جوديث بتلر فيلسوفة النوع والهوية: كيف نعيش حياة حقيقية ضمن حياة زائفة؟

تبنت مثل إدوارد سعيد «الحل الثالث» ودعت إلى تعايش فلسطيني يهودي في دولة واحدة

جوديث بتلر
جوديث بتلر
TT

جوديث بتلر فيلسوفة النوع والهوية: كيف نعيش حياة حقيقية ضمن حياة زائفة؟

جوديث بتلر
جوديث بتلر

تعد الفيلسوفة جوديث بتلر، أبرز زعماء النظريّة النقديّة المعاصرة (الجيل الثالث). وهي يهوديّة أميركيّة ذات أصول روسيّة – مجريّة، عانت عائلتها من الاضطهاد النازي، وفقدت جزءا من عائلتها في المحرقة النازيّة (حيث أبيدت عائلة جدتها في قرية صغيرة في جنوب بودابست). ولدت الفيلسوفة يوم 24 فبراير (شباط) 1956 بكليفلاند بولاية أوهايو. واهتمت بالفلسفة السيّاسيّة والاجتماعيّة ونظريّة الأدب والدراسات الثقافيّة والجنسانيّة والنوع الاجتماعي والهويّة. حصلت سنة 1984 على أطروحة الدكتوراه من جامعة يال، حول مفهوم الرّغبة عند هيغل، ونشرت رسالتها سنة 1987 تحت عنوان: «ذواتٌ راغِبَة: تأملات هيغيليّة حول فرنسا القرن العشرين»، وطورت فيها فهمًا جديدًا للعلاقة بين الرغبة والاعتراف (دمجٌ لفكر اسبينوزا وهيغل).
غادرت سنة 1993 جامعة جونس هوبكينز، بعد حصولها على كرسي ماكسين إليوت بشعبة البلاغة والأدب المقارن بجامعة بيركلي بكاليفورنيا، وهي السنة التي أصدرت فيها دراستها الشهيرة «هذه الأجساد التي يجب اعتبارها». كما حصلت سنة 2006 على كرسي حنة ارندت للفلسفة في كلية الدراسات الأوروبيّة العليا بسويسرا. وانتخبت سنة 2009 رئيسة محكمة هوسرل حول فلسطين، والتي تجمع المثقفين الأميركيين حول القضيّة الفلسطينيّة لحشد شروط سلام دائم وعادل بين إسرائيل وفلسطين، وذلك بفضل موقفها الثابت من رفض وشجب عنف الدولة الإسرائيليّة.
تنتمي جودي (كما يحلو لأصدقائها الجامعيين مناداتها)، إلى النظريّة النقديّة المعاصرة، بفضل إسهاماتها المتعددة حول قضايا فلسفيّة متنوعة، حافظت من خلالها على إرث مدرسة فرانكفورت. لذلك حصلت سنة 2012 على جائزة أدورنو الذائعة الصيت، عن جدارة واستحقاق، رغم هجوم الصهاينة عليها علنًا. وهناك الكثير من الدراسات التي اهتمت أخيرا بفكرها الفلسفي والسياسي، منها تحديدًا: «الفلسفة السيّاسيّة عند جوديث بتلر»، من تأليف بيرجيت شيبرز (2014)، الذي عالج فيها سياسات تشكّل الذات، فلسفة الإنسان السيّاسيّة، مفارقة العنف، نحو مجتمع ما بعد العلمانيّة. إلى جانب الدراسة النقديّة التي أنجزها ستيفان هابر سنة 2006. تحت عنوان: «نقد مناهضة النزعة الطبيعيّة: دراسات حول فوكو وبتلر وهابرماس»، ناهيك عن مئات المقالات، وسيرتها التي كتبتها سارة صالح تحت عنوان: «جوديث بتلر» (2002)، وفحصت فيها مفاهيم: الذات، الجنوسة، الجنس، اللغة، والنفس.
تَشكَّل الفكر الفلسفي لبتلر منذ مراحل مبكرة من حياتها. وقد جالت في الفكر الحديث، وساجلت اسبينوزا وروسو وهيغل وكانط، وطورت فلسفة فوكو وفرويد والتوسير وجاك لاكان وهابرماس وجاك دريدا وسيمون دي بوفوار. في حوار معها، مع مجلة الفلسفة (العدد 66)، قالت بتلر، إن علاقتها بالفلسفة بدأت من قبو منزلها العائلي، حيث وضع والداها كتابات فلسفيّة مختلفة: «هناك قرأت اسبينوزا (كتاب الإثيقا) وكيركغارد وآخرين». بعد اطلاعها على هيغل، ستتبنى بتلر مفهوم الاعتراف الذي أثر في حياتها السيّاسيّة والفلسفيّة فيما بعد، نظرا لالتصاقه بوضعها الذاتي. فالرغبة في العيش، كما تحدث عنها اسبينوزا، غير ممكنة في نظرها إلا من خلال الاعتراف الهيغيلي، بحيث لا يرتبط الاعتراف بتحقيق الرغبة في العيش فقط، وإنما العيش بطريقة حرة ومختارة، أي أنه يطرح سؤال الهويّة تحديدًا التي لا تنظر إليها كشيء ثابت ومحنط، بل كهويّة تتشكل بحسب الظروف التي ينمو فيها الفرد وبفضل تنشئته الاجتماعيّة التي يخضع لها. وهكذا فمعرفة الذات لا تتم من خلال الغير ولا ترتبط به، لأنها قد تكون هويّة غير اجتماعيّة، أو خاضعة لمعيّاريّة اجتماعيّة هي بمثابة أحكام قبليّة غير صحيحة، لذلك نقرأ لها في كتابها «الذات تصف نفسها»:
«بينما نحن نطلب معرفة الآخر، أو نطالب الآخر أن يعرّف نفسه على نحو نهائي ومؤكد، فإن من المهم لنا ألا ننتظر جوابًا شافيًا بأي حال. إننا بامتناعنا عن السعي إلى القناعة، وبإبقائنا السؤال مفتوحًا، بل حتى ثابتًا، نمنح الآخر فرصة أن يعيش ما دام بالإمكان فهم الحياة بوصفها، على وجه الدقة، ذلك الذي يتجاوز أي وصف قد نقدمه له... إذا كان في السؤال رغبة في الاعتراف، فعلى هذه الرغبة أن تبقي نفسها حيّة بوصفها رغبة وألا تحلّ نفسها... إن الرغبة يجب أن تدوم. في الواقع، يكون الإشباع نفسه، أحيانًا، الوسيلة التي يتخلى بها المرء عن الرغبة، الوسيلة التي ينقلب المرء بها ضدها، ويرتب لموتها السريع».
من المعلوم أن سؤال الرغبة والحاجة إلى الاعتراف عند جودي، ليس أمرًا معزولاً عن العلاقة مع الغير، كما أنه لا ينفصل كليًّا عن سؤال الهويّة وعلاقتها بالذات. فالهوية ليست سابقة على الوجود الاجتماعي بالقدر الذي يكون فيه هذا الوجود هو أساس الهويّة. وقد استعارت جودي هنا، عبارة سيمون دي بوفوار: «المرأة لا تولد امرأة، بل تصبح كذلك»، وهو ما يقود إلى التساؤل حول الهوية (وأساسًا الهويّة الجنسيّة) التي تتميز اليوم بالتعدد والتنوع: كيف يمكن الاعتراف برغبتي؟ وكيف تؤسس المعايير لهذه الرغبة؟ وهل يمكنك الاعتراف برغبتي لأتصرف كراغبة في شيء ما، ولربما ما يحلو لي؟ لذلك تصرح: «عندما أطرح السؤال الأخلاقي: كيف يتوجب علي أن أعامِل الآخر؟ أنا أقع مباشرة في قبضة مملكة من المعيّاريّة الاجتماعيّة، ما دام الآخر لا يظهر، ولا يشتغل بوصفه آخر بالنسبة لي، إلا ضمن إطار أستطيع أن أراه وأفهمه في انفصاله وخارجيّته. وهكذا، فرغم أني قد أفكر في العلاقة الأخلاقيّة بوصفها ثنائيّة، أو بالأحرى سابقة على الاجتماعي، فإني لا أقع في قبضة مجال المعيّاريّة وحسب، ولكن في إشكاليّة القوة... فالقواعد لا تعمل على توجيه سلوكي وحسب ولكنها تقرر النشوء الممكن للقاء بيني وبين الآخر» (الذات تصف نفسها 69).
تحاول جودي الجواب عن سؤال طرحته في خطابها، بمناسبة نيلها جائزة أدورنو (خطاب تحت عنوان: «أخلاق لعصر هش»): كيف يمكن أن نعيش حياة حقيقية ضمن حياة زائفة؟ بحيث يقر أدورنو أنه «لا توجد حياة حقيقيّة ضمن حياة زائفة»، حياة حقيقية داخل عالم مبني بشكل واسع على اللامساواة والاستغلال والإقصاء. إنه سؤال مركب يطرح من خلاله أدورنو العلاقة بين الأخلاق والشروط الاجتماعيّة، أو بصيغة أعم، العلاقة بين الأخلاق والنظريّة الاجتماعيّة. تصرح بتلر: «أحبذ أن أظهر أنه لا يمكننا أن نناضل من أجل حياة جيّدة، حياة تستحق العيش، دون الاستجابة للحاجيات التي تسمح للجسم بضمان الاستمراريّة». لذا فكيف يمكن التفكير في حياة قابلة للعيش دون افتراض تصور - مثال واحد أو موحد لهذه الحياة؟
فحصت جودي في خطابها ذاك، سؤال الحياة الجيّدة عند حنة آرندت، وتقول: «ميّزت حنة آرندت بشكلٍ حاسم في كتابها «حياة الذهن» (1971) بين الرغبة في العيش والرغبة في العيش الكريم، أو بالأحرى الرغبة في حياة جيّدة. لم يكن البقاء بالنسبة لحنة آرندت ولن يكون هدفًا في ذاته، ما دام أن الحياة لم تكن أصلاً جيّدة. فالحياة الجيّدة وحدها تستحق أن تعاش. لقد وضعت بسهولة حلاً لهذه المشكلة السقراطيّة، ولكن - كما يبدو على الأقل - بشكل متسرع جدًا. لست متأكدة من أن إجابتها ستنقذنا في إغاثة، كما أني لست مقتنعة أنه ذات يوم ستكون إجابة فعّالة». فآرندت «تفصل أساسًا، حياة الجسد عن حياة الذهن، وبموجب هذا، أقامت في كتابها (شرط الإنسان الحديث)، تمييزًا بين الفضاء العمومي والفضاء الخاص. يضم الفضاء الخاص عالم الضرورة، إعادة إنتاج الحياة المادية، الجنسية، الحياة، الموت، والطابع الانتقالي للحياة. كانت تعتبر بشكل واضح، أن الفضاء الخاص يدعم الفضاء العمومي للفعل والفكر. ولكن السياسة في تصورها، تتحدد بالفعل، في الإحساس الفعّال بالكلام. كما يصير العمل اللّفظي، أيضًا، فعلاً سياسيا في الفضاء التداولي والعمومي، ما يجعل دخوله للفضاء العمومي ينطلق من الفضاء الخاص، وبالتالي فالفضاء السيّاسي يعتمد أساسًا على إعادة إنتاج الخصوصي كجسرٍ واضح، من الخاص إلى العام».
هكذا تصل بتلر إلى أن التحرك السيّاسي في الفضاء العمومي، لا يتم فقط عبر الجسد، على من طرق التجمع والغناء أو الهتاف، أو حتى الصمت في الشارع هي جزء لا يتجزأ من البعد الأدائي للسيّاسة، حيث يتحدد الخطاب كفعل جسدي من ضمن أفعال جسديّة أخرى. تتصرف الأجساد حينما تتكلم، وهذا مؤكد، ولكن الكلام ليس وحده طريقة للفعل بالنسبة للأجساد – ومن المؤكد أنه ليس وحده شكلاً للتّحرك السيّاسي.
تعتبر جودي من دعاة الحل الثالث للقضيّة الفلسطينيّة: البحث عن الاعتراف المتبادل بين الشعبين، أي تسويّة للعيش المشترك حيث الأمن والاستقرار. غير أن هذا الأمر يرتبط بالفلسطينيين وبقرارهم الذي تعتبره القرار الحاسم. وقد تذكرت موقف إدوارد سعيد الذي تراجع عن حل الدولتين حيث تقول: «من وجهة نظري أن شعوب هذه الأراضي، يهودًا وفلسطينيين، يجب أن يجدوا طريقة للعيش سويّة على أساس المساواة. ومثل الكثيرين، أتطلع إلى كيان ديمقراطي على هذه الأراضي، وأؤيد مبدأ تقرير المصير والعيش المشترك لكلا الشعبين، وفي الواقع، لكل الشعوب. وأمنيتي، كما هي أمنية عدد متزايد من اليهود وغير اليهود، أن ينتهي الاحتلال، ويتوقف العنف بكافة أشكاله، وأن يتم ضمان الحقوق السيّاسيّة الأساسيّة لكافة الشعوب في (هذه) الأرض عبر تركيبة سيّاسيّة جديدة». ويعود ذلك، إلى اكتشافها الفكر اليهودي في سن الرابعة عشرة من عمرها كما تقول (مجلة الفلسفة العدد 66): «تابعت الدروس حول الدين والعبريّة في معبدي بمدينة كليفلاند، كما اطلعت أيضا على الروايات والكتب حول إسرائيل والهولوكوست. لقد شغلتني هذه المسألة منذ مدة طويلة، وتحضر في الكثير من كتبي»، منها على سبيل المثال: «الخطاب المثير: سيّاسات الأداء» (1997)، و«الحياة النفسيّة للقوة: نظريّات في الإخضاع». وتشكل جودي مثالا لـ«المثقفة الجريئة المتعاطفة»، كما وصفها البيان التضامني للمثقفين الفلسطينيين بعد الهجوم الذي تعرضت له سنة 2012 إبان ترشيحها في ألمانيا. فهي عضو في الهيئة الاستشاريّة لـ«الصوت اليهودي من أجل السلام»، وممثلة في اللجنة التنفيذية لـ«أساتذة من أجل السلام الفلسطيني - الإسرائيلي، في الولايات المتحدة الأميركيّة»، وفي «مؤسسة مسرح الحريّة في جنين».
تطرح بتلر دومًا السؤال (مجلة ف ع 66): هل ينبغي لزوم الصمت؟ هل ينبغي إنكار الوضع اليهودي تحت ذريعة أننا لا نقبل سياسة إسرائيل؟ لا، فإسرائيل لا تمثل كل اليهود، والصهيونية ليست زعيمة اليهودية، لأنه «لا يمكنني شخصيًّا، أن أكون يومًا مناهضة للساميّة. كنت ساذجة! وصرخت أولاً، في وجه هذه الاتهامات في ألمانيا سنة 2012. حينما حصلت على جائزة أدورنو، بأن هذا ليس إلا لغوًا، ولكن ليس الأمر كذلك، إنه حقًا أمر جدي... كانت هذه التجربة صادمة، ومؤلمة جدًا. بالنسبة لليهودي، لا يوجد امتحان أسوأ. وبالنسبة لي كيهوديّة، لا يوجد ما هو أسوأ من الاتهام». وهي ترفض العنف تحت أي مبرر، حيث صرحت في محاضرتها سنة 2010 في الجامعة الأميركية بالقاهرة، في ذكرى إدوارد سعيد: «كنت دومًا ميَّالة إلى الفعل السيّاسي اللاعنفي»، و«إنه لصحيح أنني لا أؤيد ممارسة المقاومة العنفية، كما لا أؤيد عنف الدولة، ولا يمكنني تأييد ذلك، ولم أفعل ذلك يومًا»، وهذا ما تؤكده كتاباتها في هذا المضمار: «حياة قلقة – مستباحة: قوى العنف والعزاء»؛ و«أطر الحرب: متى يؤسى على الحياة؟»؛ و«طرق متفرقة: اليهودية ونقد الصهيونية»؛ «حياة هشة»: حول سلطة العنف والمآثم بعد أحداث 11 سبتمبر (أيلول) 2001.



هل كان أبو العلاء المعري متشائماً حقاً؟

تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز  النحات السوري عاصم الباشا
تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز النحات السوري عاصم الباشا
TT

هل كان أبو العلاء المعري متشائماً حقاً؟

تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز  النحات السوري عاصم الباشا
تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز النحات السوري عاصم الباشا

غَيْرُ مُجْدٍ فِي مِلَّتِي وَاعْتِقَادِي

نَوْحُ بَاكٍ وَلَا تَرَنُّمُ شَادِ

وَشَبِيهٌ صَوْتُ النَّعِيِّ إِذَا قِيـ

ـسَ بِصَوْتِ الْبَشِيرِ فِي كُلِّ نَادِ

أَبَكَتْ تِلْكُمُ الْحَمَامَةُ أَمْ غَنَّـ

ـتْ عَلَى فَرْعِ غُصْنِهَا الْمَيَّادِ

صَاحِ هَذِي قُبُورُنَا تَمْلَأُ الرُّحْـ

ـبَ فَأَيْنَ الْقُبُورُ مِنْ عَهْدِ عَادِ؟

خَفِّفِ الْوَطْءَ مَا أَظُنُّ أَدِيمَ الْ

أَرْضِ إِلَّا مِنْ هَذِهِ الْأَجْسَادِ

(...)

فَاسْأَلِ الْفَرْقَدَيْنِ عَمَّنْ أَحَسَّا

مِنْ قَبِيلٍ وَآنَسَا مِنْ بِلَادِ

كَمْ أَقَامَا عَلَى زَوَالِ نَهَارٍ

وَأَنَارَا لِمُدْلِجٍ فِي سَوَادِ

تَعَبٌ كُلُّهَا الْحَيَاةُ فَمَا أَعْــ

جَبُ إِلَّا مِنْ رَاغِبٍ فِي ازْدِيَادِ

إِنَّ حُزْناً فِي سَاعَةِ الْمَوْتِ أَضْعَا

فُ سُرُورٍ فِي سَاعَةِ الْمِيلَادِ

(...)

ضَجْعَةُ الْمَوْتِ رَقْدَةٌ يَسْتَرِيحُ الْــ

جِسْمُ فِيهَا وَالْعَيْشُ مِثْلُ السُّهَادِ

أبيات أبو العلاء المعري الذائعة هذه والمأخوذة من قصيدته في رثاء قاضٍ فقيه يُقال له أبو حمزة التنوخي كانت بينهما صداقة أو قرابة - هذه الأبيات التي نشأنا نرددها في سذاجة من أيام المدرسة والتي كثيراً ما تتخذ عنواناً على تشاؤم المعري الشهير – هذه الأبيات لا أرى فيها تشاؤماً، ولا يأساً، ولا قعوداً عن مجهود الحياة، فقائلها عاش حياة مديدة جاوزت الثمانين عاماً (973-1057م)، وأنجز في الأدب والشعر ما نتغنى به ونستلهم منه الفن والحكمة بعد قرابة عشرة قرون مضت على زمنه. فعل هذا في عصر بالغ الاضطراب سياسياً واجتماعياً ومذهبياً وعنصرياً، سادت فيه الصراعات بين القوى المتصارعة على السلطة في ظل ضعف الخلافة العباسية وزوال السلطة المركزية لبغداد. فعل هذا كله وهو ضرير منذ طفولته، مضطر للاستعانة بغيره في شؤون العيش. عاش حياة رفيعة متنزهة زاهدة معتزلة للناس لكنها حافلة بالمعرفة والحكمة والحب والإنتاج والفيض على المريدين والصحاب. عاش حياته بشروطه. وليس في شيء من هذا كله تشاؤم ولا يأس ولا تخاذل عن عناء الحياة مما تفرضه فرضاً على الأحياء أو مما اختاره هو في حياته الزاهدة من شظف إضافي، كما فعل في شعره أيضاً حين ألزم نفسه بما لا تلزمه به قواعد الشعر.

كتب المعري مرثيته هذه وهو في العشرينات من عمره، والحقيقة أني أتردد في نعتها بالمرثية، وإنما هي قصيدة تأمل في الحياة والموت والوجود والعدم، قصيدة فلسفة وموقف فكري، ولم يكن رثاء الصديق إلا المناسبة التي فجّرت في الشاعر مشاعر وأفكاراً كانت تختمر وتسعى إلى صياغة شعرية. فالقصيدة التي تقع في 64 بيتاً تُفتح بالتأملات الشهيرة أعلاه ولا يرد فيها ذكر لموضوع الرثاء، القاضي أبو حمزة، حتى نصل إلى البيت الثالث والعشرين، وينحصر الحزن المباشر على الصديق الراحل وتعداد مناقبه في نحو نصف القصيدة، مسبوقاً ومتبوعاً بالتأملات الفلسفية.

ما أراه في هذه القصيدة الشهيرة التي ظهرت في ديوان المعري الأول «سقط الزند» وفي غيرها من شعره إنما هو موقف وجودي. موقف توصل إليه الشاعر في صدر شبابه. ليست هذه القصيدة المبكرة نتاج اعتراك طويل للحياة، ولا هي حكمة شيخ في نهاية العمر، وإنما هي موقف وجودي. موقف واعٍ بالأبعاد العبثية في الحياة، والتي يجللها العبث الأكبر الذي اسمه الموت. فالحياة تنتهي بنقيضها، ومن هنا تساويها مع الموت. ومن هنا أيضاً تساوي كل النقائض التي تعددها تلك الأبيات: النوح والترنم، النعي والبشارة... إلخ. فالباكي والمترنم، والناعي والمبشر، والحمامة شدت أو بكت، وكل موجب وسالب صائر إلى الموت الذي ينفي ما بينهما من اختلاف ويؤالف تناقضهما. بل إن المعري في انفساح نظرته الوجودية لا يقصر تأمله على حياة البشر وسائر المخلوقات على الأرض، بل إنه يعلن أن الموت أو الفناء مصير كل وجود في الكون، سواء كان وجوداً واعياً أو غير واعٍ، فكوكب «زحل من لقاء الردى على ميعاد»، والمريخ «ستنطفأ ناره وإن علتْ في اتقاد»، والثريَّا ستموت نجومها تباعاً ويفترق شملها، تماماً كما يفرّق الموت شمل الأسر والجماعات من بني الإنسان.

يدرك المعري أن الفناء مصير كل موجود من أصغر مخلوقات الأرض شأناً إلى الكواكب والنجوم في عمق الفضاء اللامتناهي. «كل بيت للهدم» سواء كان عش حمامة أو قصراً منيفاً «لسيد رفيع العماد». من هنا التعادلية في موقف المعري. أي فرق هناك؟ كل جهد عظيم أو حقير، كل حياة بهيجة أو بائسة هي «تعب غير نافع». هي «اجتهاد لا يؤدي إلى غناء». لكننا مع ذلك نعيشها. نعيشها كما عاشها. الفارق أنه عاشها مدركاً كنهَها، سابراً غورها، ولم يعشها منكبّاً عليها، مخدوعاً بها. عاشها بشروطه بقدر ما تسمح الحياة أن تُملى عليها الشروط: «اللبيب من ليس يغترّ بكونٍ مصيره للفساد». هذا موقف فلسفي وجودي بطولي لأن حياة الشاعر جاءت ترجمة «لملته واعتقاده». أو أنه على عكس الكثيرين عاش اعتقاده، ولم يعانِ من تلك الفجوة الشهيرة بين القول والفعل، بين المعتقد والممارسة.

هذا المتشائم المزعوم هو القائل «ولو أني حُبيتُ الخلدَ فرداً لما أحببتُ بالخلد انفرادا / فلا هطلتْ عليَّ ولا بأرضي سحائبُ ليس تنتظم البلادا»، وفي موضع آخر: «والناس للناس من بدو وحاضرة، بعضٌ لبعضٍ، وإن لم يشعروا، خدم». لا تشاؤم ولا عزلة ولا اجتواء للخلق في مثل هذه الفلسفة، بل فكر اجتماعي تكافلي تضامني ملتزم إلى حد رفض كل نعيم، دائمه وزائله، إن لم يعمَّ خيره على الناس قاطبة. فجهد الحياة عنده جهد مشتَرك يتعاضد الناس فيه من أجل البقاء، عن قصد وإدراك أو بغير قصد وإدراك. لهذا كله نجد المعري مثالاً باهظاً، فنريح أنفسنا بنبذه باعتباره «متشائماً» لا يقدّر مسرّات الحياة ومتعها، أو بالعبارة العامية «نِكدي»، أجدر بنا أن نبعد عن أفكاره «السوداوية» ولننشغل بالترنم والشدو وحمل البشارات. فلننشغل سادرين حتى الموت.


مجامر أثرية من البحرين

أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.
أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.
TT

مجامر أثرية من البحرين

أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.
أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.

