ميخائيل بوغدانوف مبعوث {الضرورة}

من هو رجل الكرملين الخاص في الشرق الأوسط؟

ميخائيل بوغدانوف مبعوث {الضرورة}
TT

ميخائيل بوغدانوف مبعوث {الضرورة}

ميخائيل بوغدانوف مبعوث {الضرورة}

المعارف والخبرات التي تراكمت على مدى عشرات السنين تحدد كثيرا من ملامح شخصية ميخائيل بوغدانوف، نائب وزير الخارجية الروسي المولج ملفات الشرق الأوسط وموفد الكرملين إلى المنطقة. وحسب المقربين منه والمعجبين بكفاءاته، تكشف الجولات المكوكية التي يواصل القيام بها في مختلف العواصم الأوروبية والعربية في إطار مهمته مبعوثا شخصيا للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، عن تفرّد واضح، وقدرات فائقة على الإمساك بكل تلابيب المشكلات التي كانت ولا تزال تؤرق العالم، ومنها ما يهدد بالانفجار. ويقولون إن بوغدانوف لطالما سار على حد السيف لدى محاولات تقريب المواقف انطلاقا من دراسات مستفيضة وإلمام بكل جوانب القضايا موضع البحث، وإدراكا وتداركا لطبيعة الحسابات والتقديرات.
تسلط «الشرق الأوسط» الضوء اليوم على شخصية ميخائيل بوغدانوف، الرجل الذي يتابع أولاً بأول قضايا الشرق الأوسط في العاصمة الروسية موسكو، بصفته نائب وزير الخارجية الروسي المولج إدارة ملفات الشرق الأوسط، والمبعوث الشخصي للرئيس فلاديمير بوتين إلى المنطقة.
بوغدانوف سياسي ودبلوماسي من مدرسة الدبلوماسيين الذين يقرأون الماضي ليستشرفوا منه أبعاد المستقبل، معتمدين على مؤهلات مهنية رفيعة، وملكات فطرية، ومعايشة طالت لسنوات مع قيادات كثير من البلدان العربية، واستطاع عبر السنين كسب ثقتها واحترامها بفضل إجادته اللغة العربية وإلمامه بالثقافة العربية وعادات شعوب المنطقة وتقاليدها.
قدرة ميخائيل بوغدانوف، تدعمها سيرته الذاتية، فقادته إلى واحد من أبرز المؤسسات التعليمية السياسية في روسيا، ألا وهو «معهد العلاقات الدولية» التابع لوزارة الخارجية السوفياتية، في نهاية ستينات القرن الماضي. وهناك عرف وزامل عددًا من أشهر الخبرات الدبلوماسية؛ منهم سيرغي لافروف وزير الخارجية و«عميد» الدبلوماسية الروسية، وكوكبة أخرى من أبرز رجال الدولة والسياسة في روسيا وخارجها.
وما يجدر ذكره أن الرئيس الروسي بوتين عندما تولى مقاليد الحكم قصر مهمته في البداية على منطقة الشرق الأوسط وبلدانها العربية، لكنه سرعان ما ضم إليها أفريقيا بكل مشكلاتها وقضاياها، وهي مهام معقدة تنوء بحملها الجبال. ولعل الرئيس الروسي كان يدرك أن بوغدانوف خير من يضطلع بها، لا سيما أنه خبره جيدًا من خلال متابعة مسيرته قبل أن يقع عليه خيار لافروف، زميل الدراسة وصديق العمر، في عام 2011 لتولي منصب نائب وزير الخارجية المسؤول عن ملف البلدان العربية.

