رجل أفريقي أسود اسمه جوناثان، منكفئ على وجهه، وقد أعطى ظهره للعالم، مثله مثل الطفل السوري إيلان الذي غرق على ساحل البحر المتوسط قبالة شواطئ تركيا قبل أسبوعين. الفرق بينهما أن جوناثان شاب في العشرينات من عمره، وغرق في بحر الرمال في الصحراء الكبرى داخل ليبيا، في نفس توقيت غرق إيلان أيضا.
كان جوناثان قادما، في رحلة بعضها بالسيارات وبعضها مشيا على الأقدام، من إريتريا إلى السودان، أملا في الوصول إلى أوروبا، ليجتمع شمله، عبر محطات المهاجرين، مع نحو ثلاثين من الأفارقة والعرب، لكن ضياع البوصلة والعطش والجوع، في البيداء القاحلة بين مدينتي طبرق وإمساعد في شرق ليبيا، عجل بسقوطه على الأرض، وانكفأ بوجهه في الرمال الصفراء وذراعاه مبسوطتان إلى جانبيه. ومات معه 11 من زملائه.
ويقول سليمان العبيدي وهو متطوع يعمل في دورية حرس الحدود الليبي، إنه، في البداية جرى العثور على جثث خمسة من الأفارقة. ثم وبتتبع المسار الذي يمكن أن يكونوا قد أتوا منه، إلى الجنوب الشرقي من طبرق في اتجاه بلدة إمساعد، عثرت الدورية على سبع جثث أخرى يبدو أنها تهاوت بأصحابها وهم يلفظون أنفاسهم الأخيرة. هنا، شاب قمحي اللون يرتدي سروال جينز أسود وقميصا أصفر، مشيرا إلى أن معظم غرقى الرمال لم يكن معهم أوراق تثبت هوياتهم.
وهناك اثنان من مجموعة جوناثان فرا إلى مكان مجهول وربما عادا إلى الصحراء خوفا من القبض عليهما. بينما احتجز رجال حرس الحدود 16 هم باقي المجموعة التي أوشكت على الهلاك. وقدم لهم الحرس الإسعافات الأولية، بعد أن عثر عليهم وقد تقطعت بهم السبل ما بين جغبوب وإمساعد، وهي منطقة محاذية للحدود المصرية الليبية من جهة الشمال، وتصل حتى سواحل البحر المتوسط، وهي الوجهة التي لم يتمكن أولئك المهاجرون من الوصول إليها. ومن بين المحتجزين شاب من دارفور يدعى عثمان ماريس.
ويقول ماريس الذي كان رفيقا لجوناثان وآخرين قادمين من مخيم سوداني قرب منطقة عوينات يديره مهربون: لم يكن من السهل الوصول إلى هذه النقطة. كان مجرد أمل. قبل شهر من الآن تجمعنا في مخيم في جبل عوينات اسمه مخيم الهجرة، على الحدود الليبية السودانية. من هناك بدأ مندوب سوداني الاتصالات على هاتف مهرب اسمه عبد العليم من قبيلة زوية يقيم في واحة الكفرة داخل ليبيا.
ويضيف وهو يمسح العرق عن جبينه بوشاحه الأحمر، أن جوناثان كان لديه شعور منذ البداية بأنه لن يتمكن من الوصول إلى البحر أبدا. و.. «كان كلما وصلنا إلى نقطة من نقاط الاستراحة وتبديل سيارات مندوبي التهريب، في الطريق من الجنوب إلى الشمال، ينظر حوله كأنه غير مصدق. كان عدد من تجمعوا في المخيم السوداني تسعة، في البداية، خمسة من إريتريا وثلاثة صوماليين، وأنا. مكثنا فيه ثلاثة أسابيع في انتظار وصول مزيد من الراغبين في الهجرة. وتوفي اثنان خلال ذلك بسبب الحمى. لم يكن المخيم مجهزا بأي شيء يساعد على الحياة. نادرا ما نرى الطعام.. مجرد خبز وماء له طعم مر».
وبعد عدة أيام زاد العدد إلى 17 رجلا بعد أن وصل ثمانية من جنوب السودان بسبب الحرب المستعرة هناك، كما يقول ماريس، حين كان يتلقى العلاج في مركز لتجميع المهاجرين في جنوب شرقي طبرق. ويضيف متحدثا عن بداية الرحلة: في الليل كان الاستعداد للسفر وسداد الأموال المتفق عليها، وهي 1500 دولار عن كل فرد. في الفجر جاءت سيارة دفع رباعي بيضاء اللون على صندوقها غطاء من القماش الكاكي.
كان السائق ومندوب التهريب في قمرة السيارة. وبدأت رحلة السير التي يصل طولها كاملا لأكثر من ألف كيلومتر.. «تخيل نفسك جالسا في الصندوق المعدني وهو يتأرجح بك وينفضك، والغطاء فوقنا تضربه الريح والرمال. على كل حال قطعنا الدروب إلى أن وصلنا، بعد نحو 300 كيلومتر، إلى واحة صغيرة اسمها الجوف. وهناك سلمنا المندوب إلى سيارة أخرى ومندوب آخر، حتى وصلنا إلى واحة الكفرة، وهي مدينة صغيرة فيها مطار جوي ضعيف الإمكانات، ولا يخضع للسلطة الشرعية في البلاد».
في السابق كانت وجهة المهاجرين الأفارقة خاصة من إريتريا ودارفور وجنوب السودان، هي إسرائيل عبر شبه جزيرة سيناء، لكن التشديد الأمني والحرب على المتطرفين في سيناء، قلص من ظاهرة الهجرة في هذه المنطقة، وجعل تكلفتها مرتفعة للغاية إذا تصل أحيانا إلى عشرة آلاف دولار للفرد الواحد، بينما سعر الرحلة حتى البحر المتوسط عبر ليبيا التي تعاني من ضعف السلطة والفراغ الأمني، لا يزيد في مجمله على خمسة آلاف دولار.
إلا أن المبالغ التي تطلب من المهاجرين وقيمة كل مبلغ تتفاوت حسب كل محطة. ففي مرسى مطروح تقول مصادر المهربين، إن تكلفة نقل الشخص الواحد من المدينة إلى الحدود الليبية تبلغ نحو خمسة آلاف جنيه (الدولار يساوي نحو 7.80 جنيه). ولا تشمل المصاريف باقي الرحلة داخل ليبيا، التي تصل أحيانا إلى 200 دولار إلى بلدة إمساعد و300 دولار إلى طبرق. أما ما يدفعه المهاجر لسماسرة مراكب الهجرة غير الشرعية للانتقال إلى أوروبا، فيتراوح بين 1500 و3000 دولار، حسب العدد. ويقول الضابط العبيدي إنه تلاحظ من التحقيقات أنه كلما زاد عدد المهاجرين على المركب قلت الأجرة، والعكس صحيح.
ووفقا لمصادر قبلية تنتشر تجارة التهريب عبر الحدود الليبية مع كل من مصر والسودان وغيرهما من دول الجوار، وتشمل هذه التجارة كل ما يخطر على البال. من تهريب البشر إلى تهريب الأسلحة وكراتين السجائر والمخدرات. لكن بعض خطوط التهريب تعرضت لضربات موجعة بعد أن ارتفعت الشكوى الإقليمية والدولية، خاصة من أوروبا، من جراء الهجرة غير الشرعية، ومن بلدان مثل مصر والجزائر بسبب تهريب السلاح والمتطرفين. وكلما زاد الحصار على التهريب وتغليظ العقوبات على المنخرطين فيه، زادت الخلافات بين أبناء القبائل التي تعمل في هذه التجارة.
على سبيل المثال، في أثناء تنفيذ عملية التهريب التي كان فيها جوناثان وماريس، من جبل عوينات جنوبا، إلى بلدة إمساعد شمالا، كانت هناك معارك طاحنة بين عدد من أبناء القبائل الحدودية التي تتنافس على جني ثمار التهريب، التي تصل في السنة إلى ملايين الدولارات، ما تسبب في تعطيل الكثير من الرحلات، حيث وصل الاقتتال في منطقة الكفرة إلى حد سقوط ما لا يقل عن عشرين قتيلا من أنصار المهربين خلال شهرين فقط.
أما فيما يخص الحدود مع مصر، فقد أدى التعاون بين القبائل المصرية وقوات حرس الحدود إلى تقليص الهجرة والتهريب إلى حد كبير، رغم بعض الخروقات، إذ كان هناك 13 رجلا قد تمكنوا من دخول ليبيا من نقطة حدودية تقع بين واحتي جغبوب الليبية وسيوة المصرية، بينهم سوريون وفلسطينيون.
ووفقا لمسؤولين ليبيين على الحدود فإنه جرى خلال الشهرين الماضيين فقط توقيف نحو 800 مهاجر غير شرعي قادمين من السودان ومصر، ضمن عمليات مطاردة المهربين. ويشير مسؤول حدودي ليبي إلى أن من يتم القبض عليهم لا يزيدون على 20 في المائة ممن يتمكنون من عبور الحدود بالفعل. أما من ينتهي بهم المطاف جثثا في الرمال، من الرجال والنساء والأطفال، فلا حصر لهم.. «دائما نتلقى بلاغات من المسافرين والصيادين والرعاة عن عثورهم على هياكل عظمية وجثث متعفنة على طريق سبها والكفرة والجفرة».
وطفت قضية المهاجرين غير الشرعيين الفارين من بلادهم إلى أوروبا، على سطح السياسة في الاتحاد الأوروبي بشكل يمكن أن يهدد بنية الاتحاد نفسها، خاصة بعد أن دعت بعض دول أوروبا لتقاسم حصص استقبال المهاجرين فيما بينها، وذلك عقب تفجر قضية غرق الطفل إيلان وصوره التي انتشرت حول العالم وشغلت الرأي العام الدولي.
وتأتي الهجرة من عدة شواطئ في منطقة الشرق الأوسط. فالطفل إيلان، قبل غرقه، كان متوجها مع أسرته من أحد الشواطئ التركية إلى اليونان، لكن دولة مثل إيطاليا التي تعد من أكبر المتضررين من المهاجرين، ترى أن نحو 90 في المائة من المهاجرين الذين يصلون إلى شواطئها يأتون من ليبيا.
ويوضح ضابط في حرس الحدود الليبي أن المصريين يجري تسليمهم إلى الجانب المصري من الحدود للتصرف معهم، وكذلك الأمر مع دول الجوار مع السودان وتشاد والجزائر، لكن المشكلة تكمن في الجنسيات التي تأتي من دول بعيدة عن ليبيا، مثل السوريين والإرتريين والصوماليين. وتستغرق عملية ترحيل الآلاف من هؤلاء إلى بلدانهم أو إلى بلد ثالث يقبل بهم وقتا طويلا ويكلف السلطات التي تعاني من ضعف الإيرادات المالية الكثير من الأموال.
أما رواية عدد من الناجين من الموت ممن كانوا مع جوناثان قرب بلدة إمساعد، فتقول إن المجموعة القادمة من السودان التقت لأول مرة في مخيم في جغبوب، مع المجموعة القادمة من مصر. «حتى في مخيم جغبوب كان جوناثان خائفا. لم نكن نعلم أنه سيموت قبل أن يرى البحر». يقول ماريس الذي تعرف على الرجل الإريتري وأمضى معه نحو شهر عبر ظروف قاسية.. «تقاسمنا رغيف الخبز وقارورة المياه».
ويضيف أن ظروفه أفضل من جوناثان، فعلى الأقل يمكنه بعد أن ترحله السلطات الليبية إلى دارفور، أن يعاود الكرة من جديد، لكن صديقه البالغ من العمر 28 عاما مات، وجرى دفنه هنا ووضع قطع من الحجارة حول كوم الرمال الذي يغطيه، بعيدا عن وطنه وأسرته. كان جوناثان يدير محلا للمأكولات في العاصمة أسمرة. لكنه باع كل ممتلكاته وقرر الهجرة إلى أوروبا بسبب الاضطرابات السياسية وتردي الأوضاع الاقتصادية.. «كان محله يخسر فباعه وسدد ديونه لكنه لم يتمكن من تحقيق أمله في حياة جديدة».
رمال الصحراء تنافس البحر في ابتلاع المهاجرين الأفارقة
غالبيتهم يأتون إلى ليبيا عبر النيجر والسودان ومصر
رمال الصحراء تنافس البحر في ابتلاع المهاجرين الأفارقة
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة