أذكر جيدًا أنني قمت بزيارة إلى «قلعة شابولتيبيك» Castillo De Chapultepec في العاصمة المكسيكية، وأنا في العاشرة من العمر، وكان يومًا صافيًا، الشمس مشرقة على هذه القلعة العظيمة التي تقبع على مرتفع وتحيطها الأشجار والخضار من كل الجوانب، وقد كان اشتياقي مبعثه الأساسي قيام والدي بشرح المعنى الحقيقي للوطنية الذي تمثله هذه القلعة بالنسبة للمكسيكيين وأي وطني حر، والذي لا يجد إلا الانحناء تبجيلاً لرمزها. ففي هذه القلعة دارت آخر معركة شهدتها المكسيك في الحرب الغاشمة التي شنتها عليها الولايات المتحدة عليها عام 1846 طمعًا في أراضيها، وفي هذا المكان أذكر الكلمات التي قيلت لي من شخص عزيز علي، وهو يشير إلى نقطة عالية في القلعة ويقول لي: «في هذا المكان المرتفع بعد هزيمة آخر مقاومة مكسيكية أمام الأميركيين، وقفت مجموعة من الشباب يواجهون وحدهم العدو الأميركي وهم يصرخون (تحيا المكسيك) وعندما تمت محاصرتهم لفوا أنفسهم بالأعلام وعندما قُتل أغلبهم رفضت الحفنة الباقية الاستسلام ورموا أنفسهم من القلعة بدلاً من الاستسلام»، وحقيقة الأمر أنني لم أكن أعرف خلفية الصراع، ولم أكن لأدركه في هذه السن المبكرة، ولكنني علمت ثاني درس لي في حياتي السياسية وهو معنى التضحية من أجل الوطن، خاصة أن مصر كانت خارجة من حرب 1973 لاستعادة أراضيها، وعلمت يومها أن مفهوم الوطنية وتراب الوطن لا يحميه إلا القوة، وهذا كان الدرس الأول، فبعد الهزيمة المكسيكية في هذه الحرب الظالمة فقدت هذه الدولة أجزاءً كبيرة من أرضها لصالح الولايات المتحدة، ومع مرور الزمن أدركت قيمة هذه الحرب والدروس المستفادة منها.
لقد بدأت هذه الحرب باستدراج أميركي واضح قاده الرئيس الأميركي جيمس بولك، الذي استمرت رئاسته بين عامي 1845 و1849، للحكومة المكسيكية لاستهلاكها عسكريًا، لتُقر التنازل عن حدودها الشمالية الغربية. فلقد كانت الولايات المتحدة في ذلك الوقت قد تحولت إلى القوة العظمى في الأميركيتين، وكان واضحًا أن تعدادها يزداد تدريجيًا، وأنها كانت في حاجة للتوسع التدريجي غربًا على حساب أي دولة أو حتى السكان الأصليين للبلاد. فأمام التطور والتنمية والاعتقاد الذاتي بالسمو الأممي والرسالة الخالدة للشعب الأميركي، كما فهمها الرئيس بولك، وقفت حدود المكسيك الشمالية حائلاً أمام هذا الحلم الجديد لأرض ميعاد جديدة، ولكن البيت الأبيض كانت لديه أطماع أخرى، وعلى رأسها مد الحدود الجنوبية من نهر «النويسوس» إلى نهر «الريو جراندي»، ليضموا أكثر من مائة وخمسين كيلومترًا على حساب الحدود المكسيكية في الجنوب. وقد كان البيت الأبيض عقد العزم على تحقيق أهدافه السياسية بلا هوادة، خاصة بعد نجاحهم في ضم ولاية تكساس في العام السابق، وقد عرض الرئيس الأميركي على المكسيك مبلغ 30 مليون دولار لشراء الأراضي التي كان يطمع فيها، ولكن المكسيكيين كانوا مصممين على الدفاع عن أراضيهم بأي ثمن.
بالفعل دارت أولى معارك هذه الحرب الضروس عندما صدرت التوجيهات للجنرال تيلور قائد ولاية لويزيانا بعبور النهر واستدراج المكسيك إلى الحرب، وهو ما حدث بالفعل، فكانت أولى جولات هذه الحرب معركة «بالو ألتو» التي استطاع فيها الجنرال الأميركي إلحاق الهزيمة بالجيش المكسيكي وأصبح الطريق مفتوحًا أمام القوات الأميركية للتوغل في الأراضي المكسيكية. وقد تمكن الرئيس بولك من إقناع الكونغرس الأميركي بإعلان الحرب على المكسيك بعد هذه المعركة، وهو ما دفع تيلور لحصار مدينة مونترري المكسيكية، وبعد أسابيع استسلم المكسيكيون ووقع الجنرال تيلور معهم هدنة، ووافق خلالها على خروج المنسحبين بكامل هيئتهم وسلاحهم. ولكن حقيقة الأمر أن القوات الأميركية كانت تعاني بشدة من الأمراض وقلة العدد، وهو ما دفع تيلور لقبول هذه الشروط طالما أنه كان يحقق التقدم على الأرض صوب هدفه النهائي، وهو مدينة المكسيك. ومع ذلك فقد حظي بمعاداة الرئيس الأميركي، الذي كان يشك في نيات قائده العسكري، خصوصا أنه كان يحظى بتعاطف شديد من الرأي العالم الأميركي وفي الكونغرس.
