الجلوس إلى سبيلبرغ (للمرّة الرابعة بالنسبة لي) هو جلوس تلميذ إلى أستاذ يعرف كل شيء خصوصًا وأنه في فيلم جاسوسي كهذا، يصبح من نافل القول إن ما يعرفه سبيلبرغ ولم يظهره على الشاشة هو أكثر مما ظهر على الشاشة فعلاً:
* مستر سبيلبرغ، ماذا حدث لباورز بعد إطلاق سراحه؟
- في اعتقادي لم يُعامل جيّدًا. حين عودته إلى البلاد لم يُستقبل بالتقدير بل بفتور شديد وبكثير من التمييز. ولا أعتقد أنه كان يستحق هذه المعاملة لأني من بعد اطلاعي على خلفية ما حدث وبعد جلوسي مع ابنه، أصبحت واثقًا من أن غاري لم يخن بلاده ولم يعط الروس معلومات من أي نوع. في العام 2012 تمت إعادة نوع من الاعتبار إليه، وذلك بعد موته. كان على عائلته الانتظار سنوات كثيرة من قبل أن يتم تقديم شكر رسمي لجهوده.
* ألم يتعرض باورز للتعذيب خلال فترة التحقيق معه؟
- لا أعتقد أن باورز تعرض للتعذيب الفعلي. لم يُضرب أو تم تجويعه أو مسه بالكهرباء أو أي شيء من هذا النوع. حسبما أخبرني ابنه أن كل ما كانوا يقومون به هو إبقاؤه مستيقظا طوال الوقت ورش الماء على وجهه حين يكاد النوم يغلبه. كانوا يجلبونه للتحقيق مرّة كل ساعتين ويسألونه الأسئلة ذاتها مع أسئلة جديدة في كل مرّة لعله ينهار تحت الحاجة إلى النوم. لكن الروس كانوا حصلوا على معلومات كافية حول الطائرة ذاتها وأجهزتها.
* هذا لا يتبدى كثيرًا في الفيلم. هناك مظاهر قسوة لدى الجانب الروسي.
- لأنها هي قسوة بالغة منع أحد من النوم لأيام وربما أسابيع.
* في المقابل يبدو المحققين الأميركيين أكثر احترامًا لسجينهم بريور.
- خلال تلك الحقبة كان هناك التزام بحقوق المتهمين حتى لو كانوا من رعايا دول أخرى. هؤلاء كانت لديهم الحقوق ذاتها للأميركيين. ولم يكن الاعتداء على هذه الحقوق واردًا. لقد أردت من خلال إظهار معاملة المحققين الأميركيين هذه إظهار الاختلاف عما كان سائدًا آنذاك وعما هو الحال السائد الآن في كل مكان.
* قواعد اشتباك
مع «ميونيخ»، الذي سرد فيه المخرج حكاية مستمدة من ملفات حقيقية أخرى لفريق من الموساد يلاحق مشتبه بهم فلسطينيين يُعتقد أنهم شاركوا أو خططوا لعملية ميونيخ التي نجم عنها مقتل معظم أفراد الفريق الرياضي الإسرائيلي، يكون «جسر الجواسيس» ثاني فيلم له يتعامل والجاسوسية. نوع من الأفلام التي يقول سبيلبرغ إنه يفضلها:
«نعم. أحب أفلام الجاسوسية. لقد ترعرعت على شخصيتي الجاسوسيين الشهيرين في مجلة (ماد) (أبيض وأسود يتبادلان الهزيمة والانتصار عددًا بعد عدد) وعلى أفلام جيمس بوند الأولى كذلك على كلاسيكيات في هذا النوع مثل (الجاسوس الذي جاء من البرد) و(ملف آيبكريس)». لكن أريد أن أذكر أنه في الوقت الذي ينتمي فيه «جسر الجواسيس» لأفلام الجاسوسية إلا أنه أيضًا فيلم عن حياة ذلك المحامي الذي يعمل الآن في قضايا التأمين الذي يتم جرّه إلى المخابرات بسبب إلقاء القبض على باورز. وكيف أثر ذلك على حياته العائلية. وأردت كذلك أن أبين أن دونوفان كان مصرًّا على مثالياته وأخلاقياته العليا. وعلى كيف ستتم معاملة عميله رودولف أبل والجاسوس الشاب بريور.
* هناك حالة حرب باردة بين الولايات المتحدة وروسيا من جديد هذه الأيام. هل توافق؟
- عندما كنا نصوّر في برلين اندلع القتال في أوكرانيا وضم الروس جزيرة القرم إليهم. الآن هم في سوريا يساندون الأسد، وما أخشاه هو قرع طبول الحرب بين الطرفين. الفيلم لا ريب يذكر بالوضع الحالي بينما يقص وضعًا سابقًا كانت له تداعياته الخطيرة آنذاك أيضًا. الحروب سيئة وهي ثمار خطوات سيئة أخرى تؤدي إليها.
* ما الفرق بين حروب الأمس واليوم إذا ما كانت كل الحروب سيئة؟
- أعتقد أنه كانت هناك قواعد اشتباك تقوم على مبادئ معيّنة لا يجوز تجاوزها، ولم يكن يسمح أي فريق لنفسه أن يتجاوزها. لكن اليوم ليست هناك قواعد سوى ما تم للبعض فرضه لأجل تنفيذ آيديولوجياتهم. كثير من هذه القواعد الجديدة بربرية. في حياتي لم أر مثيلاً لما يحدث الآن.
* الماضي يحضر
تم تصوير «جسر الجواسيس» في أماكنه الطبيعية. هذا ما سبق وأن قام سبيلبرغ به أيضًا عندما صوّر «قائمة شيندلر» و«ميونيخ» وحتى «لينكولن» أيضًا. لكن سبيلبيرغ لا يقصد إدارة ظهره لوسائل العمل الصناعية الأخرى. معظم ما يصوّره حاليًا يتم بكاميرات ديجيتال، والكثير من أفلامه الخيالية والترفيهية مصنوعة على الكومبيوتر غرافيكس كونه من الصعب العودة إلى تلك المؤثرات التصويرية السابقة التي كانت سائدة حتى نهاية السبعينات.
ذلك يخلق مستويين في أعماله: بينما يستعين ويطبّق آخر مستحدثات صناعة المؤثرات وبرامجها الإلكترونية في بعض أفلامه، يلغيها جميعًا عندما ينصرف لتحقيق أفلام لها نصيب من الواقع.
كون سبيلبرغ مخرج يتعامل عمومًا والمشاعر الإنسانية حتى ولو اضطر لتطويعها لخدمة الموضوع ولإثارة ردّات فعل عاطفية موازية لدى الجمهور، فإن التصوير الواقعي يضمن له القدرة على ضبط هذه المشاعر وتبويبها أكثر مما لو جلس وراء فنيي المؤثرات لخلق جو معيّن. لذلك كان لا بد من سؤاله:
* عوض أن تستعين بنظام الديجيتال لكي تبني برلين القديمة والجدار وجسر غلينييك الذي عٌرف بجسر الجواسيس، قصدت التصوير في المواقع الحقيقية وقامت الحكومة الألمانية بإغلاق الجسر لثلاث ليال على التوالي. ما الذي يوفره التصوير في المواقع الطبيعية؟
- سؤالك في محله فعلاً. بالنسبة لأفلام مستوحاة عن الواقع وربما هي واقعية إلى حد كبير أعتقد أن التصوير في المواقع الحقيقية مهم جدًّا. كما تقول كان يمكن تصوير بعض المناظر ثم البناء عليها بواسطة الديجيتال، لكن هناك شيئا خاصا حين تصوّر في الموقع الحقيقي. شخصيًا، أشعر بالتاريخ ذاته وهو يعود ويحضر، وبأن الفيلم يستفيد من المكان لأنه يعايشه. كذلك يفعل الممثل الذي يقف في المكان نفسه ويستخدم أدوات الموقع ذاته كما الحال في «لينكولن» أيضًا. شيء خاص ينتج عن وجودنا جميعًا في المكان الحقيقي، ولا أعتقد أن أي شيء بديل يمكن له أن يوفّر الشعور ذاته.
* هناك ملامح عاطفية متعددة في أفلامك. نقادك يقولون إنك تحاول جذب المشاهد لتبني شخصياتك الرئيسية بتقديم مشاهد تثير التعاطف على نحو مباشر. هل هذا صحيح؟
- عليك أنت أن تقرر ذلك. بالنسبة لي يعتمد ذلك على مناسبات مختلفة. عندما أخرجت «ميونيخ» هاجمني الإسرائيليون وهاجمني العرب، وكل ذكر أنني كنت مع الصف الآخر. هذا يلغي ذلك النقد. لكن في «قائمة تشندلر» مثلاً، لم يكن من المقبول أن أقف على الحياد حيال المأساة وسوء المعاملة. لكني لم أعمد إلى التعامل العاطفي وإلا لصوّرت شخصية الضابط النازي على نحو تقليدي. أعتقد أن هناك عددا كبيرا من النقاد الأميركيين الذين لاحظوا أنني هدفت إلى تقديم شخصية معقدة ومركّبة وليست شخصية أحادية ونمطية.
* هل العمل مع توم هانكس سهل أم صعب؟
- كما تعلم عملنا أربع مرّات مع بعضنا البعض، وآمل أن نتعاون من جديد في أفلام أخرى. «العملاق الودود» بالمناسبة كُتب وهو في البال. لكن بالعودة لسؤالك، توم هانكس من بين أفضل ممثلينا. قليلون جدًا في مرتبته وكفاءته الفنية. ودائمًا أحب أن أعمل معه. لكن بالإضافة إلى تلك الكفاءة هناك شيء يحببني بالطريقة التي يركّز فيها هانكس على الدور. منذ المرّة الأولى اعتاد أن يأتي إلي قبل التصوير ليسألني إذا ما كان يستطيع حذف عبارة ما في حواره. وغالبًا ما كنت أجد أن الحق معه. يعرف ما يريد أن يقول عبر شخصيته. ما يصلح لها أن تقوله وما قد لا تقوله في وضع ما. تصحح الشخصية أمام الجمهور في الوقت ذاته. هذا أمر يفعله الممثل الجيّد الذي ينتبه إلى واقعية الحوار من عدمه حتى ولو كان الحوار بأسره مكتوبًا جيدًا.
* ماذا عن الأخوين كووَن اللذين عملا على سيناريو «جسر الجواسيس» أيضًا؟
- بعد كتابة السيناريو الأول قررت أن أستعين بهما لأني أردت معالجتهما المعروفة. هما من أفضل من يستطيع إصباغ المعالجة الساخرة، بحيث لا يبدو العمل منتميًا إلى وجهة نظر محددة وبجمود. دورهما كان في هذا الإطار، وأعتقد أن الفيلم استفاد من مساهمتهما كثيرًا.
ستيفن سبيلبرغ لـ«الشرق الأوسط»: الحرب الباردة عادت
مخرج هوليوود يزور الماضي مجددًا من خلال {جسر الجواسيس}
ستيفن سبيلبرغ لـ«الشرق الأوسط»: الحرب الباردة عادت
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة