غياب الرواية المعاصرة عن الواقع السياسي علته منها وفيها، لأن الروائي لدينا محصور فكره في رواية المشاعر وسرد الهذيان النفسي، فهو يرى في ذلك هدفا رئيسا له ككاتب، ولا يحمل همّا آخر، لذلك نلاحظ أننا لا نملك الرواية العلمية، ولا الرواية التاريخية، ولا الرواية الإنسانية السامية.
كما أن الروائي لدينا أشبه بالعاجز عن نسخ خيال قصصي متكامل البنى، فما يقدمه الكثير من الروائيين مجرد قصائد على شكل روايات، مشاعر مسكوبة في صفحات طويلة يتخللها بعض المواقف والمصادفات التي ترتبط بنزواتهم الشخصية.
لذا فالرواية فقيرة في مظهرها الفني، ومحدودة في فكرتها الشحيحة، وجل ما تقدمه هو أفكار مكررة، وتقليد بإعجاب لأعمال سابقة إن لم تكن هذه الأعمال قد باتت منتهية الصلاحية، ولا ننسى الانصراف الكامل عن قراءة الأعمال الجادة في الشرق والغرب، وارتهانهم لأعمال محلية محدودة أشهرتها بعض شطحاتها.
الرواية السياسية موضوع حارّ مستمر الغليان، وتدوينه في نسيج روائي سيحيله إلى البرودة الموضوعية، وبهذا يكون قضية ذاتية تخص الراوي حتى وإن تجاوب معها المجتمع لمجرد الموضوع نفسه.
نحن لا نملك عدسة روائية ترصد الراهن السياسي بشجاعة وتجرد، لأنها بالكاد تلمس بأصابع أقدامها أقصر الخطوط الحمراء، ناهيك عن أن الرواية السياسية تنمو في مجتمعات بيئتها خصبة للأحزاب والمجالس السياسية.
قد تكون القصيدة أقرب للقضية السياسية من الرواية، فالنص الروائي نص بارد بطبيعته النثرية، وما يحصل في الرواية السياسية السعودية هو قضية سياسية داخل قضية أدبية تثقلها الخيبات الفنية واللغة الشوارعية، هناك روايات معدودة جدا ولدت على أنها سياسية وهي تحت رعاية أسلوب المواربة.
أرى جازما أن الرواية السعودية السياسية تتمثل في نماذج استوفتها استيفاء كاملا على الأقل بما نسبته ثمانين في المائة من مجمل العمل الروائي؛ وهي رواية «شقة الحرية» ورواية «العصفورية» وكلتاهما لغازي القصيبي، وكانت الرواية الثانية أعلى مرتبة من الأولى حيث مثلت مشرحة للسياسة العربية. تأتي بعدهما ثلاثية «أطياف الأزقة المهجورة» لتركي الحمد التي أراها نموذجا يحتل المرتبة الثانية بعد عملي غازي القصيبي.
أما مستقبل الرواية السياسية في السعودية فهو مرهون بالهمّ العربي أولا، ويكون ذلك من ذات الكاتب نفسه، وما لم يتأثر الكاتب بالهم العربي الإنساني فلن يحرص على همومنا السياسية الصغيرة مع الهموم العربية الكبيرة، ولكن ما دام الروائي متأثرا ومملوكا فكره وإعجابه بأعمال سابقة تصب كلها في نهر العاطفة ومواضيع الحب المنتهي بالفشل، فلن يتغير شيء ولن نكون على ميعاد مع رواية سياسية جديرة، مع أنني لا أجد ذلك مكتملا حتى في الرواية العربية، فالرواية السياسية العربية ينقصها الكثير كي تكون رواية سياسية بالمعنى المراد لها أن تكون، فأغلب ما كتب في ذلك كان تمريرا وتلميحا لا غير.
عن نفسي اجتهدت في تقديم روايتي الثانية «دم يترقرق بين العمائم واللحى» على أن ترصد الربيع العربي بكاميرا أسطورية العدسة، من دون النزول بها إلى سفح الواقعية المملة التي تشعر القارئ وكأنه يشاهد قناة إخبارية، وجعلت من شخصياتي كائنات لها قضايا إنسانية متعددة تقف جميعها تحت مظلة الهم الإنساني، وراعيت ألا تكون هناك بطولة لشخصية بعينها إلا في الحالات الملحة، لأن الرواية ذات النفس الجماعي لا تحتمل إلا أن تكون بطولتها جماعية، فمن يقرأ العمل سيجد أن كل الشخصيات تسعى لهدف واحد، فقد فتحت السرد على زمن لا ينتهي ومكان لا يستقر، مستفيدا من الألم العربي على طيلة صفحاته التاريخية، واضعا السلطة العربية عامة أمام نفسها، والمجتمع العربي كمريض يقف أمام مرآته ينظر ماضيه العربي ثم يدير رأسه وينظر حاضره ليجد أنه لم يتغير شيء في حياة العرب السياسية.
* شاعر وروائي سعودي