كما هناك نهضة فنية عالمية تشهد عليها المزادات، هناك أيضا نهضة في تصميم الجواهر. من بيروت ولندن إلى باريس والصين، نجحت مجموعة من المصممين الشباب في تغيير خريطة التصميم والإبداع، مستندين على خلفيات ثقافية متنوعة وتأثيرات غنية يستمدونها من كل ما يجري حولهم ثم يترجمونها في أشكال مبتكرة وفريدة تحاكي التحف. الكثير من هؤلاء متأثر بفن العمارة أو درسها، مما يظهر جليا في أعمالهم. سيندي تشاو، التايوانية الأصل، واحدة من هؤلاء. فهي تمزج أناقة الغرب بفنية شرقية خاصة تستهدف بها زبائن نخبويين من عشاق اقتناء القطع الفنية في المقام الأول. الآن أصبح اسمها يرادف كل ما هو مترف وفخم، وأي قطعة من تصميمها يمكن أن تُباع بملايين الدولارات في المزادات العالمية، بدليل أن قطعة من مجموعتها «بلاك لايبل» عرضت بـ10 ملايين دولار أميركي، بينما تتراوح مجموعاتها الأخرى ما بين 10 آلاف إلى 100 ألف دولار أميركي.
رغم النجاح الذي حققته وقدرتها الفذة على الإبداع، لم تتلق سيندي تشاو أي تدريب في تصميم الجواهر، على الأقل بالمفهوم التقليدي. فهي لم تدرس أو تتخرج من معاهد عالمية معروفة، وكل التقنيات والخبرات التي تتمتع بها، تعلمتها في بيت العائلة، وهو ما تعتبره ميزة كبيرة خدمتها لأن طريقة تفكيرها وتصورها للأشياء ليست تقليدية، وتركيزها على الأبعاد الثلاثية التي أبهرتها وهي طفلة صغيرة، تجعلها تصوغ جواهر أقرب إلى المنحوتات، مع فارق بسيط ومهم وهو أنها منحوتات يمكن للمرأة أن تستعملها بسهولة في النهار كما في المساء إذا لم تكن لها نية بتخزينها كاستثمار لتباع في مزاد علني في يوم ما.
لم يكن اللقاء مع سيندي تشاو مبرمجا، وكانت الفكرة من التوجه إلى فندق الفورسيزونز، جورج V، خلال أسبوع باريس للموضة الراقية، لمجرد التعرف على تصاميمها عن قرب، إلا أن وجودها في عين المكان، كان مفاجأة سارة على كل الأصعدة. فقد فتح الباب لحديث عفوي كان فرصة ثمينة لكي نتعرف على شخصيتها وأعمالها من منظورها الخاص. عند مصارحتها بأن أحجام تصاميمها مذهلة، ترد بصوت شبه هامس ولكنة آسيوية بأنه لم يكن يخطر ببالها أن تصبح مصممة جواهر في يوم ما، لأن حلمها كان أن تصبح معمارية، وهو ما ينعكس على هذه الأحجام. عندما ترى نظرات الاستغراب على وجهي، تشرح بأنها تتنفس فن العمارة والنحت منذ طفولتها، فجدها، زي زينان، هو الذي صمم الكثير من المعابد في آسيا، كما أن والدها نحات معروف، ومنهما تعلمت أن الفن الحقيقي هو الذي يتحدى الزمن حتى تستمتع به أجيال متتالية. فعندما كان جدها يصحبها معه إلى المعابد التي كان يبنيها، كانت تراقبه بفضول وتسأله عن النماذج التي كان يرسمها، وما يقوم به العامل وهو يشكلها بالصورة التي تصورها الجد. كانت تقف مبهورة لأنه كان يخيل لها أن كل من حولها عمالقة. ما زاد من إعجابها أنها وجدت مؤخرا بعض أعماله القديمة، وكانت