يحتفظ متحف البحرين الوطني بمجموعة من المجامر عُثر عليها خلال حملات التنقيب المتواصلة في عدد من المدافن الأثرية، منها ما صُنع من المادة الحجرية، ومنها ما صُنع من طينة الفخار. تنتمي هذه المجامر إلى مراحل متعاقبة زمنياً، فمنها ما يعود إلى الحقبة التي شكّلت فيها البحرين حاضرة من حواضر إقليم تجاري وسيط عُرف باسم دلمون في المصادر السومرية، ومنها ما يعود إلى حقبة لاحقة عُرفت فيها هذه الجزيرة باسم تايلوس في المصادر اليونانية. من جهة أخرى، تعكس هذه القطع تعدّدية كبيرة في الطرز الفنية المعتمدة، وتظهر هذه التعدّدية بشكل جليّ في اختلاف البنى التكوينية الخاصة بها، كما في اختلاف الحلل التي تزيّن هذه البنى.

يتمثّل ميراث دلمون بمجمرة من الفخار تتميّز ببنيتها التكوينية المختزلة، مصدرها مدافن عالي التي تشكّل جزءاً من تلال تمتدّ على مدى 20 كيلومتراً في الجزء الغربي من جزيرة البحرين. يُعرف هذا الموقع رسمياً باسم «تلال مدافن دلمون»، وبهذا الاسم أُدرج في قائمة التراث العالمي لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونيسكو) في صيف 2019. عُثر على هذه المجمرة خلال حملة تنقيب محلّية جرت بين عام 1988 وعام 1989، وهي من الحجم الصغير؛ إذ يبلغ طولها نحو 20 سنتيمتراً، وعرضها 11 سنتيمتراً، وهي على شكل عمود أسطواني يعلوه وعاء عريض خصّص لاحتواء الجمر الخاص بإحراق البخور أو الطيوب وما شابه. تعود هذه القطعة الفخارية على الأرجح إلى القرنين الأخيرين من الألفية الثانية قبل المسيح، والقطع التي تشبهها نادرة للغاية في ميراث دلمون الأثري، ممّا يوحي بأّنها دخلت إلى البحرين من الخارج، وليست من النتاج المحلّي، ويرجّح أهل الاختصاص أن وظيفتها ترتبط بالطقوس الجنائزية المعتمدة في الدفن.

دخلت هذه المجمرة متحف البحرين الوطني بالمنامة، ودخلت من قبلها مجمرة مغايرة تماماً في التكوين، عُثر عليها كما يبدو في مطلع سبعينات القرن الماضي. تختلف المصادر في تحديد موقع هذا الاكتشاف؛ إذ ينسبه البعض إلى قلعة البحرين التي تقع على الساحل الشمالي، وينسبه البعض الآخر إلى مقبرة تُعرف باسم الحجر، نسبة إلى القرية التي تجاورها، وتشرف على شارع البديع في المحافظة الشمالية. صيغت هذه المجمرة على شكل مكعّب صغير من الحجر، طوله 7 سنتيمترات وعرضه 6 سنتيمترات، وكلّ من واجهاتها الأربع مزينة بشبكة من النقوش زخرفية، قوامها نجم ذو أربعة أطراف مقوّسة، تحيط به خانات عدة، وُشح كلّ منها بسلسلة من العواميد، تعلوها خطوط أفقية متجانسة. تتبع هذه المجمرة الحجرية تقليداً راسخاً نشأ وشاع في جنوب الجزيرة العربية خلال القرون الأخيرة من الألفية الأولى قبل المسيح، وشواهد هذا التقليد عديدة، منها عدد كبير دخل المتاحف العالمية الكبرى في الغرب. بلغ هذا الطراز الجنوبي شرق الجزيرة العربية، كما بلغ شرق أقاليم البحر الأبيض المتوسّط وبلاد ما بين النهرين. وتشهد مجمرة البحرين على ظهور هذا الطراز في وسط ساحل الخليج العربي.

يحوي متحف البحرين الوطني كذلك مجمرتين من الفخار تمثّلان نتاج ما يُعرف اليوم بحقبة تايلوس، وهما من نتاج المرحلة الممتدة من القرن الأول قبل المسيح إلى القرن الأول للمسيح. تعود إحدى هاتين القطعتين إلى مقبرة حمد التي تشكّل جزءاً من «تلال مدافن دلمون»، وتعود الأخرى إلى مقبرة الشاخورة التي تحمل اسم القرية التي تجاورها، وتقع على بعد نحو 700 متر جنوب شارع البديع.

يبلغ طول مجمرة تل حمد 20 سنتيمتراً، وعرضها 8 سنتيمترات، وهي على شكل عمود ذي أربع قوائم، يعلوه وعاء المجمرة العريض. يتكون هذا العمود من ست حلقات دائرية ناتئة ومتراصة، تزيّنها حلية لونية متقشفة مطلية باللون الأحمر القاني، قوامها بضعة خطوط أفقية تستقر بينها بضعة خطوط عمودية. تكلّل وعاء المجمرة هذه الحلقات الدائرية المتراصة، وتزيّنه شبكة مشابهة من الخطوط المطلية.

في المقابل، يبلغ طول مجمرة الشاخورة نحو 19 سنتيمتراً، وعرضها 11 سنتيمتراً، وهي على شكل جرة تستقرّ فوق قاعدة أسطوانية. ترتفع هذه القاعدة فوق أربع قوائم عريضة، ويعلوها عمود أسطواني قصير، يفصل بينها وبين الحرة التي تعلوها. تشكّل هذه الجرة وعاء للمجمرة يتميّز بضخامته، والطرف الأعلى لهذا الوعاء ناتئ وبارز، وبعض من تكوينه تساقط للأسف.

تمثّل هذه المجامر الأربع نتاجاً من البحرين يبدو محدوداً مقارنة بنتاج مناطق أخرى من جزيرة العرب خرجت منها مجموعات كبيرة من المجامر. يشهد هذا النتاج المحدود من جهة لتعدّدية كبيرة في الأساليب المتبعة في الصناعة والصوغ، وتعكس هذه التعددية من جهة أخرى المكانة الوسيطة التي تميّز بها نتاج البحرين الأثري على مدى العصور.


14 شخصاً في صراع مع الزمن

14 شخصاً في صراع مع الزمن
TT

14 شخصاً في صراع مع الزمن

14 شخصاً في صراع مع الزمن

صدر عن «دار المرايا» في القاهرة رواية «ألعاب وحشية» للروائي المصري ماجد وهيب، وهي الكتاب السادس له بين الرواية والقصة القصيرة. تقع الرواية في 512 صفحة من القطع المتوسط، وتتكون من أربعة عشر فصلاً، يمثل كل فصل منها جيلاً، من قصة عائلة مصرية من الجد الرابع عشر، حتى الابن في الحاضر، مبتعدة عن تقديم أي خلفية تاريخية لأحداثها، وتكتفي فقط بإشارات عابرة إلى تطور نمط الحياة من جيل إلى آخر.

مع النهاية، نلاحظ أن ثمة وجوداً لفكرة العود الأبدي ودوران الزمن في حركة دائرية، عاكسة تأثير الماضي في الحاضر والمستقبل، وكيف يؤثر كل فعل في مصير الآخرين، وهكذا لا يوجد بطل للرواية، فالـ14 شخصية هم جميعهم أبطال، وكل واحد منهم بطل حكايته، فأسماء الفصول كلها معنونة بأسماء شخصيات، وهكذا يكون الزمن هو البطل الأول، وهو الذي يمارس ألعابه الوحشية في المقام الأول، غير أن كل شخصية لها حكايتها التي لا تأتي منفصلة عن الماضي، ولا ينقطع تأثيرها في المستقبل، وتعيش هي أيضاً ألعابها الخاصة، عبر أحلامها وانكساراتها والصراع الذي تدخل فيه.

وفي ظل ذلك تلعب الرواية على وتر البحث عن الهوية، من خلال علاقات حب يبدو فيها وكأنه مغامرة كبيرة وليس مجرد شعور، مغامرة ترسم المصائر وتعيد تشكيل العلاقات، وثمة أحلام، وهزائم وانتصارات، يتغير معها المكان والزمان، وبطبيعة الحال يلعب الموت دوراً كبيراً في الأحداث، وكثيراً ما يأتي بدايةً وليس نهاية.