السيرة الشخصية
ولد ميخائيل بوغدانوف في موسكو لعائلة جنرال سوفياتي في 2 مارس (آذار) 1952، وتخرج عام 1974 في «معهد العلاقات الدولية» في موسكو الذي فجر كثيرا من طاقاته. ومن الطريف الذي نجده في سيرة بوغدانوف نشاطه الاجتماعي والرياضي خلال سنوات دراسته في هذا المعهد؛ إذ كان قائدا لفريق منتخب المعهد لكرة السلة، مما يفسر ولعه بمتابعة هذه اللعبة. كذلك كان سنوات فتوته لاعبًا محترفًا في فريق نادي لوكوموتيف في العاصمة موسكو. غير أن مسيرته مع الرياضة انتهت، عند اختياره السير على طريق العمل الدبلوماسي، وإن كان نقل معه إلى مجال الدبلوماسية.. كل المهارات الدقيقة للاعب كرة السلة المحترف.

البداية من اليمن.. ثم لبنان
واستهل بوغدانوف حياته العملية في وزارة الخارجية السوفياتية – قبل انهيار الاتحاد السوفياتي، طبعًا – من أولى درجات السلم الدبلوماسي عبر العمل ضمن جهاز سفارة بلاده في اليمن. وفي اليمن أمضى ثلاث سنوات جاب فيها البلاد من أقصاها إلى أقصاها، وتعرف على كثير من زعماء قبائلها وقياداتها السياسية والحزبية، تسنده إجادته الرفيعة للغتين العربية والإنجليزية، ويفتح له الأبواب إلمامه بجانب كبير من تاريخه، وهو ما يساعده اليوم في حواره مع مختلف أطراف الأزمة الراهنة ولقاءاته المتكرّرة مع الوفود اليمنية من الحكومة ومناوئيها بكل أطيافهم.
ومن جنوب الجزيرة العربية، انتقل بوغدانوف إلى شاطئ المتوسط للعمل في سفارة الاتحاد السوفياتي في العاصمة اللبنانية بيروت عام 1977، في أوج احتدام الحرب الأهلية، مما كان فرصة جديدة للإلمام بكل جوانب المشكلة اللبنانية. وإلى أن حان موعد عودته إلى جهاز الخارجية السوفياتية في موسكو، كان الاتحاد السوفياتي السابق أخذ يعيش بدايات مرحلة جديدة خطيرة واجهت فيها موسكو مشكلات «الغزو السوفياتي» لأفغانستان وتبعاته. ولمّا كان بوغدانوف ابن جنرال - كما سبقت الإشارة - فلنتوقف برهة هنا لنشير إلى أن «بوغدانوف الأب» ليس إلا الجنرال ليونيد بوغدانوف، الضابط الكبير الذي كان كانت قد أسندت إليه في حينها مهمة الإشراف على ممثلية جهاز أمن الدولة (كي جي بي)، في أفغانستان منذ 1978. ولعل هذا ما قد يكون وراء اهتمام الابن، الذي كان لا يزال دبلوماسيًا فتيًا، بمشكلات العصر وقضايا المنطقة في تلك الحقبة البالغة الحساسية.

8 سنوات «سوريا»
وحقًا، لم يمض وقت طويل حتى عاد ميخائيل بوغدانوف ثانية إلى «بلاد الشام»، ولكن هذه المرة مبعوثًا دبلوماسيًا في سفارة الاتحاد السوفياتي في العاصمة السورية دمشق لفترتين متواليتين؛ الأولى من 1983 - 1989، والثانية من 1991 - 1994. ولعل هذا ما يفسر اليوم الدور المؤثر الذي يلعبه في بحث ومتابعة تفاصيل الموقف والأحداث الجارية في سوريا.. ذلك أنه لما لا يقل عن ثماني سنوات ارتبط بعلاقات شخصية وثيقة مع أبرز نجوم الساحة السياسية الرسمية والحزبية والأوساط الاجتماعية والدينية في كل من سوريا ولبنان، ولم تنقطع علاقاته بها منذ وطأت قدماه أرض ذلك الجزء من المشرق العربي في منتصف سبعينات القرن الماضي وحتى اليوم.
وبعد ذلك، مع ارتقائه سلم المسؤوليات، قيّض له أن يعود إلى جهاز الخارجية الروسية بعد انهيار الاتحاد السوفياتي ليرأس لمدة سنتين متواليتين أحد أقسام إدارة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ومن ثم يتولى لأول مرة منصب سفير. ولعل خبرته العميقة بقضايا المنطقة المتشابكة المعقدة، من أهم ما شجّع القيادة الروسية على تعيينه سفيرًا لدى إسرائيل.
والحقيقة أن ميخائيل بوغدانوف لم يكن مقيدًا بحساسيات العمل في دولة مثل إسرائيل، وهي التي كانت شهدت آنذاك تدفقا غير مسبوق لهجرة اليهود من مواطني روسيا وبلدان الاتحاد السوفياتي السابق وانخراط كثرة منهم في عالم السياسة الإسرائيلية الذي ولجوه من أوسع أبوابه؛ إذ شكل هؤلاء حزبهم «إسرائيل بيتنا» بزعامة ناتان شارانسكي، المنشق اليهودي السوفياتي السابق الذي شغل كثيرا من المناصب الوزارية في إسرائيل، ومعه كثيرون من وجوه تلك الحقبة، مثل أفيغدور ليبرمان، وزير الخارجية الإسرائيلي الحالي، الذي كان هاجر من مولدوفا (مولدافيا) السوفياتية السابقة.

التجربة المصرية
ومن إسرائيل عاد بوغدانوف إلى موسكو مرة أخرى ليرأس إدارة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في عام 2002، في توقيت مواكب لبدايات الولاية الرئاسية الأولى لفلاديمير بوتين. وفعلاً، ما إن تولى سيرغي لافروف، صديق بوغدانوف ورفيق عمره وزميل دراسته، منصب وزير الخارجية عام 2004 حتى استقر عليه خياره لإيفاده عام 2005 إلى القاهرة سفيرًا لروسيا لدى مصر، وأول مبعوث لروسيا لدى الجامعة العربية. وفي القاهرة، صال بوغدانوف وجال، وارتبط بعلاقات نسجها بكل حذق وبراعة مع نجوم المجتمع وقيادات الدولة ورموز مصر الأدبية والثقافية والفنية، ناهيك بعلاقاته الوثيقة من كبار رجال الاقتصاد والصناعة في مصر والمنطقة.
ومن ثم انطلق في شتى الاتجاهات، نجمًا متميزًا بين أقرانه من قادة السلك الدبلوماسي الأجنبي، بما يكفل لروسيا استعادة مكانتها المرموقة السابقة، التي كان أصابها بعض الاهتزاز إبان سنوات حكم الرئيس الروسي الأسبق بوريس يلتسن في أعقاب انهيار الاتحاد السوفياتي السابق. ولم يكتف بوغدانوف بذلك، بل ألحق ابنه الوحيد بافيل بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية في جامعة القاهرة. ومن واقع متابعته دراسة ابنه الجامعية في القاهرة، أتيحت الفرصة للسفير المحنك للإلمام أيضًا بأجواء الأوساط الشبابية والميول الطلابية، وبالمناهج التعليمية والجامعية لتكتمل الصورة لديه تعززها رؤيته الثاقبة وتجربته العميقة.
وسرعان ما ابتسم له القدر حين كان مع ألكسندر سلطانوف - مبعوث بوتين آنذاك - آخر من التقى الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك في 10 فبراير (شباط) بعد اندلاع ثورة 25 يناير (كانون الثاني) 2011. ولا نستطيع في هذا المجال فض مكنون ذلك اللقاء، أو الإلمام بتفاصيل ما جرى آنذاك خلف الأبواب المغلقة التي أوصدت دون أي من المصريين حتى من مساعدي الرئيس وجهاز حكمه.
إذن كان ميخائيل بوغدانوف على مقربة من أجواء «25 يناير»، بل ونزل مع صديقه لافروف وزير الخارجية الروسي إلى ميدان التحرير في مارس. ومن ثم تيسر له إعداد لقاء حضره لافروف مع «كوكبة» من القيادات الشبابية لهذه الثورة في مقر إقامته على ضفاف النيل لمحاولة الإلمام بما لا يزال الغموض يكتنف كثيرا من جوانبه. ولذا لم يكن غريبًا أن يكون مرجعًا لمن غمضت عليه في موسكو وخارجها بعض أطياف الصورة.
باختصار شديد؛ ليست منطقة الشرق الأوسط بالنسبة لميخائيل بوغدانوف «سرًا مدفونًا وراء أقفال سبعة» كما يقال. وننقل على لسانه ما يلي بهذا الشأن: «لقد عكفت على دراسة شؤون هذه المنطقة منذ سبعينات القرن الماضي. كما أنني قبل تولي منصب سفير روسيا لدى إسرائيل، شغلت منصب رئيس قسم إسرائيل وفلسطين في عام 1989، وهو القسم الذي أسس لأول مرة لدى إدارة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا». ومن اللافت أن هذه الإدارة كان يترأسها آنذاك غينادي تاراسوف، الذي اختاره وزير الخارجية السوفياتي – آنذاك إدوارد شيفارنادزه – ليكون أول سفير للاتحاد السوفياتي لدى السعودية بعد إعادة العلاقات الدبلوماسية معها في عام 1990.
