«لقد تجاهلنا العالم»، كانت تلك هي الرسالة التراجيدية التي أوجزها التحقيق الصحافي الرائع لسمر يزبك، الذي عنونته بـ«قلب سوريا المحطم». لكن ما مدى مصداقية هذه الرسالة؟
العبارة تجافي الحقيقة، إذ إن السوريين لم يتم تجاهلهم أبدا، فقصصهم ملء السمع والأبصار، والملايين وجدوا المأوى في معسكرات اللاجئين في دول الجوار، والآلاف ممن استطاعوا الوصول أحياء إلى شواطئ أوروبا ظهروا في أعداد لا حصر لها من الصور. حتى قادة أوروبا تاجروا بالأزمة بإتقانهم التقمص العاطفي بالحديث عن «معاناة الشعب السوري»، وكذلك يرسم الرئيس باراك أوباما «خطوطا حمراء»، ويشكل «التحالفات»، وفوق كل ذلك يدلي بأحاديث يكيل فيها الاتهامات للسوريين ويلقي «الخطب العصماء» عنهم.
السوريون لم يتم تجاهلهم لأسباب أخرى أيضا. يوقّع ملالي طهران الشيكات البنكية لتمويل آلة حرب بشار الأسد التي تدعمها وتطورها موسكو بانتظام، ويتدفق المرتزقة من مختلف أفرع حزب الله اللبناني بقيادة إيرانية لقتل السوريين، وعلى الطرف الآخر ينخرط المتشددون من قاطعي الرؤوس ممن أتوا من 80 دولة في ذبح بعضهم البعض.
العالم مستعد لذرف دموع التماسيح لسوريا، ويشن معارك دبلوماسية، ويلقي خطبا عاطفية عن معاناة شعبها، غير أنه لا يبدو مستعدا أو قادرا على إيقاف الطائرات التي تقصف مدنا وقرى بلا حماية، وغالبا باستخدام الأسلحة الكيماوية. إذن العالم لم يتجاهل سوريا. السوريون سيكونون أفضل حالا لو أن العالم تجاهلهم ولم يستخدم بلادهم كأرض للمعركة تعبث بها قوى متنافسة انخرطت في حرب بالوكالة.
يقدم كتاب يزبك باعتباره رواية، غير أن الكتاب الذي بين أيدينا ليس برواية بل عمل صحافي ممتاز. ويزبك التزمت بالقواعد الذهبية الثلاث للصحافة وهي «لا تفترض شيئا، لا تصدق أحدا، تحر عن كل شيء». برعت الكاتبة، وهي روائية أصلا، في تجسيد كل من قابلته وفي تسجيل مواقف حياتية مثل تلك التي وصفت فيها المرأة التي تلعب لعبة «الاستغماية» مع أحد قناصة بشار الأسد الذي وقف يرصدها من مبنى عال يطل على نافذتها، وبرعت كذلك في وصف هؤلاء النسوة اللاتي أصررن على الذهاب لمصفف الشعر وسط كل هذا الدمار ربما لإغاظة «الجزار بشار الأسد». يرسم تحقيق يزبك الصحافي صورة متجهمة تبرز من خلالها ثلاث أفكار رئيسية، أولاها أنه رغم أن الثورة السورية انطلقت في البداية كانتفاضة شعبية ضد نظام مستبد، فإنها انقسمت الآن إلى فرق كثيرة ذات اتجاهات وأهداف متباينة وغالبا متضاربة، بيد أن الانطباع العام الذي يكاد يتفق عليه غالبية السوريين هو حتمية رحيل الأسد.
الفكرة الثانية هي أن الطائفية تكمن في الهيمنة: «العلويون قتلونا وسوف نقتلهم»، حسب تصريح قائد جماعة مقاتلة شاب ليزبك، وهي علوية، أثناء مقابلة صحافية. وقال شاب آخر يتولى تحرير مجلة تصدر عن أحد الفرق المسلحة في إدلب: «لم يعد يكمن الخطر الحقيقي في نقص المال أو حتى في التفجير، لكن في التكفيريين». وقال مقاتل آخر معارض لنظام الأسد: «كان وصول حزب الله والإيرانيين أفضل مساعدة لداعش». وكشف قائد ينتمي لمجموعة يعتقد أنها معتدلة عن برنامج يعرض على المسيحيين، أو من يسميهم نصارى، اعتناق الإسلام أو دفع الجزية، وطرد العلويين والدروز خارج سوريا. ويضمر هؤلاء المتشددون الجدد الكراهية حتى للإخوان المسلمين، إذ يرون أن الفساد قد طالهم بسبب قبولهم للحلول الوسطى. سجلت يزبك بعض الملاحظات مثل الظهور المفاجئ للنقاب، المعروف باسم الخمار، بين السوريات، وظهور نوع معين من اللحى بين الرجال كدلالة على الطائفية المتزايدة.
أخيرا، وربما الأهم، يشير ما ترويه يزبك إلى أن إعادة ترتيب الأوضاع في سوريا كدولة موحدة ربما لم يعد ممكنا، على الأقل في الوقت الراهن. وتشير إلى أن التكفيريين ليس لهم وطن، «فإيمانهم هو وطنهم». وفي ظل بقاء سوريا تحت وطأة الاحتلال الروسي الإيراني، من ناحية، والتكفيريين، من ناحية أخرى، ليس بمقدورنا الحديث عن سوريا موحدة الآن. وحسب ما يقوله قائد في الجيش السوري الحر فإن «كل فئة صغيرة الآن باتت تشكل دولة مستقلة». لم تر يزبك أثناء مرورها على مناطق شاسعة في سوريا غير مدن وبلدات وقد تحولت إلى أكوام من الحجارة، وقد أُجبر الناس على ترك مدنهم والعيش في كهوف، وتحول نصف السكان إلى مشردين داخل بلادهم أو إلى لاجئين في دول الجوار، أو بالكاد أحياء في قراهم المحطمة. وتحدثت يزبك عن أطفال أصابهم الصمم نتيجة للقذف، وأطفال قضوا جوعا أو نتيجة لنقص الرعاية الصحية. وبمرورها وسط القرى المدمرة، والمزارع والبساتين المحروقة، وهياكل المصانع المتفحمة وحتى «مقابر الدبابات والمدرعات» تستحضر مشاهد من سوريا أسوأ حالا من تلك التي أعقبت الغزو المنغولي لسوريا في العصور الوسطى. وتزعم يزبك أن كل الفصائل المسلحة، ومنها إحدى الفصائل التي تتعاطف معها، متورطة في أعمل سلب ونهب، بينما يبرر التكفيريون السلب تحت حجج مضحكة ومنها أن «السلب مبدأ أصيل في الإسلام»، إذ يسمح للغازي بالاستيلاء على الغنائم (كذا). وفي بعض الحالات تصدر فتاوى عن بعض الشيوخ المنتسبين للفئات المتحاربة تبيح عمليات السلب والنهب. يأتي بعض المتشددين من الشيشان مثلا لمهمة قتالية محددة ثم يعودون إلى بلادهم في روسيا محملين بالغنائم. وتلعب عمليات السلب والنهب دورا كبيرا في تمويل تنظيم داعش، ومثال على ذلك خطف الرهائن، خاصة الأجانب، مقابل فدية. وحسب تحقيق يزبك، تتعمد بعض الجماعات المسلحة إطالة أمد المعارك للحصول على المزيد من المال من المتبرعين الأجانب. غير أن هناك أيضا بعض اللمسات السريالية الغامضة حيث تعمل شبكة الهاتف الجوال بشكل متواصل حتى مع القوات المعارضة للأسد رغم أن الشركة مُشغلة الخدمة مملوكة لرامي مخلوف، ابن عم بشار الأسد. كذلك يجيد حتى أكثر المسلحين رجعية استخدام الكومبيوتر، إذ يستخدمون جهاز التتبع (جي بي إس) في تعقب قوات الأسد أثناء سير المعارك. ووسط كل هذا الدمار، يحاول البعض الإبقاء على نمط حياة عادي، ومن ضمن ذلك تدريس الأطفال في المدارس. كذلك هناك مشروع أطلق عليه اسم «حافلة الكرم» التي تتولى توفير الكتب وأفلام الفيديو لمن يعيشون في القرى المحطمة.
وباعتمادها على الشهادات التي جمعتها، تضع يزبك التأكيدات محل تدقيق. فعلى سبيل المثال، تقول إنه مع بداية الثورة، قام الأسد بإطلاق سراح تكفيريين من السجون في الوقت الذي قام فيه باعتقالات منظمة ضد خصوم نظامه من العلمانيين والليبراليين، وكان الدافع وراء ذلك رغبة الأسد في الإيحاء إلى أنه لا يحارب سوريين عاديين يسعون لمزيد من الحرية، لكن أنماط من أشرس مقاتلي «القاعدة». وتؤكد يزبك أن النظام نفذ مجموعة من الهجمات الإرهابية ضد المدنيين السوريين مثل التفجيرات في سوق بدمشق كي يجبر الطبقات المتوسطة على قبول «حمايته» لهم من بطش «الجماعات المتطرفة».
غير أنني أختلف مع يزبك في نقطتين: الأولى هي اعتقادها أن السلفية تمثل «الإسلام المعتدل»، في حين أن السلفية حولت الدين إلى فكر سياسي. والحقيقة أن أي استخدام للدين كمطية للوصول للسلطة السياسية يؤدي في النهاية إلى العنف. وفي هذا السياق، السلفية ليست استثناء فالتاريخ مليء بأمثلة للوحشية التي مارسها زعماء الصوفية. نقطة الخلاف الثانية هي تأكيد يزبك أن خلاص سوريا ممكن فقط من خلال العلمانية والقومية العربية. لكن أليس نظام الأسد، أو بالأحرى كل الحركة البعثية، تدعي أنها علمانية وتتبنى الاتجاه القومي العربي؟
سوريا ليست في حاجة إلى مدرسة أو فكر معين تتبعه بل إلى الحد الأدنى من الأمن والحرية بمعناهما الواضحين. الناس الحقيقيون غير مطالبين بالانخراط في نظام سياسي يعتمد على الاستبداد بصورته المجردة.
فالعلمانية والقومية هما نمطان فكريان مجردان شأنهما شأن التكفيرية في العالم الإسلامي السني، والخمينية في إيران.
وبتطبيق ذلك على عامة الناس الطبيعيين، فتلك الأنماط التجريدية وغيرها من المدارس الفكرية لن تفضي إلى شيء سوى الديكتاتورية والموت.
تأكيدات يزبك الأخيرة تصيبنا بالقشعريرة؛ الفائز الوحيد في سوريا اليوم هو الموت.
رحلة في قلب الجحيم السوري
يزبك ترسم مشاهد من سوريا أسوأ من تلك التي أعقبت الغزو المغولي
رحلة في قلب الجحيم السوري
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة