإفراج عنه، ثم مصاحبه الأميركي بريور فوق ذلك الجسر البرليني الفاصل بين شقي المدينة لمبادلته بباورز.
توم هانكس في دور المحامي دونوفان وأوستون ستووَل في دور باورز، بينما لعب شخصية بريور ول روجرز. وحسب الفيلم لم يلتق دونوفان بأي من الجاسوسين من قبل. والفيلم يتابع حكاية دونوفان في حياته اليومية ثم في مهامه التعاونية مع الحكومة الأميركية ووكالة المخابرات الأميركية ومساعدته لهما في إطلاق سراح باورز.