لم يمر مهرجان القدس السينمائي الدولي من دون إثارته مشكلة نتج عنها مزيد من المشكلات والإثارات. المهرجان الإسرائيلي أقيم ما بين التاسع والتاسع عشر من هذا الشهر في الجزء الغربي من مدينة القدس، وذلك في نطاق الدورة الثانية والثلاثين. ملصقه كان من أكثر ملصقات المهرجانات السينمائية الدولية تقليدًا وبعدًا عن التحديث: حصان وخيالاته المتعددة وهو يرتفع عن الأرض على خلفية سماء داكنة وخطوط مرسومة تمتد من بعيد وتمر من تحته.
لكن هذا الملصق لم يثر مشكلة مطلقًا ولو أنه لم يثر شيئًا آخر أيضًا. ما أثار هو فيلم إسرائيلي بعنوان «ما وراء الخوف» لهيرز فرانك وماريا كرافشنكو الذي كان من المقرر عرضه داخل المسابقة في يوم الافتتاح، جنبًا إلى جنب فيلم «أمي» للإيطالي ناني موريتي، لكنّ ضغطًا حكوميًا أدّى إلى سحبه من المسابقة، ولو أن المهرجان رفض سحبه من العروض كلية كما طلبت وزيرة الثقافة والرياضة ميري رجف.
لقاء فلمسة فزواج
حسب مجلة «سكرين» البريطانية التي قامت بطباعة نشرة يومية سينمائية طوال فترة المهرجان، فإن قرار الوزيرة نتج عنه تجمّع من المتظاهرين قوامه منتجون ومخرجون إسرائيليون، معارضين للقرار واتهام الحكومة بأنها بدأت بممارسة رقابة على أعمالهم وإنتاجاتهم، ما يُخشى معه زيادة تدخلها في أعمالهم بسبب مضامينها. ومع أنه لا توجد أدلة ملموسة على تفشي رقابة إسرائيلية على الأفلام التي يحققها إسرائيليون، إلا أن المناوئين للوزيرة رجف وجدوا أن هذا الطلب ما هو سوى تمهيد إذا ما تمّت الموافقة عليه قد يدخل العمل الإبداعي السينمائي في دوّامة الرقابة على مضامين أعمالهم.
هذا التجمع شمل المخرج ناداف لابيد مخرج «معلم مدرسة الأطفال»، والمخرجة كارين يدايا التي ربحت «الكاميرا الذهبية» من مهرجان «كان» السينمائي سنة 2004 عن فيلمها «أو» (Or)، وشلومي إلكابتز صاحب الفيلم الذي مثّل إسرائيل في جائزتي غولدن غلوبس والأوسكار وهو «محاكمة فيفيان أمسالم»، والمخرج رعنان ألكسندروفيتش صاحب فيلم «القانون في هذه المناطق»، وهو فيلم تسجيلي من إنتاج 2011 انتقد سياسة الحكومة الإسرائيلية حيال فلسطينيي الأراضي المحتلة، ونال جائزتي مهرجان جيروساليم في العام ذاته، كأفضل فيلم تسجيلي، وجائزة مهرجان صندانس السينمائي في الولايات المتحدة كأفضل فيلم تسجيلي أيضا في العام التالي.
فيلم «ما وراء الخوف» تسجيلي ينضوي على موضوع سياسي مثير للجدل، إذ يدور حول ييغال أمير، قاتل رئيس الوزراء الأسبق إسحاق رابين في الرابع من نوفمبر (تشرين الثاني) سنة 1995 وكيف أنه ارتبط بعد صدور قرار حبسه مدى الحياة، بامرأة روسية اسمها لاريسا طُلّقت من زوجها وهجرت أبناءها الأربعة وتزوّجت من ييغال وأنجبت منه.
الوصول بالعلاقة إلى مستوى الإنجاب من دون إطلاق سراح ييغال ليوم واحد مرّ بقضايا قضائية شائكة بدأت عندما طالب محامون يمثّلون الزوجة بأنه يحق لها أن تلتقي بزوجها من وراء القضبان. ثم عندما حصل الاثنان على ذلك الحق تم تقديم طلب آخر بأن تتلامس أيديهما من خلال الحواجز في تلك اللقاءات، ثم انتقلت إلى مرحلة القبول بزواجهما، ووصلت إلى مرحلة أنه بات يحق لها زيارته مرّة في الشهر. ومع كل مرحلة كانت تنشب معركة قضائية يتابعها القراء كمتابعتهم «سوب أوبرا» على حلقات.
ويشير الناقد الإسرائيلي دان فينارو إلى أن فيلمًا سابقًا لـ«ما وراء الخوف» شهد وضعًا ماثلاً سنة 1988 عندما تم تقديم فيلم تسجيلي آخر بعنوان «الحكم الأخير» حول قاتل إسرائيلي اغتال رئيس نقابة عمالية. «في كلتا الحالتين» يكتب الناقد فينارو: «يحاول الفيلم منح القاتل مفهومًا إنسانيًا من دون أن يحكم على فعلته».
المخرج هيرز فرانك كان انتقل من لاتفيا إلى إسرائيل ليعيش ويعمل فيها سنة 1922 وتوفي قبل أن ينجز الفيلم (سنة 2013)، ما دفع المشروع إلى يدي ماريا كرافشنكو لإكماله بعد عدة سنوات على بدء العمل عليه. خلال تلك السنوات، كان المخرج فرانك قد جمع مادة غزيرة من المقابلات والأفلام الوثائقية المسجلة وأشرطة تسجيل المكالمات. ما لم يستطع المخرج الحصول عليه هو إذن بزيارة السجين أو التحدث إليه. كما صوّر ابن هيرز فرانك الذي يعيش مع والدته على نحو وجده المعارضون للفيلم يثير الشفقة.
الفيلم يتطرّق إلى حادثة اغتيال إسحاق رابين لكنه يلتزم بعدم البحث عميقًا في أسبابها. تلك المسببات تم تداولها منذ ذلك الحين فأثيرت شائعات من أن القاتل انتمى إلى حزب يميني وجد في سياسة رابين السلمية خطرًا يتهدد الكيان الإسرائيلي، وأخرى قالت إن جريمته كانت دينية الدوافع (وهو أمر آخر يوفره الفيلم كفكرة غير مكتملة العناصر، حسب النقد المنشور). كذلك لا يجيب الفيلم عما إذا قام القاتل بالعملية وحده أو كان له شركاء يختفون وراءه.
حق الكلام
في رسالتها إلى المهرجان طالبت وزيرة الثقافة بسحب الفيلم وهددت بحجب التمويل (لم تذكر إذا كان الحجب جزئيًا أو كاملاً) عن المهرجان. وبررت ذلك بقولها إنها تسلمت «آلاف الرسائل من المواطنين مطالبين بوقف العرض». أمر ممكن تصديقه نظرًا لأن ييغال أمير هو أحد «أكثر الإسرائيليين إثارة للبغضاء من قبل المواطنين» كما وصفته صحيفة «هآرتس» قبل حين.
ما فعله المهرجان لكسر حدّة الطلب الحكومي هو سحب الفيلم من البرنامج الرئيسي مع إبقائه في المسابقة في الوقت ذاته (ليس واضحًا كيف) وإطلاق تصريح ذكر فيه أنه يعارض أن يتعرض «عمل إبداعي للإدانة بسبب مضمونه». لكن ذلك لم يخفف الانتقاد الذي وجهه السينمائيون الإسرائيليون للحكومة الإسرائيلية، إذ ذكر المنتج ليران أتزمور في بيان: «نحن نحتج ضد تدخل السياسيين في القرارات الفنية للمهرجان، كما نحن ضد المهرجان لاستجابته». وأضاف: «هذا (الموضوع) لا يخص الفيلم التسجيلي، بل يخص مبادئ الحرية الفنية، والاستجابة للقرار هي مبادرة خطرة».
يوم الافتتاح ذاته، ذاك الذي دشّن بفيلم «أمي» (الذي كان عرض في مهرجان «كان» من قبل)، كان مناسبة للمعارضين لإسماع أصواتهم ضد وزيرة الثقافة التي اعتلت المنصّة وخطبت قائلة إنه «علينا جميعًا أن نعيد ترتيب الأولويات الثقافية»، وهي وعدت برفع الميزانية المخصصة للثقافة إنما ضمن شروط جديدة. هذا وسواه من الفقرات وُوجهت بكثير من الاستهجان والتصفير، ما دعاها في اليوم التالي لتكتب على صفحتها في «فيسبوك»: «هذا عار أن يختار مجتمع المبدعين رد الفعل (الذي وُوجهت به) خلال المهرجان. لكني سأقول ما عندي حتى ولو طالبوا بإقفال فمي».