أذكر جيدًا أنني دُعيت منذ سنوات ضمن مجموعة من الأكاديميين والساسة والدبلوماسيين وممثلي الديانات السماوية الثلاث إلى مؤتمر حول الأسرة والحفاظ على قيم الأسرة في عصر العولمة بجامعة «بريغهام يونغ» بولاية «يوتاه» الأميركية، وكانت بالنسبة لي رحلة عبر التاريخ والتراث الديني لم أكن أتوقعها. فمنذ أن ركبت الطائرة متوجهًا إلى مدينة «سالت ليك سيتي»، فقد استمعت إلى سلسلة من التعليقات من قبل رجل وزوجته حول المذهب «المورموني» في هذه المدينة الأخيرة وكيف أنهم مختلفون تمامًا عن باقي المسيحيين في الولايات المتحدة وبقيت مستمعًا إلى أن وصلت لمقصدي، حيث كان منظمو المؤتمر في انتظاري فذهبنا إلى موقع جامعة «بريغهام يونغ» بالسيارة. فاندهشت كثيرًا عندما علمت أن سائق السيارة كان يعمل مدير أمن الجامعة ولكنه يساعد في جهود المؤتمر بالعمل سائقًا بلا أي خجل أو تعالٍ، وفي اليوم التالي وعقب الإفطار توجهنا إلى مقر المؤتمر وعندما سُئلت عما يمكن أن يقدموه لي من مشروب طلبت قدحًا من القهوة أو الشاي، فإذا بالمضيفين ينظرون لي نظرة غريبة للغاية وقالت لي أحدهما «أنت مسلم لا تشرب الخمر، ونحن من المورمون مُحرم علينا الشاي والقهوة لمضارهما بالجسم». فشعرت بحرج شديد لعدم معرفتي بخلفية هذا المذهب، ولم يمضِ وقت طويل حتى سألت أحد المشاركين عن خلفية المذهب «المورموني» وما إذا كان جزءًا من الكنائس المعروفة، فكان الرد واضحًا وصريحًا.. فهم فئة منشقة تمامًا عن أي مذهب مسيحي وكل الكنائس لا تعترف بهم، وعند هذا الحد بدأت رحلة دامت قرابة ثلاثة أسابيع أقرأ فيها عن هذا المذهب المحافظ والذي ترفضه أغلبية المذاهب الأخرى.
لقد أسس هذا المذهب «جوزيف سميث» في مطلع القرن التاسع عشر في ولاية نيويورك الأميركية، حيث تشير كتب هذا المذهب إلى أنه تلقي الوحي من ملاك يدعى «مورموني» والذي أوحي إليه بمكان وجود ألواح ذهبية بها الكتاب المقدس الذي يروي قصة جماعة من قبائل القدس والتي نجاها الله قبيل الأسر البابلي في نهاية القرن السادس قبل الميلاد وذهب بهم إلى أميركا والتي كانت تُلقب بأرض الميعاد بالنسبة لهم، ويشير الكتاب إلى مجموعة من القبائل وحياتهم في وسط أميركا، وهو المكان الذي حددته الأبحاث الحديثة بمنطقة وسط أميركا بين المكسيك وغواتيمالا، ويشير الكتاب إلى أن السيد المسيح قد زار هذه القبائل خلال الفترة بين صلبه وفقًا للمعتقد المسيحي وقبيل بعثه مرة أخرى للصعود إلى السماء، وفي هذه الأيام نقل إليهم تعاليمه.
وتروي المصادر المورمونية أن «جوزيف سميث» بمجرد أن كشف عن هذه الألواح أتته القدرة على ترجمتها من اللغة المصرية القديمة التي كانت مكتوبة بها، وقام بقراءة الترجمة على حوارييه والذين دونوها، وبالفعل صدر الكتاب متكاملاً في عام 1829 وبدأ يغزو الأسواق الأميركية بعدها، وعلى الرغم من الاتساع النسبي لدائرة التابعين لجوزيف سميث في الولايات المتحدة، إلا أن الغالبية العظمى وجدت في كتابه وسيلة لاستفزاز مشاعرها الدينية المستقرة، ورفضوا قبول هذه الفكرة، وخاصة أن هذا المذهب كان يسمح بتعدد الزوجات وعدد من العادات الأخرى التي كانت غريبة عليهم، وهو ما استدعى محاربة الرجل ومذهبه ومتبعيه. وعندما اشتد الحال بهم، بدأ جوزيف سميث يفكر في الخروج من نيويورك والتوجه إلى الغرب بعدما بدأت تلاحقه القضايا والتحقيقات، وبالفعل بدأ يتحرك، ولكن ليس قبل أن يؤسس لمذهبه الجديد البناء الاقتصادي من خلال مجموعة من الشركات ومصرف لتمويل نشاطه، ولكن رحلته إلى الغرب لم تكن سهلة أبدًا وسط رفض المجتمعات لما مثله من انشقاق للمفاهيم المسيحية الراسخة، وهو ما أدى إلى ملاحقته باستمرار بالقضايا، وسجنه عدة مرات وفي إحدى هذه المرات خرجت الجموع إلى سجنه وقامت بقتله.
على الرغم من موت جوزيف سميث مؤسس المذهب المورموني، فإن مذهبه ظل حيًا من خلال أتباعه، فبعد موته حدث خلاف بين قيادات الكنيسة، فآلت القيادة إلى شخصية أخرى عرفت بالحزم والقوة وهو «بريغهام يونغ» والذي عمل في سلك التبشير في كندا ودول أخرى لجذب الأتباع لهذا المذهب الجديد، والزائر لمدينة سولت ليك سيتي سيجد تمثالاً كبيرًا لهذا الرجل وهو يبسط يديه أمامه في إشارة إلى أن هذه المدينة ستكون أرض الميعاد لهذه الطائفة الجديدة، وقد قاد هذا الرجل وفقًا لـ«المورمون» المؤمنين إلى أرض الميعاد في هذه المدينة الجديدة بعيدًا عن الاضطهاد والملاحقات المختلفة، وبالقرب من هذه المدينة شيدت جامعة حملت نفس اسم هذا الرجل، وقد كان «يونج» قوى العزيمة، حيث استطاع خلال قيادته لهذا الطائفة أن يحصل على تفويض من الرئيس الأميركي بإدارة ولاية «يوتاه» نيابة عنه ممسكًا بذلك بالشرعية الدينية وفقًا لأتباعه والشرعية السياسية وفقًا للدستور الأميركي، وقد تميز هذا الرجل بتحويل مدينة «يوتاه» إلى قوة اقتصادية وعلمية وفكرية جديدة، فكانت له قدراته التنظيمية المتميزة، وفي مجال المذهب المورموني، مثل الرجل قوة دفع كبيرة أنقذ بها هذا المذهب من التشرذم والتفتت واستطاع حشد القوة اللازمة لكنيسته، وهو بذلك المؤسس السياسي أو التنظيمي لهذا المذهب وفقًا لتاريخه، وحتى بعد موته في عام 1877 ظل المذهب المورموني محافظًا على قوته من خلال كنيسته وقياداتها المتتالية والتي يرى الكثيرون أنها كانت قيادة دينية إلى جانب كونها سياسية واجتماعية الطابع، ويقدر أصحاب هذا المذهب اليوم بقرابة خمسة عشر مليونًا.
وأذكر خلال مشاركتي في المؤتمر المشار إليه عليه أنني تحدثت مع كثير منهم للتعرف عن كثب عن طريقة حياتهم، خاصة ما أشيع حول تعدد الزوجات والإنجاب الكثير، فأوضحت المناقشات أن تعدد الزواج كان مسموحًا به، ولكنه حُرم وفقًا لقائد الكنيسة عام 1890، حيث رؤي ضرورة الاكتفاء بزوجة واحدة، ولكن على الرغم من ذلك فإن هناك مذاهب منشقة لا تزال تؤمن به وتجهر به في الولايات المتحدة على الرغم من معارضة ذلك للقانون، وهنا يكتفون بالزواج الأول بصيغته الرسمية وبالزيجات الأخرى بأشكال أخرى. كذلك فقد نظمت الكنيسة نفسها بشكل متميز للغاية لضمان بقاء المذهب بشكل عملي، فهي تتميز عن سائر الكنائس بعدد من المعايير والممارسات، أولها الاسم فهي في الولايات المتحدة والعالم معروفة باسم «كنيسة القديسين الأخرى» (Church of Latter Day Saints) لفصلها عن باقي الكنائس، وتنظيمها الداخلي مبني على أسس تصاعدية، ولا يسمح بدخول غير معتنقي المذهب بمجرد ترسيم الكنيسة. وتفرض الكنيسة على أتباعها التبرع بُعشر دخلهم السنوي، وهي بالتالي كنيسة ميسورة الحال مقارنة ببعض الكنائس الأخرى في الولايات المتحدة، ويضاف إلى ذلك أن لديها نوعًا من التجنيد التبشيري، حيث يفرض على الشباب في سن معينة التطوع للتبشير بالكنيسة في مناطق مختلفة من العالم، فضلاً عن كونها من أوائل المتقدمين بالمساعدات الإنسانية للمناطق المنكوبة في العالم حتى ولو بمساهمات ضئيلة.
ومع ذلك فإن هذه الكنيسة التي أسسها جوزيف سميث وعلى الرغم من انتشارها بشكل ملحوظ في الولايات المتحدة فإنها تمثل طائفة كثيرًا ما يحذر الأميركيون منها نظرًا لاختلاف معتقداتها، وكثيرًا ما أثرت في بعض السياسات الأميركية حتى على الرغم من أن أعداد هذه الطائفة تقدر عالميًا بقرابة خمسة عشر مليونًا.
جوزيف سميث والمذهب الجديد
جوزيف سميث والمذهب الجديد
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة