مترو الأنفاق في العاصمة الروسية موسكو يشكل ظاهرة فريدة بحد ذاتها، وفرادة مترو موسكو تنبع من كونه أقرب ما يكون بالنسبة للعاصمة الروسية الضخمة بمثابة مكانة الدورة الدموية والجملة العصبية لجسد الإنسان. فمع ساعات الفجر الأول تبدأ بوادر النشاط في تلك الشبكة المعقدة من الممرات الكثيرة تحت الأرض. وفي السادسة صباحا تفتح محطات المترو أبوابها، فترى الناس أفواجا يتدفقون داخلاً نحو الأسفل بسرعة. إلا أن المرء وهو يستخدم وسيلة النقل في عصر السرعة كثيرًا ما يفوته التوقف لتأمل الجمال من حوله في صالات المحطات. بعضها يبدو مثل صالات القصور، والبعض الآخر وكأنه متحف، وهناك منها ما يتعلق بعالم الكيمياء مثل محطة مترو «مندلييفسكايا»، التي أطلق عليها هذا الاسم تخليدا لذكرى الكيميائي الروسي الشهير ديمتري مندلييف واضع النسخة الأولى من الجدول الدوري للعناصر الكيميائية. في تلك المحطة تشعر كأنك تمر عبر تاريخ الكيمياء، تحت إضاءة ثريات تم تصميمها على شكل بنية الكريستال.
ومن عالم الكيمياء إلى صالة تكاد تكون أحد أفخم المعارض الفنية في العالم، هي بهو محطة مترو «كييفسكايا»، الذي تنتشر على جانبيه مجموعة لوحات فنية فسيفسائية تتحدث عن «الصداقة الأبدية بين الشعبين الأوكراني والروسي»، وتجسد إحدى اللوحات «صداقة فلاحة أوكرانية وفلاحة روسية»، فضلا عن لوحات فسيفسائية أخرى تصور حياة الفلاحين الأوكرانيين، ذلك أن اللوحات الفسيفسائية في المحطة مكرسة لمناسبة 300 عام على الصداقة الأوكرانية - الروسية. وبغض النظر عن موضوعاتها فهي لوحات عظيمة من الناحية الفنية الجمالية، جعلت من محطة المترو معرضا فنيا تاريخيا يجذب اهتمام الجميع.
ولادة هذا الصرح الحضاري كانت عسيرة، حيث لم يلق اقتراح المهندس الروسي تيتوف عام 1875 بشق نفق سكك حديدية تحت الأرض قبول سلطات المدينة في روسيا القيصرية حينها، وكذلك كان الرفض مصير مشروع آخر تم عرضه عام 1902، وعندما تم إقرار مشروع المترو عام 1913، أتت الحرب العالمية الأولى وحالت دون ولادته. أخيرًا وفي عام 1933 تم اعتماد مخططات الخطوط الأولى من شبكة مترو موسكو، وبدأت أعمال بناء شبكة مترو الأنفاق في موسكو، ليتم افتتاح المحطة الأولى منتصف مايو (أيار) عام 1935، وهو اليوم الذي يشكل تاريخ ميلاد مترو موسكو.
بعد خمس سنوات على افتتاحه نشبت الحرب العالمية الثانية، وكانت السلطات السوفياتية على وشك أن تغرقه بالمياه كي لا يستفيد منه النازيون إن احتلوا العاصمة موسكو، وكان يوم 16 أكتوبر (تشرين الأول) عام 1941 الوحيد الذي يتم فيه إغلاق المترو منذ ولادته وحتى يومنا الحالي، وفي مساء اليوم ذاته تم إلغاء قرار إغراق المترو. بعد ذلك لعب المترو دور الملاذ الآمن للموسكوفيين الذين وجدوا فيه خير ملجأ هربا من قصف الطائرات النازية. كذلك استفادت منه القيادات السوفياتية في إقامة احتفالاتها الحزبية، وتحديدًا في المحطة التي أطلق عليها اسم الشاعر العظيم مايكوفسكي. كما تحولت محطة مترو «كورسكايا» سنوات الحرب العالمية الثانية إلى مكتبة.
معايشة المترو لكل هذه الأحداث، فضلا عن ولادته في حقبة الاتحاد السوفياتي تركت أثرًا واضحا على معالمه، وتم تصميم محطاته الأولى بأسلوب يعكس روح المرحلة سياسيًا، ويجمع بين أرقى مستويات الفن الرفيع. مثالا على ذلك محطة مترو «بلوشاد ريفالوتسيا» أي «ساحة الثورة»، التي تنتشر على جانبي صالتها أقواس من الرخام بكل أنواعه الفاخرة، وعلى جانبي كل قوس تقف منحوتات فنية تصور شخصيات رئيسية في المجتمع السوفياتي مثل «الثوري العامل» و«الثوري الجندي»، و«الفلاحة التي حملت السلاح» و«المظلية ذات الجدائل» وغيرها، ويبلغ عدد هذه المنحوتات في محطة «بلوشاد ريفالوتسيا» 76 منحوتة كلها من البرونز.
عمليات بناء وتوسيع مترو موسكو لم تتوقف يومًا، باستثناء بعض الجمود في التسعينات. وفي أيامنا هذه يولي محافظ موسكو سيرغي سوباينين اهتماما خاصًا بتوسيع شبكة مترو الأنفاق في موسكو. بينما يواصل المترو تأدية وظيفته الرئيسية كوسيلة نقل لا بديل عنها في موسكو، دون أن يتخلى عن دوره الثقافي كمعرض متجدد، ومشاركته لاهتمامات المجتمع. وفي هذا السياق قام فنانون بتحويل قاطرات المترو إلى معارض متنقلة، حين استغلوا سطح الهيكل الخارجي للقاطرة ورسموا عليه لوحات فنية منحت القاطرة الزرقاء روحا جديدة، ومن الداخل تحولت جدران القاطرة إلى معرض للوحات فنية شهيرة. كما انضم المترو إلى حملة حماية أنواع مهددة بالانقراض من نمور وفهود مناطق شرق روسيا. وقام الفنانون برسم مناظر طبيعية من تلك المنطقة على الجدران الداخلية الخارجية لعربات المترو، تظهر فيها تلك الأنواع من الحيوانات المهددة بالانقراض. ضمن هذه الأجواء يتحول التنقل في مترو موسكو إلى نزهة ترفيهية تثقيفية فنية تاريخية.
شبكة مترو موسكو تحمل التاريخ وتعرض الفن
شاهدة على الحقبة السوفياتية وجاذبة للفنانين المعاصرين
شبكة مترو موسكو تحمل التاريخ وتعرض الفن
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة