«كور كاريه» الواقع في إحدى ساحات متحف اللوفر الشهير، كان المكان المفضل لمارك جايكوبس عندما كان مصمما لدار «لويس فويتون»، وفيه أتحف الحضور بديكورات رائعة وضخمة، لكنه هذا الموسم كان المكان الذي اختاره راف سيمونز لتقديم تشكيلة «ديور» لربيع وصيف 2016. هو الآخر اختار ديكورا لافتا قد يكون أقل ضخامة وتكلفة لكنه حتما يعبر عن رومانسية الدار وعشقها للورود. أول ما واجه الحضور عند دخول بوابته تلة علوها 59 قدما تقريبا غطتها نحو 300.000 وردة ديلفينيوم باللون الأزرق البنفسجي. حتى داخل القاعة امتد هذا المنظر ليغطي جدرانها تماما على خلفية وأرضية بيضاء زادت من صفاء المكان.
على كراسي بيضاء بياض الثلج، وضع كتيبا صغيرا يشرح فيه تيمة تشكيلته والإيحاءات التي ألهمته. شرح قائلا: «أردت هنا أن أعبر عن الصفاء، من خلال تشكيلة بسيطة إلى أقصى حد وطبيعة تستحضر جنوب فرنسا، وحقل مغطى بالخزامى وعباد الشمس وكل شيء جميل ونقي».
وهذا ما ترجمه من خلال اللون الأبيض الذي كان البطل بلا منازع سواء في الديكور أو في الأزياء، يليه الأسود والوردي الخفيف والكريم والأحمر. فالهدف الأول كان رسم لوحة تسبح في الصفاء والنقاء، وهو ما نجح فيه إلى حد كبير.
«نيو هورايزون» New horizons، أي فضاءات جديدة هو عنوان التشكيلة، وطبعا هو عنوان لا يحتاج إلى تفسير، لأن التحليق في فضاءات جديدة وبعيدة طموح أي مصمم يريد التميز، وراف سيمونز لا يختلف بل العكس. فقد برهن خلال سنواته في دار «ديور» أنه بأعصاب من حديد عندما يتعلق الأمر بفرض نفسه وأسلوبه، لكن خلف هذه الأعصاب توجد مشاعر رقيقة ورومانسية تطفو إلى السطح رغم محاولاته لإخفائها تحت ستارة من القوة تتمثل في التفصيل المحدد والمحسوب الذي يتقنه جيدا منذ بدايته، وساعدته «ديور» على إبراز جمالياته أكثر بمساعدة الأنامل الناعمة التي تتوفر عليها في ورشاتها الخاصة. لا شك أن عودته الدائمة إلى الورود، فقد سبق أن زرع مليون وردة في متحف رودان عندما قدم أول تشكيلة له للدار، فيما يمكن اعتباره إشارة إلى احترامه لإرث الدار، إذ إن الكل يعرف أن مؤسسها كريستيان ديور، كان يعشق الورد الذي يرتبط في مخيلته بطفولته في غرانفيل حين كان يساعد والدته في العناية بحديقة بيت العائلة. هذه اللفتة إلى المؤسس تجسدت أيضا في قلادات كتب عليها رقم 1947 وهو العام الذي شهد تحليق الدار إلى العالمية بعد إطلاقها ما أصبح يعرف بـ«ذي نيو لوك».
وبالفعل لم يُغيب المصمم البلجيكي الأصل، هذا التصميم تماما لكنه منحه إثارة وشبابية بتنسيق الجاكيت مع «شورتات» أو تنورات قصيرة شفافة.
فترسيخ أقدام «ديور» في الحاضر وتوقه للمستقبل لم ينسه أن يستعمل الماضي لكي يحبك السيناريو الجديد لربيع وصيف 2016.
صحيح أن راف سيمونز يبحث عن الجديد ويحاول استكشاف ما لم يستكشفه غيره من قبل، إلا أن أقدامه تبقى راسخة في ماضي الدار وإرثها الغني. يجدده لكنه لا يُغيبه تماما، وإن كان قد صب فيه هذه المرة كثيرا من شخصيته وأسلوبه الخاص بالنظر إلى حداثة كثير من القطع و«شفافيتها» الصادمة للعين. مثلا غابت الدراما والسخاء في استعمال الأقمشة وحلت محلها أزياء عصرية تتميز بخفة غير معهودة، ربما لأن أغلبها من الموسلين ومن دون تبطين، فيما يبدو وكأنه عملية تفكيكية جديدة تعمد أن يكتفي فيها بطبقة شفافة تظهر من تحتها قطع أخرى أغلبها «شورتات» أو تنورات قصيرة جدا تبدو وكأنها ملابس داخلية من العهد الفيكتوري. هل يمكن القول إن التشكيلة عملية؟ الجواب الذي يقفز إلى البال أنه، باستثناء مجموعة تشمل جاكيتات مفصلة ومعاطف بأحجام تميل إلى الاستدارة بتطريزات أنيقة وأخرى بلمسات «سبور» من الحرير، من الصعب القول إن العملية عنوانها. بيد أن هذا لا يعني أنها لن تجد طريقها إلى خزانة امرأة شابة تريد قطعا فريدة. فما لا يجب أن ننساه أن الموضة ليست دائما عن العملية وأزياء تفيدها نهارا ومساء، بل هي أيضا عن تلك الرغبة التي تشتعل بداخلها عند رؤية قطعة ما، تثير صورا جذابة في مخيلتها إلى حد ينسيها كل شيء آخر. هذا ما يمكن قوله على هذه التشكيلة، فراف سيمونز لا يمكن أن يدخل مجازفة من هذا النوع لو لم يكن يعرف مسبقا أن «ديور» ستربح، رغم أن العرض اقتصر على ملابس النهار وبعض الفساتين التي يمكن ارتداؤها في حفلات كوكتيل. فساتين السهرة والمساء لم يكن لها حضور يُذكر، وكأنه يريد أن يقول لنا إنه قدم ما يكفي منها في موسم الـ«هوت كوتير» في شهر يوليو (تموز) الماضي.