ومن الطريف في هذا الشأن أن تاراسوف، الذي عاد إلى موسكو بعد انتهاء مهمته في الرياض ليرأس إدارة الصحافة والإعلام ويغدو المتحدث الرسمي باسم الخارجية الروسية، أوفدته موسكو ليكون بديلا لبوغدانوف لدى إسرائيل بعد انتهاء مهمة الأخير هناك في عام 2002.
عودة إلى ميخائيل بوغدانوف، لنشير إلى أن السفراء العرب في موسكو سعدوا كثيرًا بعدما ذاع نبأ عودته إلى جهاز الخارجية الروسية، وذلك لأنه كان ولا يزال قريبًا إلى الجميع؛ إذ لم يكن يتاح لكثيرين منهم التردد على الطابق الخامس في مبنى الخارجية الروسية حيث مكتب نائب الوزير المسؤول عن العلاقات مع الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
كذلك اتسمت علاقة بوغدانوف بعدد من الصحافيين بـ«صداقة شخصية» امتدت في بعض الحالات لسنوات طويلة خلت. وفي شهادة لأحد كبار المراسلين العرب في موسكو عن بوغدانوف، قال: «لم يبخل علينا يوما بمعلومة أو إجابة عن تساؤل أو سؤال. لقد كان ولا يزال دوما في متناول الأسئلة والتساؤلات، واللقاءات إذا أتاح له جدول حِلّه وترحاله ذلك. وأستطيع أن أجزم أن بوغدانوف يبدو، بما يملكه من خصال رائعة فضلاً عن موضوعية الدبلوماسي القدير والخبير بشؤون المنطقة وناسها، الشخص المؤهل ليشغل في العقول والقلوب مكانة ذلك الذي رحل عنا بالأمس القريب، يفغيني بريماكوف، أفضل من خبر قضايانا ومنطقتنا على مدى عشرات السنين».
وفي الواقع، يتمتع بوغدانوف بثقافة موسوعية مدهشة، وذاكرة تتسع لأدق التفاصيل؛ فهو على سبيل المثال، يعرف مختلف أسماء قادة وقياديي التنظيمات والفصائل المتناحرة في المنطقة العربية، في سوريا ولبنان واليمن وإسرائيل، وكذلك في إيران وأفغانستان وتركيًا، ولديه إلمام يستحق الإعجاب بكل مسألة عايشها واطلع على تفاصيلها واهتم بمتابعتها على امتداد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وهو ما جعله يحتفظ بمكانة متميزة بين أجيال الدبلوماسيين والمستعربين سواء كانوا من روسيا أو غيرها من البلدان، أسهمت فيها أيضًا مرونته وموضوعيته، وهو ما تؤكده جولاته المكوكية في المنطقة العربية والقارة الأفريقية فضلا عن إيران وأفغانستان. وختاما قد لا يليق بهذا الدبلوماسي لقبًا أصدق من اللقب الذي أطلقه عليه أحد عارفيه ومتابعي مسيرته.. وهو: «المبعوث الضرورة في السياق المناسب».



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.