يفسر علماء النفس الاشتياق للماضي أي النوستالجيا بأنها حالة يمر بها الإنسان إذا كان غير راض عن حاضره، وهذه حالة عدد من الألمان الشرقيين الذين أوجدوا تعبيرا جديدا لحالتهم وهو «الأوستالجيا» أي الاشتياق لألمانيا الشرقية، لكن ليس لنظامها فأصبحت هذه المشاعر حسب وصف الممثل المسرحي الألماني الشرقي الناقد أوفيه شتايمله مثل حقيبة السفر المليئة بالحنين لذكريات وعادات وتقاليد وعلاقات اجتماعية كانت سائدة يفتح من يشتاق كي يتنشق رائحتها للحظات.
ومسبب الأوستالجيا هو فقدان الهوية في ألمانيا الشرقية بعد إعادة توحيد البلاد، فانهيار النظام الشرقي وتلاشي قيمه بهذه السرعة الفائقة، أيضا الإيحاء من قبل الكثير من الألمان الغربيين بأن الألماني الشرقي لا يمكنه التطبع في المجتمع الغربي ولا يستطيع إدراك حريته الشخصية، أدى إلى الإصابة بمشاعر الاشتياق والعناد ورفض الحاضر. وبغض النظر عن هذا المسبب فإن من التبعات غير المتوقعة للوحدة كانت وما زالت ارتفاع عدد العاطلين عن العمل في الأقاليم الشرقية وتراجع التنمية الاقتصادية هناك، وهما عاملان مهمان جدا لتعميق الحنين للماضي أي الأوستالجيا. فالكثير من الألمان الشرقيين أصيبوا بخيبة أمل لأنهم حلموا بأوضاعهم اقتصادية ممتازة، وهذا ما لم يحدث في مجتمع الاقتصاد الحر، مما أيقظ المرارة والمشاعر والاشتياق للأوقات الخوالي في ظل النظام الشيوعي، وكما يقول رالف شنايدر عالم النفس الألماني «من خيبة الأمل هذه رسمت صورة لم تكن موجودة لألمانيا الشرقية».
* سنوات لم تغير كثيرا
وبالعودة إلى الوراء، قبل أكثر من 25 عاما وقف عشرات الآلاف من الألمان الشرقيين عند الجدار الفاصل في برلين مطالبين بإزاحته والإطاحة بكل ما يمثل النظام الشيوعي حتى إنهم أوقفوا العمل في المصانع بهدف سرعة انهيار الحكومة التي استقالت بعد أيام قليلة. والعبارة الشهيرة التي ترددت يومها «إذا لم يأت إلينا المارك (أي المارك الألماني الغربي) فسوف نذهب إليه»، كانت ممزوجة بأحلام الثراء والسفر من دون حدود وامتلاك أجمل السيارات. وفي التاسع من نوفمبر (تشرين الثاني) عام1989 أعلن غونتر شابوفسكي عضو المكتب السياسي للحزب الاشتراكي الألماني الموحد خلال مؤتمر صحافي أن ألمانيا الديمقراطية فتحت المعابر الحدودية كرد فعل فوري وبعدها بقليل انطلقت سيول من الألمان الشرقيين عبر المعابر لإزالة الجدار بكل الوسائل حتى بالمطارق الصغيرة كتعبير عن شغفهم للتوحيد وإسقاط الجدار، وفي يوليو (تموز) عام 1990 أصبح المارك الألماني الغربي هو العملة الوحيدة المتدوالة في كل ألمانيا.
إلا أن المتابع لمجريات الأمور في الجزء الشرقي من ألمانيا منذ نوفمبر 1989 وحتى اليوم يلاحظ الفترات الصعبة التي مر بها الكثير من الألمان الشرقيين بعد استيقاظهم من نشوة الاحتفالات بالوحدة. إذ بالنسبة لهم لم تعد الحياة إلى مجراها كما كانت في السابق، وكان عليهم الاصطدام بعوائق ومشكلات نفسية وإدارية ونظامية وعقائدية واجتماعية وفي سوق العمل أيضا من أجل الاندماج في الوطن الجديد القديم، بعضهم نجح في ذلك إلا أن البعض الآخر بدء يتغنى ويتذكر الماضي خاصة الذين لم تتحسن أوضاعهم كما كانوا يحلمون، فهم حصلوا على حرية التحرك والسفر إلى كل مكان في العالم بعكس زمن الشيوعية، لكن المال أصبح العامل المهم لتحقيق ذلك، وكان عليهم الجهد والعمل ساعات الدوام بالكامل بدلا من التكاسل وشرب القهوة في فترات الاستراحة في المصانع وكانت طويلة، بينما في نظام الاقتصاد الحر فإن كل واحد يحاسب على إنتاجه ومن يتقاعس يطرد، وكانت عبارة «طرد من عمله أو عاطل عن العمل» نادرا ما تسمع، لأن النظام الشيوعي كان يعتمد استراتيجية البطالة المبطنة، أي تشغيل عاملين أو أكثر في وظيفة واحدة كي لا تكون هناك بطالة حقيقية مع تدني مستوى الإنتاج وبهذا كان يحاول التعتيم على مشكلاته الداخلية بكل الوسائل لكن أيضا بالعنف والتعسف.
وبعد مرور ربع قرن يطرح السؤال هل اندمج الألمان الشرقيون حقيقة مع مواطنيهم الغربيين؟
دراسات كثيرة لعلماء نفس تناولت هذا الموضوع بدقة وحذر كي لا يقال إن الشرقيين لا يمكنهم التخلي عن عقلية تعايشوا معها عقودا طويلة أي منذ شهر أغسطس (آب) عام 1961، والحقيقة كما يقولون يتطلب اندماجهم الفعلي نفس هذه الفترة الزمنية أو أكثر، وحتى هذا الوقت سوف يعيش البعض منهم حياة مزدوجة بين الحنين للماضي ومحاولة الاندماج في الحاضر. لكن المشكلة الأخرى أن هناك ألمان يصرون على العيش في الماضي لشدة الحنين إليه كالبقاء في مناطقهم الشرقية واقتصار نشاطهم الاجتماعي على الحي القديم وأشخاص لهم نفس التفكير.
* عادات عادت
ومن المظاهر التي تدل على ذلك عند زيارة بعض المناطق في الأقاليم الشرقية اليوم وجود حارات وأحياء لا تختلف عما كانت عليه قبل الوحدة، حتى في مدن مثل برلين أو درسدن أو يينا وفيها محلات تجارية ما زالت على حالها مع ديكوراتها الداخلية وتبيع سلعا تصنع خصيصا على يد ألمان شرقيين مثل نقانق تورنغن والكات فورتس وهو الهوت دوغ الشرقي، ويقصد الكثير من الألمان الشرقيين جادة شون هويزر في برلين لشرائه من محل «الن سناك» فهو يحضره بنفس الطريقة السابقة. كما يبحث الكثيرون عن الصابون المسمى «نوفوم يونيفرس» المزيل للبقع أو التلذذ بقطعة الشوكولاته «روتشتيرن شوكولادي» أو غيرها من الحلوى. ومن يدخل المحل الصغير المسمى «إنترشوب 2000» في حي فريدريشس هاين يخال نفسه في ألمانيا الشرقية، ففيه أكثر من 80 سلعة شرقية أصلية تم الاحتفاظ بها وتعرض اليوم إلى المشتاقين للوطن «الضائع»، وفي نفس المحل لا يكتشف المرء أشياء من ذكريات الماضي فقط بل معدات تصوير سينمائي كان يستخدمها هواة التصوير. ومن يريد العودة إلى الماضي لوقت قصير ما عليه إلا زيارة مطعم «أوزيريا» في منطقة فايسن زيه، فكل الأكلات التي كانت تقدم في مطاعم ألمانيا الشرقية متوفرة هناك من شرائح اللحم المسماة ياكت فورست - يغر شنيتسل إلى المرقة بلحم الأرنب إضافة إلى البيتزا الألمانية الشرقية المسماة بيتزا ليبزيج أو بيتزا بوتسدام أو بيتز درسدن ولها طعم يختلف عن البيتزا الإيطالية فالاسم هو العامل المشترك فقط.
وتوارث الأبناء من الوالدين حبهم لما يسمى بماكلنبورغر باور كوتليت اي كوتليت المزارع (شرائح لحم بقر) ومنشأها ولاية مكلنبورغ فوربومرن الشرقية وتقدم اليوم كما في السابق في مطاعم على ضفاف نهر شبري.
ومن السلع الرائجة وتذكر بألمانيا الشرقية قمصان حزب الشباب الحر الألماني الزرقاء وعليها إشارة الحزب «إف دي يوت» أو مشروب كولا كلوب وكانت حكومة ألمانيا الشرقية قد سمحت بإنتاجه عام 1966 ليكون بديلا للكوكاكولا الأميركية.
* الحنين للموسيقى والأفلام
وتجد موسيقى فناني الستينات والسبعينات في ألمانيا الشرقية رواجا مثل موسيقى المغني رالف هانكل ومع أن موسيقاه راجت في الحقبتين الزمنيتين بعدها انطفأت، لكن هذا الفنان أدرك موجة الحنين للماضي فبدأ بالترويج لموسيقاه وما بين عام 1995 و2000 وأقام مائة حفلة حضرها أكثر من 20 ألفا من لديهم حنين لألمانيا الشرقية. والأمر لا يقتصر على الموسيقى بل والأفلام المنتجة في حقبة ألمانيا الشرقية أو أفلام جديدة عن هذه الحقبة مثل فيلم «وداعا لينين» وما زال يعرض في محطات التلفزيون، ويصور المجتمع يومها بكل حذافيره ولقي إقبالا غير عادي خاصة من الألمان الشرقيين لأنه لا يوقظ فقط الحنين للماضي بل التشبث بذكريات الماضي أيضا. ولقد دفع هذا التوجه ببعض منتجي الأفلام للبحث عن مواضيع وقصص كانت تدور في ألمانيا الشرقية لتصور مثل المسلسل الكوميدي «السنوات السعيدة» ويحكي مراحل حياة صبي يدخل في مرحلة المراهقة ويعيش مع عائلته وفي مبنى ضخم والمشكلات اليومية منها المضحكة ومنها المبكية وكل ذلك في إطار بعيد عن السخرية أو انتقاد زمن ألمانيا الشرقية. ورواد متحف ألمانيا الشرقية في وسط العاصمة برلين بالآلاف يوميا ويعرض فيه كل ما له علاقة بحياة الناس خلال الحقبة الشيوعية، أي من تقسيم المنزل ووسائل التسلية وحتى محتويات المحلات التجارية.
* سخروا منها واليوم يريدونها
ومع أنهم سخروا أواخر الحكم الشيوعي من سيارة ترابانت (او ترابي) التي بدأت تصنع في مصنع السيارات ببلدة سفيكاو عام 1957، وكان شراؤها يدوم سنوات طويلة حسب قوائم الحكومة، إلا أنها بعد الوحدة لم تعد فقط جزءا من ذكريات الماضي الذي يحن الألماني الشرقي إليه. إذ من يملك واحدة فهو يملك رأسمال لأن سعرها اليوم أصبح أضعافا، كما حولها البعض إلى سيارات مختلف الأشكال مثلا إلى سيارة ليموزين طويلة أو سيارة سباق. والصرعة الأخيرة اليوم أن هذه السيارة أصبحت جزءا من الوجه السياحي لبرلين فهناك مكاتب سياحية تضع تحت تصرف المجموعات السياحية سيارة ترابي للقيام بجولة ضمن المعالم السياحية، فيجد السائح متعة في ذلك لأنه كما يقول البعض يعيش جزءا من ألمانيا الشرقية وهي لحظات جميلة لن تعود أبدا.