اقتطع المخرج محمد خان جزءا من وقته ليمضيه في مدينة مالمو حيث يُقام «مهرجان مالمو للسينما العربية»، المنعقد ما بين الثاني والسابع من هذا الشهر. سبب حضوره وجيه فهو رئيس لجنة تحكيم الأفلام الروائية التي تنظر في اثني عشر فيلما عربيا لاختيار من يفوز منها ببضع جوائز تشمل العناصر الرئيسة: الفيلم، التمثيل الرجالي، والتمثيل النسائي، والتصوير، والسيناريو.
قبل ذلك بأيام، كان دخل فترة توليف فيلمه الجديد «قبل زحمة الصيف»، وهو الفيلم الأول له منذ عامين عندما قدّم لنا «فتاة المصنع» الذي دار حول الفتاة التي تعاني من سوء تصرّف المحيطين بها تبعا لتقاليد وأعراف اجتماعية تتحكم في العلاقات بين البشر. بطلته (ياسمين رئيس) هي عاملة المصنع التي تقع في حب من طرف واحد مع زميل أعلى منها في مراتب العمل والتي لا تجني من هذا الحب سوى الظنون السيئة من قِبل محيطها العائلي.
«قبل زحمة الصيف»، من بطولة هنا شيحة وماجد كدواني وأحمد داود، مختلف إلى حد بعيد، إن لم يكن لشيء فبسبب تعدد الشخصيات الأولى. يقول خان: «هو فيلم مختلف تماما، لأن الأحداث تدور في بيئة اجتماعية مختلفة. هناك عدد من الشخصيات التي تلتقي من دون موعد مسبق على شاطئ الإسكندرية قبل زحمة الصيف. المكان لا يزال هادئا وبعيدا عن صخب وزحمة الموسم الحار، والشخصيات متنوعة مما يتيح للفيلم تقديم جوانبها المتعددة».
يُضيف خان: «دائما ما كنت أحب أن أصوّر في الإسكندرية خصوصا في أوقات راحتها، في تلك المواقع التي لا تزال تعكس طبيعة المدينة حيث تلجأ الشخصيات إلى الشاطئ بحثا عن الراحة والتجدد».
* حدث في الإسكندرية
لم يسع المخرج، الذي وضع السيناريو مع غادة شهبندر (التي شاركت بتمثيل دور في فيلم أحمد عبد الله «ديكور» لكنها لم تكتب عملا سينمائيا قبل هذا الفيلم) للترويج عن فيلمه بالحديث عن الحكاية بالتفصيل، ولا يزال يلتزم الصمت لكنه يقول وهو يبتسم: «هناك مشاهد ساخنة قليلا لكنها رومانسية قليلا، أيضا».
يعتبر خان أكثر صراحة عندما يجيء الأمر للحديث عن الإنتاج. قائلا: «لم يعد هناك المنتج الذي يعمل على اعتبار أن المخرج هو المفتاح الحقيقي لنجاح الفيلم كما كان الحال سابقا. هناك فترة مضت، في الستينات والسبعينات، كان فيها الوضع برمته تحت سيطرة المخرج. كان يفرض ما يريد وكان المنتجون آنذاك واثقين من أن المخرج يعرف ما يريد وعليهم الثقة به».
* ما الذي حدث بعد ذلك؟
«الذي حدث هو أن المنتجين الجدد قرروا أن عليهم أن يمارسوا سلطاتهم. بعض المنتجين كانوا مؤهلين بثقافة سينمائية، لكن هؤلاء تواروا مع مرور السينما بأزمات ليأتي جيل جديد من المنتجين الذين يعتبرون أنفسهم قادة العمل والمخرج هو منفذ فقط. هذا لا يصلح معي ولا أطيقه. أرفضه تماما. أنا ما زلت من يقول ما يحدث وما لا يحدث».