«ألكسندر ماكوين» ترد الاعتبار للاجئين
سارة بيرتون، مصممة دار «ألكسندر ماكوين» من القلائل الذين عادوا إلى كتب التاريخ البعيد للاستقاء منه. المقصود بالبعيد القرن السابع عشر، والفترة التي شهدت هروب بروتستانت فرنسا لبلدان أخرى، كانت من بينها إنجلترا. ورغم أنهم لم يحملوا معهم أي متاع يُذكر، فإنهم كانوا محملين بمهارات عالية في مجال التطريز بالإضافة إلى خبرات لا تقدر بثمن في غزل الحرير.
هذا تحديدا ما ألهم سارة بيرتون، حيث شكلت الورود موضوعا مهما بالنسبة لها. القصة التي انطلقت منها أنه لم تكن في جيوب هؤلاء الهرغنوت البورتستانت، سوى بذور زرعوها في المناطق المحيطة بشرق لندن، لتتفتح على شكل ورود في حدائق غناء فيما بعد.
تجدر الإشارة إلى أن ألكسندر لي ماكوين، ينحدر من أصول هرغونوتية ما يجعل هذه التشكيلة أشبه بتحية له، وإن كان التركيز هنا على مهارات هؤلاء اللاجئين الفارين من الاضطهاد والتهميش أكثر من أي إيحاءات أخرى أو إسقاطات سياسية، الأمر الذي جعل كل قطعة فيها تأتي بمثابة تحفة متماوجة على أقمشة خفيفة تقطر بالرومانسية والنعومة. لم يكن هناك شك أن تنفيذ كل واحدة منها استغرق وقتا طويلا حتى تأتي بهذا المستوى، بما في ذلك فستان من الكروشيه عدا عن فساتين أخرى من حرير التافتا والجاكار والجلد الذي لم يقتصر على قطع منفصلة بل شمل فساتين طويلة أيضا. الجميل في التطريزات أنها غنية لكن بجرعات محسوبة جنبتها المبالغة والوقوع في مطب التعقيدات. فالمعاطف الطويلة مثلا، كانت مغزولة بطرق تقليدية أضفت عليها غموضا ساحرا إلى جانب القميصولات المصنوعة من الدانتيل الفرنسي التي نسقتها سارة بيرتون مع بنطلونات مستقيمة وأخرى من الدينم للحصول على إطلالة حيوية تمزج القوة بالنعومة، عززتها الإكسسوارات. لولا أننا نعرف أن المصممة كانت تركز على الجانب الفني لقرأنا في هذا البعد التاريخي إسقاطات راهنة مفادها أن اللاجئين يحملون معهم أكثر من همومهم.
في المقابل، نلاحظ أنها مستلهمة من الماضي البعيد ومن تراجيديا إنسانية، بيد أنها تناسب الحاضر وتتكلم لغته بقوة وسلاسة. فقد جاءت الفساتين عصرية، كذلك القطع المنفصلة مثل البنطلونات والجاكيتات، بفضل المزج بين المفصل والمنساب في الإطلالة الواحدة لخلق قوة ونعومة في الوقت ذاته.
كذلك تعمدت المصممة تنظيف كثير من القطع وغسلها للحصول على هذا التأثير. فهي حسب تصريحها بعد العرض تقول: «كنت أريد أن تأتي النتيجة مفعمة بالأنوثة» وهذا ما حصلت عليه لحسن حظ المرأة العربية أيضا، فالأنوثة تجسدت في فساتين محتشمة طويلة بياقات عالية، وألوان فاتحة وتطريزات دقيقة كما على أقمشة مترفة. فهنا أيضا تؤكد المصممة أن الأنوثة لا تعني كشف مفاتن الجسد بل العكس، أو هذا على الأقل ما تحصل عليه المرأة عندما تكون وراء هذا التصاميم واحدة مثل سارة بيرتون.
«كلوي» تشكيلة تحتفل بالتفاؤل والانطلاق
في عرض «كلوي» كانت القصات مختلفة تماما، فقد أصبغت عليها مصممتها البريطانية كلير وايت كيلر كثيرا من اللمسات الرياضية تمثلت في تايورات بسحابات وخطوط مقلمة في الجوانب، وبنطلونات تُعقد بأربطة بدل سحابات أو أزرار، علاوة على قطع أخرى مغزولة بالحرير والصوف.
فبعد سنوات من مغازلة المرأة بأزياء تحاكي الـ«هوت كوتير» تغلب عليها كلاسيكية عصرية، يلاحظ أن معظم المصممين، أجمعوا في هذا الموسم على مخاطبة فتاة شابة ومنطلقة، لم تعد تطيق أي قيود تكبل حركتها، سواء كانت أحزمة أو تصاميم ضيقة. كلير وايت كيلر واحدة من هؤلاء، وما قامت به أنها أخذت ثقافة الشارع التي سادت في التسعينات، وطعمتها بأسلوب راق تعرف جيدا أنه سيروق زبونة «كلوي» الوفية، كما سيلمس وترا حساسا بداخل زبونة الأسواق الجديدة، خصوصا الآسيوية، بالنظر إلى عددهن الكبير في العرض. شملت التشكيلة كثيرا من سراويل «الحريم» والدينم والفساتين المنسدلة والمنسابة من الموسلين تتدلى من بعضها شراشيب، في إشارة واضحة إلى أن المصممة كانت تتوخى نتيجة شبابية تتعدى الفتاة الباريسية إلى فتاة عالمية تبحث عن المغامرة وتتوق للانطلاق، وهو ما تبين من أول إطلالة ظهرت فيها عارضة بتنورة طويلة مطبوعة بالورود. ما يُحسب للمصممة ذلك المزج المتناغم بين المتناقضات، حيث نجد الـ«توب» المستوحى من ملابس الرياضة أو قطعة جينز، قد تكون بنطلونا واسعا يوحي بالراحة مع أخرى من الدانتيل تضج بالرقي، علما بأن أغلبية القطع، بما فيها «السبور» جاءت مصنوعة من الحرير والجورجيت ما جعلها تتعدى ثقافة الشارع والتسعينات التي انطلقت منها، وإن ظلت مصرة على مخاطبة فتاة شابة في أغلبها.
«هيرميس» تتشبث
بالرقي بأي ثمن
في ثاني تشكيلة لها لدار «هيرميس» وظفت المصممة ناديج فانهي سيبولسكي كل من إمكانيات الدار، ونحو 14 مجالات متخصصة، ومن الإكسسوارات الجلدية إلى جواهر الزينة، عدا عن إرثها الغني، لخدمتها. فقد عادت لأرشيف «هيرميس» في فترة الثلاثينات من القرن الماضي، وأعادت صياغته بأسلوب «سبور» وشبابي ليناسب ربيع وصيف 2016، وهو ما تجلى في غياب الأحذية العالية التي حلت محلها أحذية رياضية أو مستوحاة منها. لكن الأهم من هذا أنها لم تتوجه إلى فتيات «إنستغرام» بأي شكل من الأشكال، وكل ما فيها جاء يفوح بالرقي والتقنيات العالية. كل إطلالة كانت تذكرنا بأننا في عرض واحدة من البيوت الفرنسية العريقة التي لا تقبل بالتنازل عن حرفيتها، أيا كان الثمن. ومع ذلك لا بد من القول: امرأة «هيرميس» اكتسبت ديناميكية جديدة تناسب إيقاع العصر وأسلوب حياتها في الوقت ذاته، إذ يمكنها أن تخرج من ناد رياضي وتتوجه مباشرة للقاء صديقة لأن معطفها يغني عن كل شيء ويمنحها أناقة لا يُعلى عليها. هذه الديناميكية شملت أيضا الألوان الجريئة مقارنة بما تعودنا عليه منها سابقا، وإن لم تخرج عن السيناريو تماما. فالبرتقالي، ماركتها المسجلة، كان قويا في عدد من الفساتين والأحذية الرياضية، إلى جانب ألوان أخرى مثل الأزرق والأبيض والبني والأسود. ما يشفع لناديج فانهي سيبولسكي، تحمسها الشديد ورغبتها في ترسيخ اسمها «الصعب» على النطق، أنها قدمت اقتراحات متنوعة تتباين بين الفساتين والتايورات المفصلة وبين التنورات المنسدلة أو المقصوصة بتقنيات عالية تجعلها تبدو مثل البليسيهات، أحيانا من الحرير وأحيانا أخرى من الجلد. قد يفكر البعض أن المصممة متسرعة التغيير، بحكم أن هذه ثاني تشكيلة تقدمها للدار لكنها نجحت في التعامل مع إرث عريق وغني يحمل اسم «هيرميس» مثل فرس يعرف كيف يراوغ الحواجز ويتجاوزها بسهولة.