وإذا ما كانت قوات تيلور هي الأداة التي كان الرئيس الأميركي يرمي من ورائها لوضع الضغوط على الساسة المكسيكيين لبيع أراضيهم، فإنه بدأ في تجريد قوة صوب الغرب وضع على رأسها ضابطًا يدعي كيرني، وكان هدفه هو الاستيلاء الفعلي على الولايات الشمالية الغربية للمكسيك، التي كانت محل أطماعه. وقد كان البيت الأبيض تحت انطباع أن هذه المناطق خالية من السكان، وأنها على أتم استعداد للتسليم للغازي لتخليصهم من الحكم المكسيكي، خاصة أن الأراضي كانت شاسعة ولم تمارس الحكومة المكسيكية سلطاتها كما يجب على هذه الأرض، ولكن الوضع على الطبيعة كان مختلفًا عما كان يعتقده الأميركيون، حيث اكتشفوا وجود معارضة قوية من قبل بعض الإقطاعيين المكسيكيين، كما أن عددًا من قبائل الهنود الحمر الأميركية ثارت في مواجهة الجيش الأميركي، وعلى رأسها قبائل النافاهو، والتي استطاعت أن تعطل تقدمهم لبعض الوقت بينما كادت إحدى المعارك تؤدي بحياة القائد الأميركي، ولكن الجيش الأميركي استطاع أن يستولي على ولاية نيومكسيكو، ثم توجه نحو كاليفورنيا، وهزم كل مقاومة واجهته.
إزاء هذا الوضع المتردي لم يكن أمام الساسة المكسيكيون إلا الالتفاف حول شخصية وطنية مكسيكية يمكن لها أن تنشلهم من الفوضى السياسية والعسكرية التي كانت مسيطرة على الدولة المكسيكية، وقد وقع الاختيار مرة أخرى على الجنرال سانتا آنا أكثر شخصية خلافية في التاريخ المكسيكي على الإطلاق، فهو الثعلب السياسي الذي استطاع أن يكون رئيسًا للمكسيك في إحدى عشرة مناسبة، ولكنه كان في المنفى بسبب ظروفه السياسية السابقة، وعندما استقر الاختيار عليه فإنه استطاع أن يراوغ الرئيس الأميركي «بولك» وإقناعه بالسماح له بالعودة إلى البلاد بعدما كان الأسطول الأميركي يحاصر الساحل الشرقي للمكسيك، فلقد أكد للرئيس الأميركي أنه قادر على ضمان موافقة البرلمان المكسيكي على بيع الأراضي له، وبمجرد أن نزل سانتا آنا المكسيك تولى الرجل أمر الجيش المكسيكي لمواجهة الغزو الأميركي، ويبدو واضحًا أن الرجل لم يكن في نيته التسليم للأميركيين على الإطلاق.
وبالفعل حشد الجنرال الجديد الجيش المكسيكي في مهمته المقدسة للدفاع عن أراضيه، ولكن واقع الأمر أن هذا الجيش لم يكن على المستوى المطلوب لمواجهة الجيش الأميركي الحديث بتسليحه وتكتيكاته العسكرية، كما أن الجنرال المكسيكي لم يكن على مستوى مواجهيه، ومع ذلك بدأ رد الفعل المكسيكي من خلال التوجه للشمال لمواجهة قوات الجنرال تيلور، الذي كان في حالة يرثى لها، فلقد كان على غير وفاق مع الرئيس الأميركي، الذي أمره بتوجيه نسبة من جيشه لدعم قوات الجنرال سكوت، الذي كلفه الرئيس الأميركي بالحشد البحري وفتح جبهة أخرى شرقية لتشتيت القوات المكسيكية، فتبقى لتايلور نسبة ضئيلة فقط من قواته لمواجهة الجيش المكسيكي القادم، ولكن الرجل أبى التراجع، وأصر على المواجهة في معركة بونا فيستا الشهيرة في فبراير (شباط) 1847. واستطاع سانتا آنا أن يلحق به هزيمة محدودة بسبب نقص العدد والعتاد، ولكن انسحاب الجيش الأميركي كان منظمًا، واستطاع تيلور أن يحافظ على النظام، وبدأ يستعد لمواجهة أخرى. وهنا لعبت الظروف ضد سانتا آنا. فلقد انفجر الوضع السياسي الداخلي في المكسيك، ففي الوقت الذي كان من المفترض على الساسة الالتفاف حول جيشهم لمواجهة الغازي فإنهم تفرقوا ودخلوا في صراعات داخلية مفتوحة أدت إلى حالة من الفوضى العارمة في العاصمة واندلاع حرب الشوارع، وهو ما اضطر البرلمان لاستدعاء الجيش لفرض السلم الداخلي، وهو ما لم يسمح لسانتا آنا بتوجيه الضربة القاضية لجيش تيلور الضعيف. فأخطر ما يمكن أن يواجه الأمة وهي تواجه العدو الخارجي هو أن ينقلب الساسة على أعقابهم لأهداف سياسية محدودة وأطماع شخصية ضيقة، فالجبهة الداخلية للدولة المدافعة عن أراضيها يجب أن تكون صامدة أمام القوات الغازية، وهو ما لم يحدث في هذه الحالة كما سنرى.
من التاريخ: الحرب الأميركية ـ المكسيكية.. طموحات الرئيس بولك
من التاريخ: الحرب الأميركية ـ المكسيكية.. طموحات الرئيس بولك
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة