يشعر الأسطى حمدي بخلل ما في يومه، إذا لم يحصل على قيلولته المعتادة يوميا في المسجد، التي تبدأ بعد صلاة الظهر، وتستمر حتى قبيل أذان المغرب، ويتخللها قراءة ما تيسر من القرآن، قبل أن يسحب النوم جسده السبعيني النحيف، ليغط فيه بعمق وسكينة، قلما يجدهما في أي مكان آخر.
يروي الأسطى حمدي، وهو صاحب ورشة ميكانيكا صغيرة للسيارات في حي «الكيت كات» بمحافظة الجيزة، أنه ورث هذه العادة عن والده، فكان يصطحبه معه وهو طفل إلى المسجد في أيام كثيرة من رمضان، وكان والده يمارس الطقوس نفسها: «من يومها وأنا أشعر بلذة النوم في المسجد.. تزداد على نحو خاص في شهر رمضان».
في الصباح يمر الأسطى حسن على الورشة، يرتب الشغل مع العمال، قبل أن يبدأ طقسه الرمضاني، الذي يحرص عليه بقدر المستطاع طيلة شهر رمضان. ويرفض أن يصف أحدهم عادته هذه بالاستسلام للراحة و«التنبلة» بالمعنى الدارج بحجة الصيام. يقول بحماس: أنا راجل متعلم، أحب القراءة في الأدب والعلم والفن، هذا الطقس هو في جوهره سياحة روحانية. ثم يخاطبني بحماس مربتا بحنو فوق كتفي وهو يقول: «تعرف حضرتك أنا أحيانا ينشغل بالي ببعض المشاكل والهموم، تطير النوم من عيني في البيت وتنهال على الكوابيس ولا أجد؛ إلا المسجد، هو الوحيد الذي ينقذني من هذا الأرق».
كلام الأسطى حمدي ذكرني بمشهد شديد الشجن للفنان المصري الراحل أحمد زكي في فيلم «معالي الوزير»، حيث كان يتفاوض مدير مكتبه وجسد دوره الفنان هشام عبد الحميد مع راعي أحد المساجد بأحد الشواطئ، من أجل أن يسمح للوزير (الذي جسد شخصيته زكي) بالنوم لبضع ساعات في المسجد، لأنه المكان الوحيد الذي يمكنه فيه النوم بأمان وسكينة، بعيدا عن مطاردة الهلاوس والكوابيس. ويرى الكثير من المشتغلين بعلم النفس أن المسجد كونه مكانا فسيحا للصلاة والعبادة، له طبيعة روحانية، حيث لا حواجز ولا جدران، تفصل البشر عن بعضهم، ففي الصلاة لا فرق بين غني وفقير أو كبير وصغير، الكل، بين يدي الخالق سبحانه وتعالى من دون تمييز، إلا ما وقر في القلب والنفس من نوايا.
ويذهب هؤلاء المختصون إلى أن الإنسان مهما بلغ من ترف العيش، يظل في احتياج إلى مكان خاص، يمتلئ فيه بوجدانه وروحه، بعيدا عن ضغوط وشوائب الحياة، وتمثل دور العبادة المكان الأمثل لهذا الامتلاء الإنساني النادر. يقول هادي السيد، وهو صحافي شاب: خضت تجربة النوم في المسجد، وشعرت براحة شديدة خاصة في رمضان، حيث يكون الجسد مرهقا من الصيام.. هناك شيء سحري في مسألة النوم في المسجد، فبمجرد ما تفرد جسمك على الأرض يخطفك النوم مباشرة كأنه على موعد معك.
يتابع السيد: الطريف أن المسألة لا تقتصر على الكبار؛ بل تغري الصغار أيضا، فمنذ يومين شكت لي أختي من أن ابنها طارق (9 سنوات) لم يعد للبيت بعد صلاة الفجر، ورجتني أن أبحث عنه خاصة أن والده مسافر.. المدهش أنني توجهت مباشرة إلى المسجد، وهو مسجد كبير بمنطقة اللؤلؤة بمدينة الشيخ زايد بمحافظة الجيزة، فوجدت ابن أختي يغط في سابع نومه على أريكة في أحد الأركان ومثله كثيرون؛ بل إن بعضهم نام وهو ممسك بالمصحف في يده، أو يضعه فوق صدره.. حين أيقظت طارق، ابتسم بخجل وهو يقول: «معلش يا خالي أنا خفت من ماما تنهرني، فضلا عن أني نسيت الهاتف الجوال في المنزل؛ لكن أنا برتاح في النوم بالمسجد.. الجو هنا حلو وهادي». يعلق أحد العاملين بالمسجد على مشهد النائمين، قائلا: «معظمهم غلابة وفقراء وبسطاء ونفوسهم طيبة، يساعدوننا في إعداد مائدة الرحمن للإفطار، وأيضا في نظافة المسجد». لكن، هل توجد آداب للنوم في المسجد؟، يرجح علماء الدين والكثير من الفتاوى جواز النوم في المسجد؛ ولكن بشرط ألا يكون في ذلك أذى للمصلين، وأنه ينبغي لمن أراد النوم في المسجد أن يراعي أمورا منها: ألا يعتاد النوم فيه، وأن يجعل ذلك مقصورا على قدر الحاجة، كما ينبغي ألا ينام على هيئة قد تنكشف فيها عورته، أو على هيئة مستهجنة عرفا؛ بل يجعل نومه في مؤخرة المسجد، ومراعاة الأعراف التي لا تخالف الشرع من الأمور المعتبرة عند أهل العلم، فالمسجد جُعل للصلاة أصلا، وحق المصلين في العبادة مقدم.
مساجد القاهرة في رمضان.. صلاة وعبادة ونوم
الأسطى حمدي: يومي يختل لو فاتتني قيلولتي بالمسجد

بأحد مساجد القاهرة في نهار رمضان
مساجد القاهرة في رمضان.. صلاة وعبادة ونوم

بأحد مساجد القاهرة في نهار رمضان
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة