إرادة سحب قضية الخلاص من الدين

مسيرة عزل الدين عن قطاعات الحياة في المنظومة الغربية

إرادة سحب قضية الخلاص من الدين
TT

إرادة سحب قضية الخلاص من الدين

إرادة سحب قضية الخلاص من الدين

يعتمد الفكر الحداثي على منهجية العزل، أي الفصل عوضًا عن الوصل. بمعنى أن حل المعضلات لا يتم إلا بتفكيك الظاهرة إلى أجزائها الواضحة، أو لنقل إن الحداثة كنمط في التفكير ساد العالم ولا يزال، يستند إلى تفتيت الكل إلى دوائر واضحة تسمح بالتحكم فيها وفض أسرارها. وهي المنهجية العلمية بامتياز. ومادام أن عملية الفصل هذه غير واقعية، لأن العالم مركب أصلا، فإن ما يتبقى لدى الدارس هو العزل كتجربة خيالية افتراضية، ثم، بعد ذلك، إعادة هذا الجزء المنزوع عن كله، إلى أصله الطبيعي، لكن بعد أن نكون قد حصلنا منه على ما نريد، أي الوضوح. وما غاية العلم في نهاية المطاف سوى السعي نحو الوضوح وإبعاد الغموض، إذ لا رؤية في الظلام.
إن المتأمل في الدرس الحداثي بدءًا من القرن السابع عشر، وهو فجر العلم الحديث، يكتشف أن عملية الفصل هذه لم تتوقف أبدا. ولعل من كان له النصيب الأكبر في العزل، وبجلاء ألقى بظله على الحياة البشرية إلى حد الساعة، هو الدين. فقد تم فصله عن العلم بقوة المتغيرات العلمية، إذ سيستغني العلماء عن الحقيقة كما تقدمها الكتب المقدسة، فترسخت فكرة أن الحقيقة بطلها الإنسان وهو صانعها، ولم يعد بحاجة إلى يد مفارقة تدعمه في ذلك، الأمر الذي يجعلنا نتذكر وبقوة، معنى كلام غاليليو الصارخ: «إن الإنجيل يعلمنا كيف نذهب إلى السماء ولكن لا يعلمنا كيف هي السماء». فهذا الأمر يحتاج طريقة أخرى، هي العلم الناشئ آنذاك. فكانت بذلك، أول عملية تفرقة، أي عزل، بين الكتاب المنظور والكتاب المسطور. فهما يختلفان من حيث منهجية التناول، ولغتهما مختلفة تماما. يقول غاليليو: «إن الطبيعة مكتوبة بلغة الرياضيات، وحروفها هي المثلثات والدوائر وباقي الأشكال الهندسية، وبدونها لن يتمكن الإنسان من فهم ولا كلمة واحدة - من كتاب الطبيعة - وسيتيه في متاهة الظلام الدامس». فيكون غاليليو بقوله هذا، أحد من مهد لللائكية في أوروبا القرن السابع عشر، وذلك عندما فرق بين منطق الدين ومنطق العلم.
إن الأمر لم يقتصر فقط على الفصل بين العلم والدين، بل تعداه، وكما نعرف، إلى عزل الدين عن السياسة، إذ سيتم تجاوز ما سمي بالحق الإلهي، حيث كان الحاكم يحكم باسم السماء، وهو ما سيبلور نظرية التعاقد الاجتماعي التي أرساها كل من توماس هوبز وجون جاك وروسو، والتي بموجبها يكون الناس هم أسياد قرارهم، واختيار الحاكم يكون من أجل قضايا الدنيا وليس قضايا الآخرة.
أما عملية عزل الأخلاق عن الدين، فقد وصلت أوجها في القرن الثامن عشر مع كانط، لتصبح قضية الخير شأنا شخصيا لا علاقة لها بالوصايا. فأنا أخلاقي، يعني: أن الأمر اختيار يمليه العقل، إذ أكد كانط أن الفعل الأخلاقي الحقيقي، تكون فيه أنت مشرع نفسك ولا تنتظر وصاية أحد. وهو ما يمكن الفرد من الاستقلال التام وبشكل بطولي. فهو قادر بواسطة عقله أن يرسم الحدود الفاصلة بين ما هو أخلاقي ولا أخلاقي، وباتفاق مطلق مع باقي البشرية من دون اللجوء إلى أي سلطة خارجية كيفما كانت. فالمرء إذا ما أراد عالم النقاء والنبل، عليه تدريب نفسه كي يطيع أمر عقله وفق القاعدة التالية: «افعل بحيث يكون فعلك قانونا عاما»، يعني عدم جعل نفسه استثناء في التشريع الأخلاقي. وهو الأمر الذي يسمح بالموضوعية والوحدة البشرية ومن ثم تحقيق الكونية المنشودة.
فماذا بقي للدين إذن، بعد عملية الاستحواذ هذه؟ فقد سحب منه البساط في قضايا كانت فيه يده هي الأولى. هذا الموضوع سيعالجه الفيلسوف المعاصر لوك فيري، الذي تجند في كل أبحاثه لمحاولة إزالة آخر ورقة تبقت للدين، وهي المعنى والخلاص تجاه قضية الموت.
سنعتمد لفهم موقفه على كتابه: «أجمل قصة في تاريخ الفلسفة». وهو الكتاب الذي ترجمه أخيرا محمود بن جماعة عن دار التنوير، الطبعة الأولى 2015. ولنبدأ بهذه التجربة الخيالية التي يقترحها كمنطلق للتفكير. يقول فيري: «لنعش حلما. لنتخيل أننا نملك عصا سحرية تسمح لنا بأن نجعل البشر، بلا استثناء، يسلكون، من الآن، تجاه بعضهم البعض، على نحو في غاية الأخلاقية. ونجعل كل واحد منهم محترما للآخرين، طيبا، دمث الأخلاق، ليس مع أقربائه وحسب، بل مع مثيله أيضا، أي مع سائر الناس على سبيل الإمكان. بالتأكيد ستتخيلون أن مصير البشرية سيتحول جذريا جراء ذلك. فلا حروب، ولا جرائم قتل، ولا أشكالاً من الإبادة الجماعية، ولا خوف من وقائع الاغتصاب والسرقة. فيستغنى عن الجيوش وعن فرق الأمن والسجون. ومن المحتمل أن يجري القضاء على أشكال اللامساواة الاجتماعية، أو على الأقل، على أكثرها فظاعة».
لقد قدمت كلام لوك فيري كما هو، لأظهر بداية، أنه لا يخرج عن النمط الحداثي في التفكير، وهو العزل المنهجي الافتراضي. فهو كما نرى، يطالبنا بأن نتصور مجتمعا مثاليا تسوده الأخلاق، ليؤكد لنا محاسن ذلك وما سيجنيه الإنسان من حقوق. لكن قصد هذا الفيلسوف عكسي، وهو إبراز كم الفارق هائل بين القيم الأخلاقية والقيم الروحية التي غالبا ما يتم الربط بينها. فإذا تحققت الأخلاقية في أعلى مستوياتها وحصل البشر على حقوقهم كاملة، فهل يعني هذا أن الإنسان سوف لا يصيبه الهرم أو المرض أو الموت؟ بل هل الأخلاقية ستحول دون معاناة المرء من محنة حداد مرعبة إثر وفاة حبيب أو صديق؟ هل إذا اتسم شخص ما بالسلوك النبيل وعلى الدوام، سيمنع ذلك تعاسته في الحب؟ هل سيمنعه ذلك من القلق جراء اليومي الرتيب القاتل؟
إن هذه الأمور: الشيخوخة، المرض، فقدان العزيز، فشل الحب، الرتابة وغيرها، لا تمت بصلة إلى الأخلاقية. فنجاحي الأخلاقي لا يعني قدرتي على تخطيها، إذن فالقيم الأخلاقية منفصلة عن القيم الروحية أو الوجودية. أو لنقل، إنه إذا كان هدف القيم الأخلاقية هو النبل والخير الإنساني، فإن القيم الروحية هدفها الحياة الطيبة بالنسبة للبشر الفاني والمحدود في الزمان. أي أن الأخلاق هي وسيلة الإنسان ليعيش علاقات أكثر مدنية وملؤها السلام، لكنها ليست أبدا شرطا كافيا لحياة موفقة. فالحياة الأخلاقية قد تكون جنبا إلى جنب مع حياة قلما ترضينا.
ولمزيد من توضيح ضرورة عدم الخلط بين دائرة القيم الأخلاقية ودائرة القيم الروحية، يضرب لوك فيري مثالا توضيحيا هو التالي: هب أن لدينا شخصا رائعا على المستوى الأخلاقي، وجاءه خبر ابنه الذي تعرض لحادثة سير مروعة. من المؤكد أن كيان هذا الأب سيهتز. وسيعيش تجربة مفعمة بقيم جوهرية وانفعالات هائلة، وتساؤلات عميقة. وإذا ما تأمل المرء الأمر جيدا، فسيجد أن ذلك لا يمت بصلة إلى الأخلاق. كما يضيف لوك فيري، أن حتى الحب، وإن كان فيه نوع من التودد والاحترام واللطف، فهو تجربة تبقى خاصة لا تتصل مباشرة بالأخلاق. فكم من الفضلاء هم تعساء في الحب، إضافة إلى أنه كوني أتصرف بشرف، لا يعني أني لن أشعر بالقلق حد الضجر، فالروتين والملل الذي يخترق وجودنا لا يجد أبدا مخرجه في الأخلاق.
إن كل هذه الأمور المذكورة أعلاه، تدخل، كما قلنا، ضمن خانة مختلفة، إنها الخانة الوجودية، الروحية، والتي هاجسها هو سؤال مختلف عن سؤال الأخلاق، إنه سؤال الحياة الطيبة بالنسبة للإنسان الفاني، إنه سؤال الخلاص.
هنا بالضبط تتدخل الأديان. فهي تقدم أحسن عزاء لمسألة الموت، ومن ثم المعنى. فأن يؤمن المرء بأن هناك حياة أخرى خالدة، تسمح بلقاء الأحباب من جديد، لهو الخلاص المغري من أخطر سؤال بشري يقض مضجعه.
إذا عدنا إلى بداية المقال، سنكتشف أن الدين منذ القرن السابع عشر، وهو يتعرض لعملية حصر وتضييق، بحيث لم يعد له سوى مجال واحد، هو تقديم جواب عن سؤال الموت. لكن العجيب، هو أن محاولة لوك فيري لن تقتصر على ترك الدين في هذه الخانة، بل سيسعى إلى إبراز أن حتى سؤال الخلاص يمكن منازعته فيه، وذاك ما ستقوم به الفلسفة باعتبارها منافسا. فكيف ذلك؟
يرى لوك فيري، أنه على الرغم من أن الدين يكسب الإنسان أرباحا بجوابه المغري عن الخلاص، لكن ذلك لا يتم من دون خسارة، حيث يتم هذا الخلاص على حساب شيئين أساسيين يحددان البشر، وهما العقل والحرية. فالعقل مع الدين يصبح خاضعا، ومطالب بالانحناء أمام حقائق الوحي، كما أن سبل الحياة الطيبة، تصبح ليس ملكا للبشر، بل إملاء من الإله، وهو ما يضرب الحرية في الصميم. فالدين بحسب لوك فيري هو الجواب الأكثر إنسانية من جهة، لأنه شخصي يعني كل فرد بعينه. لكنه من جهة أخرى، الجواب الأقل إنسانية أيضا، لأن العقل يزاح لصالح الوحي والإيمان.
هذا الأمر جعل لوك فيري يقول، إن مسألة الخلاص ليست حكرا على الدين. وبالنسبة له، يمكن تقديم جواب كحل لذلك السؤال الخالد: ما الحياة الطيبة لبشر فانين؟ بالارتكان فقط على المؤهلات الخاصة بالإنسان، فيعاد له عقله وحريته.
هذا الموقف الجذري الذي ينافس الدين في آخر معقل له، وهو الخلاص، جعل المفكر المغربي طه عبد الرحمن، يناقشه في كتابه «بؤس الدهرانية»، حيث خصص حيزا منه لنقد فكر لوك فيري الذي يريد جعل الإنسان إلها.



علي بن تميم: لا بدّ من الريادة في التقنيات الرقمية والذكاء الاصطناعي

جانب من معرض أبوظبي الدولي للكتاب 2024
جانب من معرض أبوظبي الدولي للكتاب 2024
TT

علي بن تميم: لا بدّ من الريادة في التقنيات الرقمية والذكاء الاصطناعي

جانب من معرض أبوظبي الدولي للكتاب 2024
جانب من معرض أبوظبي الدولي للكتاب 2024

في حوار «الشرق الأوسط» مع الدكتور علي بن تميم، رئيس «مركز أبوظبي للغة العربية»، في هيئة الثقافة والسياحة في أبوظبي، الذي يتبع له مشروع «كلمة» للترجمة؛ أحد أكبر المشاريع الثقافية في العالم العربي، تحدّث عن التحديات التي تسوقها وسائل التواصل للهوية الثقافية للمجتمعات المحلية، لكنه دعا إلى الريادة في استخدام التقنيات الرقمية والذكاء الاصطناعي بوصفها سبيلاً للحفاظ على الهوية الثقافية وتعزيزها، وذلك عبر تغذية الفضاء الرقمي بالمنتجات الفكرية والأدبية الجادة والرصينة.

لاحظ الدكتور علي بن تميم، أن الوسائل الرقمية فرضت تغييرات في اهتمامات الشباب، وهي تحديات مدعومة بالفجوة في المحتوى الثقافي العربي الحقيقي على تلك الوسائل. وهنا نص الحوار:

> كيف ترون التحديات التي تواجهها الهوية الثقافية، وسط طوفان الثقافات السريعة التي تفرضها العولمة؟

- بالتأكيد فإن الثقافة التجارية السريعة، ومخرجات العولمة، التي قد تشكل فرصاً لتعزيز الهوية المتفردة، لها تأثيرات كبيرة وتفرض تحديات بالغة على المجتمعات، خصوصاً وسائل التواصل الاجتماعي وما تفرضه من تشويه للغة العربية، والمفردات والتراكيب وغيرها، وما تنشره من محتوى مجهول المنشأ خصوصاً في مجالات الأدب والشعر والسرد، وهو ما بات يشكل تهديداً وجودياً لقطاع النشر من خلال إمكانية الوصول وتفضيلات الشباب لتلك الوسائل، وعدم التزام الوسائل الرقمية بحقوق الملكية الفكرية، لا بل بالتلاعب بالمحتوى واجتزائه وتشويهه، والأخطاء الجسيمة في حق اللغة والهوية الثقافية والاجتماعية التي تمارسها بعض المنصات.

الدكتور علي بن تميم (رئيس مركز أبوظبي للغة العربية)

> كيف رصدتم الأثر غير الإيجابي للوسائل الرقمية؟

- من الملاحظ أن تلك الوسائل فرضت تغييرات في اهتمامات الشباب ونظرتهم ومحاكمتهم لمختلف الشؤون التي يعبرون بها في حياتهم، واللجوء إلى المعلومات المبتورة والابتعاد عن القراءات الطويلة والنصوص الأدبية والمعرفية الشاملة وغيرها التي تحقق غنى معرفياً حقيقياً.

وتأتي تلك التحديات مدعومة بالفجوة في المحتوى الثقافي العربي الحقيقي على تلك الوسائل، ما يعزز ضعف التفاعل مع الموروث الثقافي، حيث تفتقر العديد من المبادرات الثقافية التي تركز على الترويج للأصالة بصورة تتفاعل مع الأجيال الجديدة، إلى الوسائل الحديثة والتفاعلية التي تجعلها جذابة للأجيال الشابة. ويضاف إلى ذلك تأثير اختلاف طبيعة الأعمال وأسواق العمل، التي يتم فيها تسليع الثقافة لغايات تجارية.

> لكن الإمارات – كما بقية دول الخليج – قطعت شوطاً كبيراً في تمكين التقنيات الرقمية... فهل يأتي ذلك على حساب الهوية الثقافية؟

- صحيح، ينبغي النظر إلى أن ريادة الدولة في المجالات الرقمية والذكاء الاصطناعي تشكل بحد ذاتها عامل دعم للهوية الثقافية، إضافة إلى تأثير البيئة الاجتماعية ومخزونها القوي من الثقافة وغنى هويتها، والدور الإيجابي للمعرفة الرقمية في تعزيز تنافسية الدولة وريادة الأعمال، ووجود كفاءات متعددة للاستفادة منها في تعزيز المحتوى الثقافي والهوية الثقافية، على دراية كاملة بأساليب ووسائل انتشار تلك المنصات ووصول المحتوى إلى الجمهور المستهدف، وإمكانية استغلال ذلك في خلق محتوى ثقافي جديد موازٍ للمحتوى المضلل يمتلك كفاءة الوصول، والقدرة على مخاطبة الشباب بلغتهم الجديدة والعصرية والسليمة، لمواجهة المحتوى المضلل، إن جاز التعبير.

> ما استراتيجيتكم في مواجهة مثل هذه التحديات؟

- تساهم استراتيجية مركز أبوظبي للغة العربية، في تعزيز الهوية الثقافية الإماراتية والحفاظ عليها وسط تأثيرات العولمة. وتشكل المهرجانات الشاملة مثل مهرجان العين للكتاب ومهرجان الظفرة للكتاب ومعرض أبوظبي الدولي للكتاب، والجوائز الرائدة مثل جائزة الشيخ زايد للكتاب وجائزة سرد الذهب، وغيرها، بما تتضمنه من مبادرات متكاملة ثقافية واجتماعية وفنية ورياضية ومسابقات تنافسية، واحدة من وسائل لتعزيز جاذبية تلك المهرجانات والجوائز للجمهور، وتحفيزهم على المشاركة بها، من خلال دمج الموروث الثقافي بالوسائل العصرية.

كما يقوم مركز أبوظبي للغة العربية من خلال الشراكات الدولية بتعزيز نشر الثقافة الإماراتية وإبراز دورها الحضاري العالمي، ما يمنح مزيداً من الفخر والاعتزاز للشباب بهويتهم الثقافية ويحفزهم على التعرف عليها بصورة أوسع.

الترجمة والأصالة

> مع تزايد الترجمة بين اللغات، كيف يمكن ضمان أن تكون الأعمال المترجمة ناقلاً للأصالة الثقافية من مصادرها وليست مجرد (انتقاءات سطحية) لا تمثّل التراث الثقافي للشعوب أو للمبدعين؟

- يدرك مشروع «كلمة» للترجمة بمركز أبوظبي للغة العربية أهمية الترجمة ودورها البارز في دعم الثقافة بعدّها وسيلة أساسية لتعزيز التقارب، والتسامح بين الشعوب، انسجاماً مع توجهات دولة الإمارات ودورها في تعزيز تبني ثقافة التسامح بين الحضارات والشعوب. وقد أطلق المركز أربعة مشاريع رئيسية للترجمة حققت قفزة نوعية في مستوى الترجمة العربية، واعتماديتها ومستوى الموثوقية التي تحظى بها في الأوساط الأكاديمية ومؤسسات النشر العالمية، ما جعله شريكاً رئيسياً لكبرى مؤسسات وشركات ومراكز الأبحاث المعنية بالترجمة على مستوى العالم، على الرغم من التحديات الواسعة التي تجاوزها مشروع كلمة للترجمة، بسبب الطبيعة المكلفة لنشاط الترجمة والنشر، والأخطاء المتوقعة، وتحديات توافر المترجمين من أصحاب الكفاءة الذين يمكنهم نقل المعرفة بسياقها وروحيتها الأدبية والعلمية نفسها، مع الحفاظ على عناصر السرد والتشويق.

وفي هذا الإطار اعتمد المركز جملة من المعايير التي ساهمت بفاعلية في ريادة مشاريع النشر الخاصة به، التي تشمل اختيار الكتب، والمترجمين بالاعتماد على لجنة من المحكمين المشهود بخبرتهم في الأوساط الثقافية والعلمية والأكاديمية العالمية. كما عزز كفاءة المترجمين، والقدرة على إيجاد أصحاب الاختصاصات من ذوي الكفاءات عبر التعاون مع المؤسسات الأكاديمية في الدولة ومراكز الأبحاث العالمية، وتدريب مترجمين مواطنين بلغ عددهم اليوم نحو 20 مترجماً من أصحاب المهارات والمواهب في قطاع الترجمة، التي يحكمها الشغف والتطوير المستمر وحب القراءة، والقدرة على السرد.

> ماذا تحقق في هذا الصعيد؟

- ساهمت جهود المشروع في ترجمة أكثر من 1300 كتاب، وتوسيع اللغات لتشمل 24 لغة حتى اليوم، بالإضافة إلى الترجمة عن اللغتين التشيكية والسلوفاكية. كما شملت قائمة المترجمين أكثر من 800 مترجم، إضافة إلى تعاون نحو 300 آخرين مع مشاريع المركز، وانضمام 20 مواطناً من جيل الشباب والخريجين إلى القائمة، نحرص على توفير كل سبل الدعم والتحفيز لهم، لتشجيعهم على خوض غمار تجربة الترجمة تحت إشراف مترجمين محترفين.

وقد وفر تعدّد المشاريع التي يحتضنها المركز وخصوصيتها، نماذج خبرة متعددة وشاملة، ساهمت بشكل فعّال في تعزيز الكفاءة في قطاع الترجمة وصولاً إلى تحقيق السمعة الرائدة التي يحظى بها المركز في الأوساط العالمية حالياً، ومنها «مشروع إصدارات» الذي يعنى بالكتب التراثية والأدبية، وكتب الأطفال والرحالة، و«مشروع كلمة» الذي يمثل نقلة نوعية في تاريخ الترجمة العربية من خلال ترجمة نحو 100 كتاب سنوياً، منذ انطلاقته، من أرفع الإنتاجات المعرفية العالمية، إضافة إلى إطلاق «مشروع قلم»، وجميعها مبادرات رائدة تحظى بالاعتمادية والموثوقية العالمية، وتتبنى أرفع معايير حقوق النشر.

> كيف يوازن مشروع «كلمة» بين الحفاظ على التراث الثقافي ودعم الإبداع الحديث، هل ثمّة تعارض بينهما؟

- الموروث الثقافي والتاريخي يشكل ذاكرة وهوية المجتمعات، وهو نتاج عقول وجهود بشرية مستمرة، وتواصلٍ إنساني أسفر عن إرث فكري وإبداعي توارثته الأجيال، وهو مصدر ثري ومهم للإبداع في الفن والأدب.

ومن جهته، حرص مشروع كلمة على الاهتمام بترجمة كتب التراث العالمي، فقدم بادرة لترجمة سلسلة ثقافات الشعوب في 72 كتاباً تتضمن ترجمة لمئات الحكايات والقصص من التراث الشعبي والفلكلوري العالمي بهدف تعزيز العمق الثقافي الجامع بين مختلف الأعراق والجنسيات والثقافات.

وفي الإبداع الحديث ترجم العشرات من الروايات لكتاب عالميين، بالإضافة إلى ترجمة الشعر الأميركي الحديث، وكتب النقد والدراسات الأدبي والشعر الغربي.

ويسعى مركز أبوظبي للغة العربية عبر هذا المشروع إلى دمج نماذج الإبداع الحديث بالتراث الثقافي التي لا تشكّل أي تعارض في مضمونها، بل تحقّق تكاملية، وشمولية لتطوير الإبداع الثقافي وضمان مواكبته للتغيرات العصرية لتعزيز وصوله للمتلقين من دون إهمال العلوم ونشر جوانب المعرفة.

المعرفة والذكاء الاصطناعي

> هل نحن في سباق مع التقنيات الذكية للوصول إلى المعرفة مهما كلّف الثمن؟ كيف يمكن لحركة الترجمة أن تستفيد منها؟

- تشكل التقنيات الذكية بعداً أساسياً لانتشار المحتوى العربي الرائد والمتوازن في العصر الحالي، غير أنها لا تدخل ضمن اسم السباق وليست هدفاً في حد ذاتها، بل يتم استثمار إمكاناتها لتعزيز تحقيق الأهداف الاستراتيجية الثقافية ونشر اللغة العربية والثقافة العربية، ومواجهة التحديات التي يفرضها تجاهلها.

وتبرز أهمية استثمار الوسائل الذكية في تحديد وترسيخ احترام الملكية الفكرية، وإيجاد وسائل إلكترونية رقمية للحد من التعديات عليها.

وبالتأكيد، فإن استثمار المخرجات الذكية من شأنه تعزيز حركة الترجمة وتنوعها، وخلق تنافسية جديدة تعزز من ريادة القطاع.

رواد الثقافة قادرون على كشف «المسوخ» التي ينتجها الذكاء الاصطناعي

علي بن تميم

> هل هناك مخاوف من «مسوخ» ثقافية ينتجها الذكاء الاصطناعي تؤدي لمزيد من تشويه الوعي؟

- يستطيع رواد الثقافة التمييز بسهولة بين المنتج الثقافي الإبداعي والمهجن أو الدخيل، غير أن التحديات التي يفرضها الواقع الرقمي يتمثل في تشويه الإبداع الثقافي بين أفراد المجتمع، وفي رأيي فإن الوسائل الذكية أتاحت لبعض المدعين مجالات للظهور لكنها لا تزيد على فترة محدودة. فالثقافة والإبداع مسألتان تراكميتان وموهبتان لا يمكن اقتحامهما بسهولة، ونسعى بحرص إلى الاستفادة من البنية الرقمية الرائدة للدولة في إطلاق مبادرات ذكية وتعزيز استخدام الذكاء الاصطناعي لنشر المحتوى الثقافي الحقيقي الذي يمثل هويتنا وحضارتنا.

> كيف يمكن لحركة الترجمة أن تتجنب التحيّز الثقافي وتقدم نصوصاً دقيقة وموضوعية؟

- الترجمة رافد مهم من روافد الثقافة الإنسانية، ومثل أي مهنة أخرى، تخضع مهنة الترجمة لمجموعة من الأخلاقيات التي ينبغي الالتزام بها. والكفاءة اللغوية والقدرة على ترجمة النص ليستا المعيار الوحيد في عملية الترجمة من لغة إلى لغة، فالابتعاد عن التحيز الثقافي والفكري واحترام الاختلافات الفكرية والثقافية، وفهم السياقات الثقافية المختلفة للغة المصدر وللغة المترجم إليها من الأمور الحيوية والمهمة في تقديم ترجمات رصينة وخالية من التشوهات. وبهذا يتحقق الهدف الأسمى للترجمة وهو تقريب الشقة بين الثقافات والحضارات.ويتم اختيار الإصدارات الخاصة بالترجمة بناء على أهميتها العالمية وما تقدمه من قيمة مضافة للقراء توسع مداركهم، وتعزز رؤيتهم للمستقبل، من خلال لجنة متنوعة ومتخصصة تعزز الموضوعية وسياقات الحوكمة واحترام حقوق الملكية الفكرية وغيرها من معايير وقيم عليا.