تابعنا الأسبوع الماضي فترة من تاريخ مصر تولى فيها الزعيم الوطني أحمد عُرابي من خلال الجيش مطالب الإصلاحات السياسي في البلاد وفي الجيش، وكيف أن هذه الثورة أسفرت عن الضغط على الخديو توفيق حاكم مصر، التي كانت تتبع من الناحية النظرية فقط الدولة العثمانية رغم كونها تدار على أساس الحكم الذاتي منذ اتفاقية لندن 1840. أيضًا تابعنا كيف استطاعت حكومة شريف باشا إدخال الإصلاحات في البلاد وإقامة حياة نيابية سليمة على أساس مجلس نواب جرى انتخابه من قبل الشعب انتخابًا حرًا مباشرًا فانعقد أول برلمان مصري حقيقي على النمط الغربي في 1881، كما تم إقرار دستور البلاد في فبراير (شباط) 1882 وجعل الحكومة مسؤولة أمامه.
لكن حقيقة الأمر أن القوى الخارجية، خصوصا بريطانيا، كانت تخشى الاستقلال الفعلي للبلاد، ولذا دأبت على التدخل في شؤونها الخاصة، ولا سيما بعد تفاقم الخلافات بين التيار الوطني بقيادة عرابي والخديو. ومن ثم بدأت هذه القوى تأخذ صف الأخير وتطالب بعزل عرابي عن منصبه كوزير للحربية وإقالة الحكومات الوطنية. وتبع ذلك إصدار بريطانيا مذكرة مشتركة مع فرنسا بها نفس المطالب، كما أرسلت بحريتها إلى الإسكندرية استعدادًا للضغط على مصر لتنفيذ أهدافها، بينما كانت الدولة العثمانية في ثبات سياسي عميق غير قادرة على حماية البلاد.
وبمجرد أن تطورت الأحداث اقترحت فرنسا مؤتمرًا دوليًا لمناقشة المسألة المصرية وسبل تسوية الخلافات بين الخديو والحركة الوطنية، خصوصا أن الضغوط الداخلية فرضت على الخديو أن يعين عرابي وزيرًا للحربية، إلا أن بريطانيا كانت تعد العدة من أجل احتلال البلاد وسايرت التوجه الدبلوماسي الدولي لكسب الوقت لتجهيز جيوشها صوب الإسكندرية.
وعندما بدأت المناوشات بين المصريين وبعض الأجانب بسبب خلاف أسفر عما عُرف بـ«مذبحة الإسكندرية» التي راح ضحيتها بعض الأجانب، ضاق المصريون ذرعًا من التدخل الأجنبي في البلاد وشعروا أن البريطانيين على أبواب الاحتلال. وعندما عاد الأمن فاستتب وسيطرت الدولة المصرية على مقاليد الأمور، استغل البريطانيون الفرصة وبدأوا التحرش بالجيش المصري مطالبين بوقف بناء التحصينات في القلاع المصرية في الإسكندرية. وعلى الرغم من أن حكومة إسماعيل راغب كانت تدرك أهداف لندن وأبدت مرونة في التعامل مع الوضع، واصل البريطانيون ضغوطهم من أجل إيجاد مبرّر لاحتلال مصر، وبالفعل أقدم الأسطول البريطاني على قصف الإسكندرية.
أما على الصعيد الدولي، فقد عقد «مؤتمر الأستانة» (إسطنبول) بمشاركة أوروبية واسعة يوم 23 يونيو (حزيران) 1882، وأقر ما عُرف بـ«بروتوكول النزاهة»، إذ أعلنت الدول المشاركة ومنها بريطانيا أن لا أطماع لديها في مصر ولا نية لها بالتدخل في شؤونها، ولكن المبعوث البريطاني إلى المؤتمر أصر على إضافة جملة: «... في ما عدا الأحوال القهرية». وحقًا، كانت هذه الجملة الأساس الذي استندت إليه بريطانيا لاحتلال مصر.
«مؤتمر الأستانة» أصدر قرارًا ينص على إرسال الدولة العثمانية جيشًا إلى مصر لمساندة الخديو توفيق وإخماد الثورة العرابية، غير أن الخطط البريطانية كانت محسومة سلفًا، ففي غضون أسبوعين كانت القوات البريطانية على أهبة الاستعداد لاحتلال مصر بعدما أقر البرلمان في لندن التمويل اللازم للحشد العسكري المطلوب بتوفير ما قيمته 2.3 مليون جنيه، وبدأت الإمدادات العسكرية تأتي من كل الاتجاهات: منها الهند والقواعد والمراكز البريطانية في المتوسط.
وفي هذه الأثناء، بدأت الحركة الوطنية تنقم على الخديو الذي اعتبرته دمية في أيدي الأجانب، خصوصا القنصل البريطاني. وباشر الأعيان والنواب البرلمانيون دعم الحركة الوطنية وإن دون معاداة الخديو علنًا، خصوصا بعدما أعلن الخديو عزل القائد أحمد عرابي من وزارة الحربية. كذلك أخذ الشعب يساند عرابي في تحركه لتحصين البلاد ضد المعركة المرتقبة ضد الجيش البريطاني في البلاد. وواقع الأمر أن التحصينات المصرية كانت مركزة في نواحي الدلتا والغرب. ولقد ساورت عرابي وبعض القيادات العسكرية فكرة ردم قناة السويس لمنع الأسطول البريطاني من عبورها وفتح جبهة شرقية جديدة ضد الجيش المصري، إلا أن رئيس الشركة أعطى تأكيدات لأحمد عرابي بأن الأسطول البريطاني لا يستطيع أن يستخدم القناة لأغراض عسكرية، ووعده بعدم حدوث ذلك تحت أي ظرف من الظروف، وهو ما أجّل فكرة الردم لبعض الوقت. ولكن عندما أدرك عرابي أن تأكيدات رئيس الشركة كانت مجرّد خديعة كان الوقت قد فات لتدارك الأمر.
وبالفعل بدأ الأسطول البريطاني بقصف الإسكندرية ضاربًا عرض الحائط بقرارات المؤتمر الدولي حول مصر، واندلعت الحرب بين الجيش الوطني المصري وقوة الاحتلال البريطاني.
المصادر التاريخية اختلفت في تقييم عديد الجيش المصري في ذلك الوقت، فبينما تقدّر بعض المصادر أن عديد الجيش المصري كان يتراوح ما بين سبعة عشر ألفًا إلى ما يفوق العشرين ألفًا، ترى مصادر أخرى أن العدد وصل إلى قرابة خمسة وثلاثين ألفًا، ولكن حقيقة الأمر أن الجيش النظامي القادر على المقاومة لم يتعدّ بأحسن الأحوال الخمسة عشر ألفًا، أما الباقيون فكانوا عبارة عن قوات مجنّدة غير مدرّبة ولا تملك الخبرة العسكرية الكافية، وذلك في حين ناهزت القوات البريطانية في البحر المتوسط قرابة خمسين ألفًا، مع أن بعض المصادر الأخرى قدرتها بنيف وعشرين ألفًا.
كان فتح جبهة مصر الشرقية أخطر التطوّرات، إذ كانت الدفاعات المصرية ضعيفة جدًا هناك. وبالتالي، عندما احتل الأسطول البريطاني بورسعيد ثم الإسماعيلية على قناة السويس اضطر عرابي إلى حشد دفاعاته في الدلتا بينما كانت القوات البريطانية قد دخلت في عدة معارك بالقرب من كفر الدوّار، في غرب الدلتا، انتهى أغلبها بصدّ هذه الهجمات.
ولكن بما أن الجبهة الشرقية كانت في حالة ضعف شديد، تحرّك عرابي مباشرة إلى التل الكبير (شرق الدلتا) للإشراف على التحصينات المصرية المعدّة لصد الهجوم البريطاني المتوقع ووضع صيغة للمعركة. وهناك، نزلت القوات البريطانية بكل ثقلها على التل الكبير حيث دارت المعركة الفاصلة بين الطرفين. بدأت المعركة بمناوشات من الجانب البريطاني أسفرت عن سقوط عدد من المواقع الأمامية، خصوصا منطقة القصّاصين (على طريق القاهرة - الإسماعيلية). وعندما حاولت القوات المصرية إعادة الاستيلاء عليها مُنيت بهزيمة أسفرت عن إصابة قواد الجيش، في أعقاب أسر رئيس أركان الجيش المصري، وهو ما وضع الجيش في وضع خطير للغاية قبيل نشوب معركة التل الكبير الشهيرة.
تشير المصادر التاريخية إلى أن معركة التل الكبير لم تكن معركة بالمفهوم الحقيقي، ذلك أن الجيش البريطاني تحرك مساء يوم 21 سبتمبر (أيلول) من القصّاصين إلى التل الكبير تحت جنح الظلام. وما كان الجيش المصري على استعداد مطلقًا لأنه لم يكن قد اكتشف التحرك البريطاني، الذي باغت القوات المصرية عند الفجر، ولم تطل المواجهة كثيرًا، إذ انقضت القوات البريطانية على قوات عرابي من الجانبين ومن الوسط بعدما طوقتها. وهكذا انهارت قوات عرابي، الذي غادر أرض المعركة بعد الهزيمة متوجهًا إلى القاهرة. وفي العاصمة المصرية عقد عرابي لقاءات موسعة مع الأعيان والمساندين واتضح بعد المداولات أن قبل لمصر بمواجهة عسكرية مع مثل تلك القوات البريطانية الغازية. وعندها تم الاتفاق على التسليم، وفعلاً خرج عرابي بزيّه العسكري واستسلم للبريطانيين، وهكذا وقعت مصر فريسة للاحتلال البريطاني.
أعقب الاحتلال تأليف حكومة مصرية جديدة برئاسة شريف باشا، وأجريت محاكمة القادة العسكريين على رأسهم أحمد عرابي ومحمود سامي البارودي، وصدر عليهم الحكم بالإعدام، إلا أن الحكم عدّل إلى النفي المؤبد لهم، ونفذ الحكم اعتبارًا من 28 ديسمبر (كانون الأول) 1882. ولقد تفاوتت فترات نفي هؤلاء الزعماء، ولا سيما بعدما أصدر الخديو عباس حلمي حكمًا بالعفو عنهم بعدما تدهورت حالاتهم الصحية كثيرًا. ومن ثم عادوا إلى البلاد أيضًا في أوقات متفرقة. فعاد البارودي بعدما كفّ صره، ثم عاد عرابي في أول أكتوبر (تشرين الأول) 1901 وقبله بشهر عاد علي فهمي، رفيق عمره. ولكن الشعب لم يستقبلهم بمثل ما ودّعهم به بعدما رضخت البلاد للاحتلال البريطاني. ولقد عبر محمود سامي البارودي عن حالته النفسية السيئة في المنفى بأبيات شعر عكست حالته وحال الوطن المغلوب على أمره بقوله:
عناءٌ ويأسٌ واشتياقٌ وغربةٌ
ألا شدّ ما ألقاه في الدهر من غبنِ
فإن أكُ فارقتُ الديارَ فلي بها
فؤادٌ أضلّته عيونُ المها عنّي