عُمان.. رصيد إيران الثمين في الخليج

بفضل موقعها الجغرافي وسعيها الدائم لاتباع سياسة متميزة

عُمان.. رصيد إيران الثمين في الخليج
TT

عُمان.. رصيد إيران الثمين في الخليج

عُمان.. رصيد إيران الثمين في الخليج

قام قائد البحرية الإيرانية الأدميرال حبيب الله سياري في مطلع الشهر الماضي بزيارة لروسيا على رأس وفد رفيع المستوى ضم قائد الشؤون الفنية في البحرية الإيرانية الأدميرال عباس زماني. ظاهريًا، تأتي زيارة هذا الوفد الإيراني لحضور فعاليات معرض الدفاع البحري الدولي في العاصمة الروسية موسكو. ولكن على الرغم من ذلك، كما ذكرت المصادر الروسية والإيرانية في وقت لاحق، جلب الوفد الإيراني معه «لفتة تسويقية رائعة» من حيث شراء المعدات والبرمجيات البحرية الروسية. وقرّرت الجمهورية الإسلامية، من واقع عزمها على المضي قدما في مزاعم كونها «قوة إقليمية عظمى»، تطوير وحداتها البحرية إلى وحدات كاملة تعمل في المياه الزرقاء.
لقد كانت هناك ثلاثة أحداث هي التي حفّزت برنامج إظهار القوة البحرية الإيرانية:
الحدث الأول رغبة الرئيس الأميركي باراك أوباما المعلنة لتقليص حجم الوجود العسكري الأميركي في منطقة الشرق الأوسط ثم إنهائه. وإذا ما تابع الرئيس الأميركي المقبل الذي سيخلف أوباما في البيت الأبيض سياسات الرئيس الحالي، ستترك الولايات المتحدة الأميركية فجوة عظيمة لا بد من تغطيتها في تلك المنطقة. والواضح أن القيادة الإيرانية تطمح لأن تشغل إيران ذلك الفراغ.
الحدث الثاني كان الاتفاق المُبرم بين دول مجموعة «الخمسة زائد واحد» المزعومة حول المشروع النووي الإيراني، الذي إذا قيض له أن يدخل حيز التنفيذ الفعلي، سينجم عنه الإفراج عن الأصول المالية الإيرانية لدى الغرب، التي تتراوح ما بين 120 و150 مليار دولار وهو ما يؤمن لإيران ما يكفي من الموارد التي تمكنها من رفع مستوى قواتها البحرية بصورة هائلة. بل إن الميزانية الإيرانية الجديدة، في واقع الأمر، عمدت إلى زيادة مستوى الإنفاق الدفاعي لما يقرب من 23 في المائة، وجزء منها مكرّس بكل تأكيد لإظهار القوة البحرية الإيرانية.
وأما الحدث الثالث، فكان التوقيع السريع من جانب سلطنة عُمان، التي تتشارك معها إيران في أطول سواحلها البحرية بطول يبلغ أكثر من 400 كيلومتر، على معاهدة ترسيم حدود المياه الإقليمية ما بين البلدين الجارتين. وهذه المعاهدة التي عملت وزارة الدفاع الإيرانية على إعدادها كانت قد أرسلت خلال فصل الربيع الماضي إلى وزارة الخارجية في طهران مع طلب إجراء المفاوضات بشأنها والاتفاق عليها مع سلطنة عُمان خلال فترة قدّرت بثلاث سنوات. ولقد اتضح فيما بعد، رغم كل شيء، أن الجانب العُماني ما كان في حاجة إلى «ماراثون مفاوضات» مطوّل، إذ صادق على المعاهدة التي وقّع عليها السلطان قابوس بن سعيد بنفسه في الشهر الماضي.
ولكن، وبما أن النصّ الرسمي للمعاهدة المذكورة لم يأخذ طريقه إلى النشر بعد، ليس أمام المحلّلين إلا التكهّن المجرد حول كامل محتوياتها وما إذا كانت تشتمل على بنود سرية أم لا. مع هذا أفادت التقارير الإعلامية الإيرانية أن المعاهدة الجديدة سوف تعمل على تنظيم سلسلة من الترتيبات التي أبرمتها إيران مع سلطنة عُمان في بدايات عقد السبعينات. وفي ذلك الوقت كان شاه إيران الراحل محمد رضا بهلوي قد أرسل قوة تدخل سريع لسحق التمرّد الشيوعي المدعوم من قبل اليمن الجنوبية - يومذاك - في إقليم ظفار بغرب عُمان.
في ذلك الوقت، اشتملت الترتيبات المذكورة على إعادة تزويد القواعد اللوجيستية التابعة للجيش الإيراني في عدد من المواقع العُمانية ومن بينها ميناء صور ورأس الحد، وكذلك ميناء مرباط إلى الشرق من صلالة عاصمة إقليم ظفار. مع هذا، كتب الجنرال علي خورسند، قائد قوة التدخل السريع الإيرانية، رسالة أوصى فيها «بوجود رفيع المستوى للبحرية الإيرانية في سلطنة عُمان يمتد لما وراء الاحتياجات الراهنة لعمليات مكافحة التمرد». واتفقت تلك «التوصية» تمامًا مع خطة الشاه الطموحة حيال «السوق المشتركة لدول المحيط الهندي»، كما جاءت متوافقة مع مبادئ ريتشارد نيكسون، الرئيس الأميركي - في حينه، والتي يصار بموجبها إلى ضمان الأمن الإقليمي من جانب الحلفاء الإقليميين للولايات المتحدة. ومن ثم، جرى ضمان حقوق الرسوّ للبحرية الإيرانية في عدد من الجزر العُمانية ومن بينها جزر الديمانيات وجزر الحلاّنيات (أرخبيل كوريا موريا سابقًا) وجزيرة أم الغنم (أو جزيرة الغنم) التي تحتل موقعًا استراتيجيًا عند مدخل البوابة الجنوبية من مضيق هرمز.
لسنوات طويلة، استخدمت إيران التهديد بإغلاق مضيق هرمز في منازعاتها الهزلية مع خصومها الإقليميين. وللعلم، فالمضيق عبارة عن جسم مائي يبلغ طوله 54 كيلومترا يربط الخليج العربي بخليج عُمان ثم بحر العرب إلى المحيط الهندي. وينقسم المضيق، في واقع الأمر، إلى قناتين على محاذاة جزيرة قشم الإيرانية البالغ طولها 110 كيلومتر. ويعرف الجسم المائي الواقع إلى شمال جزيرة قشم ويتلامس مع الساحل الإيراني باسم مضيق كلارنس وهو مضيق غير مطروق من جانب طرق الشحن الدولية.
وبالتالي، فإن الجزء إلى الجنوب من جزيرة قشم، الذي يتلامس مع القطاع العماني عند رأس مسندم، هو الذي يحمل الأهمية الاستراتيجية نظرا لحركة المرور الدولية الكثيفة بما فيها مرور ناقلات النفط التي تنقل أكثر من 30 في المائة من تجارة النفط العالمية. وهذا الممرّ الجنوبي هو الذي تهدّد إيران بإغلاقه، ما يحوّل المضيق إلى نقطة اختناق بحرية ويغلق الطريق أمام كل من العراق والكويت والبحرين وقطر والإمارات العربية المتحدة إلى البحار المفتوحة. (بطبيعة الحال لن تعاني المملكة العربية السعودية بقدر معاناة تلك الدول لأنها تتمتع بسواحل طويلة على البحر الأحمر).
الهزيمة أمام الولايات المتحدة
لسنوات طويلة، كانت البحرية الإيرانية التي عانت من هزيمة فادحة على أيدي القوات البحرية الأميركية في أبريل (نيسان) عام 1988، قد خططت لـ«حرب عصابات» ضد الجانب الأميركي داخل مياه الخليج. غير أنه نظرًا لافتقار إيران إلى حاملات الطائرات وبوارج ومدمّرات ثقيلة، فقد صمّمت عقيدتها القتالية على أساس ما يُعرف بـ«الاحتشاد» وهي القوة المتكوّنة من مئات من القوارب الصغيرة السريعة المخصصة لمهاجمة القطع البحرية الأميركية التي تتلقى النيران كذلك من 23 جزيرة إيرانية متناثرة فوق مياه الخليج. وفي هذا السياق، يكون إغلاق مضيق هرمز من الأهمية بمكان لحرمان السفن الأميركية المحاصرة في الخليج من الدعم اللوجيستي وإعادة التموين الضرورية.
هناك جزيرتان تتمتعان بأهمية استراتيجية خاصة بقدر أهمية بسط السيطرة على الجزء الجنوبي من المضيق. فإلى شمال الممر المائي تقع جزيرة هنجام، وهي من توابع جزيرة قشم، ولقد حوّلت بالفعل إلى قاعدة عسكرية. وإلى الجنوب منها قرب شبه جزيرة مسندم تقع جزيرة أم الغنم العُمانية. وحسب حامد زمردي، النقيب السابق بالبحرية الإيرانية، فإن «من خلال الوجود الإيراني في هاتين الجزيرتين، تستطيع إيران بسط سيطرتها على عدوَتي بوابة المضيق. وظل للجزيرتين الصغيرتين، بجانب رأس مسندم المجاورة، أهمية قصوى في التخطيط البحري الإيراني منذ أيام نادر شاه في القرن الـ18 عندما قررت إيران، لأول مرة، بناء قواتها البحرية في مياهها الجنوبية».
كان التاريخ الإيراني الطويل ملحمة متواصلة من السطوع والأفول. وبالتالي، فإن مزاج البناء الإمبراطوري الحالي والشائع في طهران ليس بالشيء الجديد. ولكن رغم ذلك، فإن إيران التي تتربع مرتاحة على مرتفعات شامخة تطل على الخليج لم يكن يحدوها نهم المغامرات البحرية، ولذلك فشلت أيمّا فشل في بناء قوة بحرية قادرة.
غير أن الإمبراطورية الفارسية الأولى كانت، في الواقع، تمتلك قواتها البحرية، إلا أنها كانت تُدار بصورة رئيسية من قبل المُرتزقة المجلوبين من اليونان وفينيقيا على الساحل السوري. ومع أنها كانت تحت قيادة ماردونيوس، ابن عم «ملك الملوك»، عجزت تلك القوات البحرية عن تحقيق منجزات عسكرية تستحق الذكر، بل وفقًا لأسطورة ما كان ماردونيوس يجيد السباحة وكان يصيبه دوار البحر فور اعتلائه متن أي قارب.
لقد دفع الفشل الإيراني في بناء وجود بحري قوي وفعّال بالقوى البعيدة - ولا سيما القوى الأوروبية - إلى اختراق الخليج العربي وخليج عُمان، ونشوء «جيوب» للقرصنة التي تضم قراصنة من أماكن بعيدة للغاية مثل آيرلندا والدول الإسكندينافية. وظهرت على سطح الأحداث أيضًا لحملات البرتغالية والإنجليزية والهولندية الخاصة والرسمية بحثا عن التجارة والهيمنة. وفي تلك الأثناء، كان سكان السواحل يتخالطون بصورة شبه متواصلة فيما بينهم مع مختلف الدول العربية وإيران، أو الأعراق المختلفة والقبائل المسيطرة على أجزاء من الأراضي وبناء الموانئ في مختلف الأماكن قبل طردهم من القوى الصاعدة الجديدة. وانخرطت دولة سورَت القائمة على القرصنة على الساحل الهندي من بحر العرب في ذلك عبر مختلف الأوقات.
العودة الإيرانية القوية
عادت إيران إلى المنطقة بصورة كبيرة خلال القرن الـ18، إذ اشترى نادر شاه أربع سفن حربية من القوى الأوروبية وعيّن الكابتن البريطاني كوك مستشارًا له للشؤون البحرية. ثم شن قائد القوات البحرية وقتها، الأميرال لطيف خان، سلسلة من الغارات البحرية التي انتهت بالاستيلاء على البحرين، وسحق تحدي بعض القبائل والقراصنة، مع غزو قصير لمسقط. ولكن رغم ذلك فإن المغامرات البحرية لنادر شاه لم تستمر طويلا. فلقد أدى اغتياله إلى سقوط إيران في هوة الحرب الأهلية والفوضى، وهو ما صرف الأنظار بعيدا عن مياه الخليج أو «المياه الجنوبية». وبعدها، استغرق الأمر من إيران نحو قرنين من الزمن قبل أن تتمكن من العودة إلى المياه الجنوبية تحت حكم رضا شاه بهلوي، الذي عمد إلى إعادة بناء القوة البحرية الإيرانية بمساعدة ألمانيا وإيطاليا في فترة الثلاثينات من القرن الماضي.
ومجددًا، استطاعت البحرية البريطانية تدمير البحرية الإيرانية لما شرعت بريطانيا، برفقة البحرية الروسية، في غزو إيران واحتلالها عام 1941 تحت مُسمى «قوات الحلفاء» التي كانت تحارب «قوات المحور» بقيادة ألمانيا إبان الحرب العالمية الثانية.
وبالانتقال إلى عقد الستينات من القرن الماضي، تمكن الشاه الجديد (والأخير قبل الثورة الخمينية) محمد رضا بهلوي من إعادة بناء البحرية الإيرانية تحسّبًا لسياسة الانسحاب البريطاني من شرق السويس. وبحلول عام 1979، عندما أجبر الشاه عن التخلي عن العرش ونُفي خارج البلاد، كانت البحرية الإيرانية القوة حقًا الإقليمية الوحيدة التي يعتد بها في مياه الخليج.
كانت طموحات الشاه ترمي إلى إنشاء قوة بحرية للمياه الزرقاء، وتعني وجود قوة بحرية قادرة على الإبحار والعمل بعيدا عن القواعد الموجودة على شواطئ أرض الوطن. وفي عام 1975 و1976، رفعت البحرية الإيرانية الجديدة العلم الإيراني خلال زيارات رمزية لبحر العرب وخليج عدن والبحر الأحمر.
وفي ندوة عقدت في طهران عام 1976 برئاسة وزير الخارجية الأسبق نصر الله انتظام، سلّط الضوء على بناء أو توسعة القواعد الجوية - البحرية في شبه جزيرة جاسك وباساباندر، وعلى ساحل مكران وغوادار بالقرب من الحدود الباكستانية. كما جرت مناقشة بناء أسطول من الغواصات التي تبحر في الأجزاء الشمالية من المحيط الهندي. وكان دائمًا يشار إلى سلطنة عُمان في كل المناقشات على أنها عامل رئيس يساعد إيران على تحقيق طموحاتها البحرية.
فسلطنة عُمان أشبه ما تكون بالجزيرة، وباستثناء الوصلة الهامشية المأهولة في ظفار التي تربطها بمناطق جنوب اليمن، فهي تعتبر مغلقة أو معزولة عن المناطق الداخلية من شبه الجزيرة العربية بوجود مرتفعات الباطنة والربع الخالي، كما أنها محاطة بالمياه من الجوانب الثلاثة الأخرى. ومن الناحية الجغرافية السياسية، تعد السلطنة «الجائزة الكبرى» بحق لكل من يسعى لإظهار القوة البحرية في المحيط الهندي.
في الوقت الراهن تحاول إيران تنفيذ بعض خطط الشاه القديمة القاضية ببناء بحرية المياه الزرقاء مع وجود سلطنة عُمان كمرفق مهم لرسوّ السفن عبر الحدود البالغة 400 كيلومتر. ووفقا للأميرال زماني، في عام 2012، شرعت إيران في تصميم وبناء نظم الدفع النووي لغواصاتها بالفعل. وقال زماني حول ذلك: «بما أننا نمتلك التكنولوجيا النووية السلمية، بإمكاننا تنفيذ برامج بناء أنظمة محركات الغواصات النووية. إن لكل دولة الحق في استخدام التكنولوجيا النووية السلمية فيما يخص نظم دفع السفن». والحقيقة أن إيران باشرت بناء الغواصات عام 2011 من أجل منح مؤسستها العسكرية «السلاح الأكثر تطورًا» والمحافظة على الأمن في مضيق هرمز. وعن هذا يقول زماني: «ليست لدينا أهداف عدوانية، ولكن إذا تعرضنا للهجوم فسوف ندافع عن أنفسنا».
تمتلك البحرية الإيرانية حاليًا 26 غواصة، بما في ذلك 3 غواصات روسية من طراز كيلو الهجومية، و12 غواصة صغيرة، وفقا للمصادر الإيرانية. وخلال زيارته إلى موسكو الشهر الماضي، امتدح الأميرال سياري «النجاح الإيراني في إصلاح الغواصات الثقيلة»، قائلا: «إن القدرات الوطنية الفائقة والامتياز في التكنولوجيا المتقدمة المستخدمة في السفن البحرية تعكس فشل العقوبات والضغوط التي يفرضها علينا أعداؤنا». ويزعم سياري أن إيران واحدة من بين عدد قليل من الدول التي يمكنها تنفيذ عمليات الإصلاح الكاملة أو الجزئية للغواصات.
من ناحية أخرى، ليس مفاجئا أن تحتل سلطنة عُمان تلك المكانة البارزة في التخطيط الإيراني الطويل الأجل حيال إظهار القوة البحرية. ويؤمن الجانب العُماني بأن السلطنة مدينة لإيران بجميل مساعدتها في سحق التمرد الشيوعي الذي استهدف السلطنة في ظفار من جنوب اليمن في فترة السبعينات. وفي بادرة للصداقة ناحية سلطنة عُمان، رفضت إيران خلال السبعينات طلبا من شيوخ خصب وديا، في شبه جزيرة مسندم، معقل قبائل الشحوح والكمازرة (سكان قرية كمزار) بالانفصال عن السلطنة وإعلان دويلات صغيرة مستقلة تحت حكمهم.
عُمان.. والسعي لمكانة سياسية متميزة
اللافت في هذا السياق أن السلطان قابوس كان الزعيم العربي الوحيد الذي حضر في احتفالات عام 1971 بتأسيس الإمبراطورية الفارسية، حين أرسلت الدول الأخرى فقد أرسلت ممثلين عنها من مستويات أدنى، احتجاجا على احتلال إيران جزر طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبو موسى التابعة لإمارتي رأس الخيمة والشارقة، إبان الحماية البريطانية. كذلك كانت سلطنة عُمان أيضا الدولة العربية الوحيدة التي وقفت بجانب مصر بشأن اتفاقية كامب ديفيد للسلام مع إسرائيل.
وتعد مغازلة سلطنة عُمان اليوم جزءا من سياسة أكبر وأوسع للجمهورية الإسلامية من أجل بسط، لمنطقة الخليج على حساب الدول الأعضاء في مجلس التعاون الخليجي، من خلال إقناع أو تهديد تلك الدول بعدم اتخاذ أي جانب معين حال أي صراع ينشأ بين إيران وخصومها داخل أو خارج المنطقة. وحتى الآن، تمكنت سلطنة عُمان من تدشين وتنفيذ سياسة خارجية خالية من المشكلات. ولكن لأي مدى يمكنها الآن وسلطنة عُمان الصديقة من الأصول الكبيرة بالنسبة لسياسة الأمن القومي الإيرانية، ناهيكم عن طموحاتها التوسعية الإقليمية. أما سلطنة عُمان المعادية، فقد تجبر خبراء الاستراتيجية الإيرانيين على التفكير مليا قبل أن يحاولوا ابتلاع أكثر مما يمكنهم هضمه.



حذر روسي في التعامل مع «انفتاح» ترمب على كسر الجليد مع موسكو

من لقاء الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين في العاصمة الفنلندية هلسنكي عام 2018 (آ ب)
من لقاء الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين في العاصمة الفنلندية هلسنكي عام 2018 (آ ب)
TT

حذر روسي في التعامل مع «انفتاح» ترمب على كسر الجليد مع موسكو

من لقاء الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين في العاصمة الفنلندية هلسنكي عام 2018 (آ ب)
من لقاء الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين في العاصمة الفنلندية هلسنكي عام 2018 (آ ب)

طوال فترة الحملات الانتخابية في الولايات المتحدة، حرص الرئيس المنتخب دونالد ترمب على تأكيد قدرته على كسر كل الحواجز، وإعادة تشغيل العلاقات مع موسكو عبر تفاهمات سريعة وفعالة لوقف القتال في أوكرانيا، ووضع خريطة طريق لمعالجة الملفات الخلافية المتراكمة مع الكرملين. وقبل أيام قليلة من تسلم صلاحياته رسمياً، برزت اندفاعة جديدة من الرئيس الجمهوري نحو روسيا، عندما أعلن استعداده لتنظيم لقاء عاجل مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين يرسم ملامح العلاقة المستقبلية ويضع خطط إنهاء الحرب وتخفيف التوتر على مسار التنفيذ. لكن اللافت أن هذه التصريحات لم تُقابَل بشكل حماسي في روسيا. بل فضَّل الكرملين التزام لهجة هادئة تؤكد الانفتاح على الحوار، مع التذكير في الوقت ذاته، بعنصرين ضروريين لنجاح أي محاولة لكسر الجليد بين البلدين، أولهما اتضاح الملامح الأولى لرؤية الرئيس الأميركي الجديد لتسوية الملفات الخلافية المتراكمة، والآخر التذكير بشروط الكرملين لإنهاء الحرب في أوكرانيا. وبالتوازي مع ذلك، بدت تعليقات الأوساط المقربة من الكرملين متشائمة للغاية، حيال فرص إحراز تقدم جدّي على أي مسار... لا في الحرب الأوكرانية ولا العلاقات مع «ناتو»، ولا ملفّات الأمن الاستراتيجي في أوروبا.

لا ينظر أحد في روسيا بجدية إلى إمكانية تحقيق قفزات سريعة تؤدّي إلى تحسّن العلاقات مع الولايات المتحدة، وتضع إطاراً واقعياً للحوار حول الملفات الخلافية. وعلى الرغم من أن الرئيس الأميركي العائد دونالد ترمب صرّح مرّات عدة بأن موقف روسيا يمكن فهمه، وأن سبب الصراع كان إلى حد كبير السياسة المناهضة لروسيا التي تنتهجها «الدولة العميقة» الأميركية، فإن الأوساط الروسية تنظر بريبة إلى قدرة ترمب، العائد بقوة إلى البيت الأبيض، في تجاوز الكثير من «المطبّات» التي تعترض طريق إعادة تشغيل العلاقات بين موسكو وواشنطن.

رسائل روسية واضحة

في هذا الصدد، كان لافتاً أن موسكو تعمّدت توجيه رسائل واضحة إلى الإدارة الأميركية الجديدة، عبر إطلالتين إعلاميتين لشخصيتين تعدّان من أبرز المقربين لبوتين، هما وزير الخارجية سيرغي لافروف والمستشار الرئاسي وعضو مجلس الأمن الروسي نيكولاي باتروشيف. وفي الحالتين كان التوقيت وشكل التعامل مع «اندفاعة ترمب» يحظيان بأهمية خاصة.

جوهر كلام المسؤولين ركّز على قناعة بأن العالم قد يكون أمام «فرصة حقيقية للسلام» في عهد ترمب، بيد أن الانفتاح الروسي على الحوار مرتبط باستناد هذا الحوار إلى أسس «مبادرات ملموسة وخطوات ذات معنى بشأن الاتصالات على أعلى مستوى»، والأهم من ذلك، أن تتوافر لدى ادارة ترمب «اقتراحات محددة» بشأن أوكرانيا، وفق تعبير لافروف.

والاقتراحات المحددة المطلوبة روسياً، ينبغي أن تنعكس - كما قال الوزير – بـ«جدية في الاستعداد لحل المشاكل المتراكمة عبر الحوار لا عبر الضغوط والتهديدات» التي لم ينجح سلف ترمب في معالجتها.

وفي إشارة ذات مغزى، قال لافروف إنه «من المفيد أن نرى ما هي الأساليب التي سيستخدمها ترمب لجعل أميركا أعظم». وهذه عبارة أكملها باتروشيف بقوله: «هل سيكون ترمب قادراً على ترجمة نواياه بالكامل؟ وكما أظهرت ولايته الأولى، فإن (الدولة العميقة) السيئة السمعة في الولايات المتحدة... قوية للغاية».

أوكرانيا «رأس الأولويات»

الموقف الذي أعرب عنه المسؤولان الروسيان ينطلق من «الاستعداد للمناقشة والاتفاق على أي شيء باستثناء شيء واحد - أوكرانيا. (...) لقد عبّرنا عن موقفنا مراراً وتكراراً، وهو موقف لا يمكن تغييره». وفي هذا الإطار، لوّح لافروف بأنه إذا توصّلت روسيا إلى استنتاج مفاده أن واشنطن ستواصل دعم «النظام النازي المعادي في كييف» فإنها (أي موسكو) ستضطر إلى اتخاذ قرارات صعبة. في حين قال باتروشيف إن أوكرانيا «قد تختفي عن الخريطة خلال هذا العام» إذا استمرت السياسات الغربية السابقة.

الرسالة الروسية الثانية لترمب كان فحواها أن أي تسوية أو ضمانات لأوكرانيا، يجب أن تكون مرتبطة باتفاقيات أوسع نطاقاً. وهنا قال لافروف إن «روسيا مستعدة لمناقشة الضمانات الأمنية لأوكرانيا، لكنها يجب أن تكون جزءاً من اتفاقيات أكبر». بينما أوضح باتروشيف أنه بالإضافة إلى التوصل إلى ترتيبات أمنية في القارة الأوروبية «يجب وقف التمييز ضد السكان الروس في عدد من البلدان، وبالطبع، في دول البلطيق ومولدوفا».

أما النقطة الثالثة التي تحدّد شروط الحوار، فتنطلق من ضرورة البدء بمنح روسيا ضمانات كاملة عبر ملفي: وقف مسار ضم أوكرانيا إلى حلف شمال الاطلسي (ناتو) وتأكيد حيادها لعشرات السنوات، وتقليص القدرات العسكرية لهذا البلد ومنع تسليحه مجدداً.

هكذا، ترى موسكو المدخل الصحيح للحوار، الذي يجب أن يتأسس - كما قال الرئيس الروسي سابقاً - على قاعدة الإقرار بالتغييرات الميدانية التي وقعت خلال سنتين، بما يضمن الاعتراف الغربي بضم شبه جزيرة القرم والمناطق الأربع التي ضمتها روسيا خلال عام 2022.

تشكل هذه القاعدة التي تنطلق منها موسكو سبباً وجيهاً للتوقعات المتشائمة حول فرص إحراز تقدم، تضاف إلى الشكوك المحيطة بقدرة ترمب الفعلية على تجاوز كل العقبات والضغوط الداخلية والانطلاق نحو تقديم تنازلات مهمّة للروس.

يرى خبراء روس أن ترمب لن ينجح في قلب الموازين الداخلية،

لصالح إطلاق تغييرات جذرية في السياسة الخارجية الأميركية

التداعيات على أوكرانيا

كيف يتأثر الوضع في أوكرانيا؟

في هذا الإطار، وضع أحد أبرز خبراء السياسة في «المجلس الروسي للسياسة والأمن»، وهو مؤسسة مرموقة ومقربة من الكرملين، التصور التالي لشكل العلاقة مع ترمب في ملفات رئيسة:

بدايةً، في أوكرانيا ستفشل محاولة ترمب للتوصل إلى وقف إطلاق النار على طول خط التماس. وذلك لأن المخططات الأميركية لـ«وقف الحرب» تتجاهل تماماً المصالح الأمنية الروسية، كما تتجاهل الأسباب التي أدت أولاً إلى الأزمة ثم إلى الصراع العسكري واسع النطاق في أوكرانيا.

في المقابل، لن تقبل واشنطن الشروط الروسية لبدء المفاوضات ومعايير السلام التي أعلن عنها الرئيس فلاديمير بوتين في يونيو (حزيران) الماضي؛ لأنها تعني في الواقع استسلام كييف وهزيمة استراتيجية للغرب. وخلافاً لتوقعات التهدئة، فإن ترمب «المهان»، رداً على رفض خطته، سيعلن دعمه لأوكرانيا ويجمع حزمة أخرى من العقوبات على موسكو. لكنه في الوقت نفسه، سيمتنع عن التصعيد الجدي للصراع؛ كي لا يستفز روسيا ويدفعها إلى ضرب أراضي دول «ناتو»، بما في ذلك القواعد الأميركية الموجودة هناك. ومع هذا، ورغم غطاء الخطاب القاسي المعادي لروسيا، فإن المساعدات الأميركية لنظام كييف ستنخفض، وسيتعيّن على الأوروبيين تغطية العجز الناتج من ذلك. ومن حيث المبدأ، فإن الاتحاد الأوروبي مستعدٌ لذلك، وبالتالي لن يكون هناك خفض كبير في الدعم المادي لأوكرانيا من الغرب في العام الجديد على الأقل.

إلى جانب ذلك، قد تحاول واشنطن، وفقاً للخبير البارز، بدعم من بريطانيا وحلفاء آخرين، تعزيز الموقف السياسي الداخلي لنظام كييف من خلال المطالبة بإجراء انتخابات في أوكرانيا، وبالتالي استبدال فولوديمير زيلينسكي وفريقه المكروهين بشكل متزايد بمجموعة أخرى بقيادة رئيس الأركان السابق فاليري زالوجني. لكن التأثير السياسي المحلي لمثل هذا الاستبدال سيكون قصير الأجل.

العلاقة مع أوروبا

أيضاً، يرى خبراء روس أن ترمب لن ينجح في قلب الموازين الداخلية، لصالح إطلاق تغييرات جذرية في السياسة الخارجية الأميركية. وهذا يعني أنه لن يحقق وعوده حيال علاقة الولايات المتحدة مع «ناتو»، وبدلاً من ذلك، سيرفع السعر الذي يتوجب على الأوروبيين دفعه للانضمام إلى التكتل.

ووفقاً لبعض الخبراء، سيكون لزاماً على الأوروبيين، الذين كانوا يخشون عودة ترمب، أن يقسموا يمين الولاء له. وبالتالي، «لن تكون هناك معارضة ضد ترمب بأي شكل من الأشكال؛ لأن دول الاتحاد الأوروبي تحتاج إلى أميركا زعيمةً: ليس فقط حاميةً عسكريةً، بل وأيضاً زعيمةً سياسيةً ــ لا تقل عن حاجتها إلى روسيا باعتبارها «تهديداً مباشراً على الأبواب».

بهذا المعنى، تتطابق آراء الخبراء في مسألة أن «العداء لروسيا سيظل العامل الحاسم في توحيد أوروبا في عام 2025».

ويضيف بعضهم القناعة بأنه خلافاً للفكرة الرائجة بأن الأوروبيين متردّدون في مواجهة روسيا، بشكل رئيس بسبب الضغوط الأميركية، فإن الحقيقة أن روسيا، باعتبارها عدواً، تشكل عاملاً قوياً في توحيد النخب الأوروبية ودولها. بمعنى أنه كان لا بد من «اختراع التهديد الروسي»، وتقديم الحرب في أوكرانيا باعتبارها المرحلة الأولى من «الاختطاف الروسي لأوروبا».

في السياق ذاته، ينظر إلى الانتخابات المقبلة في ألمانيا، بأنها ستحمل إلى السلطة ائتلافاً جديداً، سيعمل أيضاً على تشديد السياسة تجاه موسكو. ولكن في الوقت نفسه، من غير المرجح إرسال قوات أوروبية إلى أوكرانيا بناءً على دعوة من فرنسا، لأن أوروبا تنظر إلى خطر الصدام العسكري المباشر مع روسيا على أنه مفرط في المخاطرة.

وداخلياً، ينتظر أن تواصل أوروبا الاستعداد بنشاط للحرب مع روسيا - وفقاً لأنماط الحرب الباردة في النصف الثاني من القرن العشرين، لكن على حدود جديدة، تحولت بشكل كبير نحو الشرق. كذلك، سيزداد الإنفاق العسكري للدول، ويتوسع الإنتاج العسكري، وتتحسن البنية التحتية العسكرية، وبخاصة، على الجانب الشرقي لـ«ناتو». وبناءً عليه؛ سيصبح المناخ الاجتماعي والسياسي أكثر صعوبة أيضاً.

وهكذا، بشكل عام، يقول خبراء روس إن عام 2025 عموماً سيكون مليئاً بالصراعات، الممتدة من عهد ولاية الرئيس جو بايدن حول روسيا وفي أوروبا، كما سيكون محفوفاً بالمنعطفات غير المتوقعة والخطيرة.

ومع القناعة بأن الاضطراب الاستراتيجي يتزايد باطراد، فإن نتيجة المعركة من أجل النظام العالمي الجديد ليست مُحددة مسبقاً بأي حال من الأحوال. إذ إن نقطة التوازن الافتراضية في النظام العالمي لا تزال بعيدة كل البعد عن الأفق. وفي هذا الصدد، يرون أن روسيا ستواجه في عهد الإدارة الجديدة تحدّيات جديدة في العديد من المجالات... ولا بد أن تكون مستعدة لها.