هذه السُلطة التي يمارسها ليست جديدة. في عام 1983 على سبيل المثال باشر بتصوير فيلم «نص أرنب» عن سيناريو لبشير الديك ومع هالة صدقي وناهد سمير ويحيى الفخراني وأحمد راتب وسعيد صالح:
«كان الاتفاق مع المنتج يقتضي بأن أصور لأسبوعين في الإسكندرية. الأحداث تتطلب ذلك. في أحد الأيام دخلت المونتاج لمشاهدة ما تم تصويره عندما اتصل بي المنتج وقال لي: عندك أربعة أيام تصوير في الإسكندرية لا أكثر. قلت له: اعتبر أن الفيلم توقف. وأغلقت السماعة. دخل الفيلم بعد ذلك أروقة غرفة صناعة السينما حيث عرض المنتج رياض العقاد على المنتج السابق إعادة ما قام بصرفه على الفيلم مقابل انسحابه منه وتولي العقاد عملية إنتاجه. وصوّرت بالفعل كل ما أردت تصويره في الإسكندرية آنذاك، ومن بين ذلك مشهد صوّرته و(مدير التصوير) سعيد الشيمي على ونش بارتفاع أربعين طابقا». يضحك قليلا وهو يضيف: «يومها اشتكى المنتج الأول من أننا نلعب».
* واقعية خاصة
مواقع التصوير كانت دائما بالغة الأهمية في أفلام محمد خان قاطبة، ولو أن الأفلام التي تم تصويرها في القاهرة تستأثر بالاهتمام الأول للمتابع والناقد في هذا المجال. القاهرة كما يصوّرها هي قاهرة جميلة وموجوعة معا في «الحريف» (فيلمه الوحيد مع عادل إمام، سنة 1983) وفي «مشوار عمر» (1986) و«زوجة رجل مهم» (1988) و«أحلام هند وكاميليا» (1988) و«سوبر ماركت» (1990) من بين أخرى متبوعة في السنوات السبع الأخيرة بفيلميه «شقة مصر الجديدة» و«فتاة المصنع»:
«هذا طبيعي جدا لأن الأحداث التي أهوى تصويرها ليست المشاهد التي تصور في الشقق، بل تلك التي تسبر الحياة في الشارع. في المترو. في الحافلات. في المقاهي والمحلات. نبض الشارع الواقعي مهم جدا في هذه الأفلام».
لكن هذا النبض هو ما ألّب عليه بعض النقاد والسينمائيين في تلك الفترة، فاتهم بإصراره على تصوير القاهرة بعين من ينبش فقرها أو الحارات الشعبية كما الحال في «أحلام هند وكاميليا» على سبيل المثال: «اتهمت بأنني أعكس صورة سلبية للقاهرة، بينما في اعتباري واعتبار كثيرين آخرين أنني كنت أقدم صورة واقعية والفارق كبير».
طبعا هو يعرف أن مخرجين واقعيين سابقين، بينهم صلاح أبو سيف وعلي بدرخان (في بعض أفلامه) أمّوا الاستوديوهات لكي يصوّروا الحارات تبعا لديكورات مبنية. لكن خان لم يعمد إلى أي ديكور من هذا النوع في مسيرته. كان عليه دائما أن يصوّر في المواقع الحقيقية بالطريقة التي صوّرت فيها السينما الإيطالية واقع مدنها في الفترة التالية مباشرة للحرب العالمية الثانية.
أذكره بفيلم «أحلام هند وكاميليا» من حيث كتابات أخرى اعتبرت أن المخرج أراد الإيحاء بوجود علاقة مثلية بين بطلتيه نجلاء فتحي وعايدة رياض وأحمد زكي. لكن المخرج ينفي ذلك بوضوح:
«لا يوحي الفيلم بأي علاقة ما. ربما يستطيع البعض أن يستنتج شيئا في ما بعد، لكن الفيلم يقدّم امرأتين ارتبطتا بصداقة طبيعية. الحكاية أساسا غزيرة بالمواقف ولا تستدعي أي أبعاد أخرى وإلا لقصدتها لو أردت».
وهو يروي حكايات عدّة عن كيف حقق هذا الفيلم الذي كتبه بنفسه، من بينها العدد الكبير من الممثلات اللواتي جرى اعتبارهن لهذين الدورين:
«لم تجتمع فاتن حمامة وسعاد حسني في فيلم واحد من قبل. أحببت أن أجمعهما معا. فاتن لم تواجهني معها أي مشكلة، لكن سعاد أخذت تتحدّث عن شخصية أخرى غير التي في بالي. بعد ذلك طلبت من إلهام شاهين أن تشترك في التمثيل، لكن قبل يوم من الاجتماع الأول اتصلت بها لأجدها في الإسكندرية. طلبت منها الحضور في اليوم التالي فواجهتني بأعذار غير مقنعة. قررت استبدالها سريعا. اختيار عايدة رياض جاء بعد ذلك. كنت شاهدتها في أحد الأفلام واتصلت بها وأخبرتها بأنها ستؤدي الدور أمام نجلاء فتحي وقلت لها: (أنا عاوزك تعامليها كنجمة). بعد ذلك ذهبت إلى نجلاء فتحي وقلت لها: (ستمثلين أمام ممثلة جديدة إلى حد ما اسمها عايدة رياض. عاوزك تتبنيها)».
نتيجة ذلك أن الفيلم عكس كل ذلك الوئام بين امرأتين تعملان في خدمة المنازل وتجد كل منهما في الأخرى الأخت والصديقة التي تستطيع أن تتكل عليها.
في نهاية الفيلم تنتقلان من القاهرة إلى الإسكندرية هذا يذكرني بأفلام فيديريكو فيلليني حيث البحر يحمل دلالات الحرية من المدينة ذات الأفق الضيق.
«هذا تماما المقصود. أحلام هند وكاميليا لن تتحقق في الأوضاع ذاتها والطفلة التي ستتربّى في حضنيهما اسمها أحلام، وبالتالي فإن هذه الأحلام لديها فرصة لحياة أفضل يعبر البحر عنها. أعتقد أن هذه النهاية واحدة من أكثر نهايات أفلامي تفاؤلا».
* مع محمود وأحمد
أحد أفضل أفلام محمد خان أيضا ورد في سنة 1993 مع الممثل الجديد آنذاك محمود حميدة. الفيلم هو «فارس المدينة». اسم الشخصية الأولى وارد في العنوان أيضا، ففارس هو اسم بطل الفيلم الذي يعيش في سيارته وعلى طرقات القاهرة وجوارها ويواجه نفسه بعد سنوات من ممارسة أعمال ليست بالضرورة قانونية أو تخلو من اللعب على حبال الممنوع. لكن ما يساعده على المواجهة هو أن أزمته العائلية أكبر من أن يستطيع تجاهلها فحياته الزوجية تنهار وابنه الشاب يدمن المخدرات.
في هذا الفيلم حس تشويقي رائع. المطاردة التي يقوم بها محمود حميدة في أزقة وبعض شوارع القاهرة لم يُشاهد مثلها قبل أو بعد هذا الفيلم (قام بالتصوير كمال عبد العزيز)، وهذه قيمة فنية أخرى تضاف على مستوى حرفة المخرج من ناحية وعلى أسلوبه الذي دائما ما مزج بين الدراما الاجتماعية وبين قدر من التشويق النفسي الممتزج بالشغل على البصريات كما لا أحد سواه.
«فارس المدينة» وبعده «مستر كاراتيه» كانا نهاية حقبة سبقت أخرى تنوّعت فيها درامياته بعض الشيء كما الحال في «الغرقانة» (مع نبيلة عبيد، 1993) و«أيام السادات» (2001) والثاني من بين أفلام أسند بطولتها لأحمد زكي (بعد تعاونه الأول معه في «أحلام هند وكاميليا») وهذه شملت «مستر كاراتيه» (1993) و«كليفتي» (2004). في عام 2005 أنجز فيلما آخر له من تلك التي عطف فيها على المواضيع النسائية التي برزت في «أحلام هند وكاميليا» و«زوجة رجل مهم» (ميرفت أمين مع أحمد زكي، 1988) هو «بنات وسط البلد»، ثم غاب لثلاث سنوات قبل أن يعود في «شقة مصر الجديدة» (2007)، ثم ست سنوات قبل المباشرة بتحقيق «فتاة المصنع». حين أقول له ملاحظا إنه من القلة من مخرجي جيله الذين لا يزالون في العمل (تقريبا الوحيد) يقول:
«لقد أهمل الجيل الجديد من المنتجين مخرجين عديدين من جيلي. أنا موجود لأنني أصر على العمل والأمور ليست سهلة مطلقا».
يكشف المخرج أنه شارك بتمويل «قبل زحمة الصيف»، إذ وضع فيه نصف أجره في حين قام المنتج محمد حفظي بتأمين باقي الميزانية: «إذا لم يتم ذلك فلن أعمل»، وهو ذكّر بأن العمل على فيلمه السابق «فتاة المصنع» لم يختلف كثيرا:
«لدي قناعة بأنه عندما يبدأ التصوير في اليوم الأول فلا بد للفيلم أن ينتهي. خلال تصوير «فتاة المصنع» شارفنا على الإفلاس. كان الفيلم مهددا بالتوقف عن الاستمرار نظرا لنفاد الميزانية. لكن كان لا بد من مواجهة ذلك. دائما هناك حلول اللحظات الأخيرة والكثير منها مناسب للفيلم ويأتي في الموعد المناسب. إنه الفرج».
* في مالمو
خلال هذه الرحلة، سعى لتحقيق بضعة أفلام لم تر النور من بينها «المسطول والقنبلة» و«نسمة في مهب الريح». لهذا الفيلم الثاني رشح ليلى علوي ثم انسحبت.
ما هو الفيلم الذي تتمنّى لو تستطيع تحقيقه ولم تحققه بعد؟ يجيب:
«(ستانلي). أنا مؤمن جدا بهذا الفيلم. أحب موضوعه ومن حين لآخر يقفز الفيلم مقتربا من التنفيذ لكنه يتعرقل من جديد».
وجوده في رئاسة لجنة تحكيم مهرجان مالمو الحالي مكسب للمهرجان الجيد هذه السنة، ومناسبة للمخرج لمشاهدة اثني عشر فيلما لم يشاهدها من قبل من بينها فيلمان مصريان هما «بتوقيت القاهرة» لرمسيس مرزوق و«سكر مر» لهاني خليفة. إليهما الفيلم الإماراتي «دلافين» لوليد الشحي و«أنا نجوم بنت العاشرة ومطلقة» لخديجة السلامي (اليمن) و«تحت رمال بابل» لمحمد الدراجي (العراق) و«الكعكة الصفراء» لطارق الجبوري (العراق) و«غادي» لأمين درة (لبنان) و«فيلا توما» (فلسطين) و«ذيب» لناجي أبو نوار (الأردن) و«الشجرة النائمة» لمحمد راشد بوعلي (البحرين) و«عيون الحرامية» لنجوى نجار و«أحلام بوليوود» لياسين فنان (المغرب). يعلق:
«الدماء الجديدة ضرورة. وما يجمع بين المخرجين المتنافسين هنا هو حبهم لتقديم جديد ما يساعد على تطوير الحياة السينمائية الحالية ككل. وبالطبع هناك نجاحات متفاوتة في هذا المجال، لكني واثق من أنه لا أحد يزمع تحقيق فيلم يفشل في توصيل رسالته أو تحقيق مستوى جيد، وهنا تكمن أهمية جوائز السينما وأهمية مهرجانات تساندها كمهرجان مالمو».
وفي تعليق أخير على حال السينما: «كما ذكرت ما زلت أعمل لأن لديّ تاريخا أستطيع الاستناد إليه رغم كل التغيير الذي طرأ على الكيفية التي تدار بها صناعة السينما اليوم. لكن ما يثير اهتمامي ليس فقط عدم وجود المخرج – النجم، بقدر عدم وجود الممثل - النجم. صحيح يوجد عدد من النجوم الحاليين لكن هذه المرتبة لم تعد ثابتة ومستمرة كما كان الحال في السابق. هي أسماء تصعد وتهبط بعد حين قريب. هذا الوضع يساعدني على أن أتعامل مع ممثلين وممثلات من غير طاقم النجوم متحررا من تلك الضوابط التي عادة ما تتألف من الشروط التي يبدأ البعض بوضعها بمجرد سطوع اسمه».