كلها مرسومة باليد وبأبعاد ثلاثية في منتهى الدقة والجمال في وقت لم يكن فيه الكومبيوتر متوفرا لكي يسهل على المعماريين مهماتهم مثلما هو الحال الآن، مما رسخ إعجابها وأكد لها أن إعجابها لم يكن نابعا من طفوليتها فحسب. تقول: «أعتقد أنني تعلمت من جدي أن أنظر للأشياء من كل الزوايا، وأن أتعامل مع كل جانب، بغض النظر عن حجمه ومكانه، على أنه واجهة بحد ذاتها، تحتاج مني أن أصب فيها كل طاقتي». وبالفعل فكل قطعة تحمل توقيعها تأتي مزينة بأحجار في كل أجزائها، بما في ذلك الأجزاء الداخلية التي لا يمكن رؤيتها، لكن صاحبتها تعرف بوجودها. فهذه ليست جواهر عادية بقدر ما هي تحف تتوجه للمقتنين وعشاق الفن بالأساس، وهو ما لا يسمح لها بإنتاجها بكميات وأعداد كبيرة، ويفسر في الوقت ذاته إقبال السوق الآسيوية عليها بنهم باعتبارها استثمارا بعيد المدى نظرا إلى وزنها وجودة أحجارها وطبعا تصاميمها المبتكرة والفريدة، التي تروق للسوق الآسيوية على وجه الخصوص. فضلا عن أنها قطع فريدة من المستحيل استنساخها حسب قول سيندي تشاو: «فمهما حاولت أنا نفسي أن أصوغها بنفس الشكل والحجم لا أستطيع».
المهم أنها وقعت في حب الهندسة المعمارية بشكل طبيعي بحكم بيئتها والتأثيرات المحيطة بها، وبدأت تحلم بامتهانها فعليا وتبرمج لذلك، لولا أن أجهضت والدتها هذه الرغبة. بالنسبة للأم كان عمل أي فتاة في مجال ذكوري يتعارض مع أنوثتها والتقاليد الآسيوية التي شبت عليها، لأنها تعني التعامل مع عمال ومقاولين في أجواء لا تناسب المرأة. بل رفضت حتى فكرة أن تصبح ابنتها مصممة ديكور داخلي عندما توجهت هذه الأخيرة إلى نيويورك لدراسة هذا المجال كبديل للهندسة. استجابت البنت لرغبة والدتها خصوصا أن هذه الأخيرة كانت هي التي تدفع مصاريف دراستها من جهة، كما أنها كانت تعرف في قرارة نفسها أن والدتها ليست ظالمة أو فقط تريد أن تفرض رغبتها. فقد كانت مثل أغلبية بنات جيلها ابنة بيئتها وما تفرضه الطقوس الاجتماعية عليها. في المقابل، تركت لها الباب مفتوحا لكي تبحث عن طرق أخرى للتعبير عن فنيتها وقدرتها على الابتكار، على شرط أن تتوافق مع صورة المرأة الآسيوية وما يتطلبه المجتمع منها من رقة. كانت تعرف أن بداخل ابنتها بركانا فنيا يغلي، لم ترثه من جدها فحسب بل أيضا من والدها النحات، الذي تقول سيندي تشاو أنها تعلمت منه تقدير جمالية الأشكال وأهمية أن تكون متوازنة. كان يثيرها ولا يزال، أن جدها ووالدها ينتميان إلى جيل ما قبل الكومبيوتر، ومع ذلك كانا يتقنان رسم نماذج ثلاثية الأبعاد باليد، وهو ما تحاول تطبيقه في جواهرها التي تولي كل زاوية منها اهتماما كبيرا، مؤكدة أنها تؤمن بأن أي قطعة جواهر يجب أن تأتي بمثابة تحفة فنية، أو عمل معماري مصغر، لهذا عندما تبدأ في العمل عليها، تفكر كثيرا في حجمها والمكان الذي ستضع فيه الأحجار بدقة، لخلق تناغم جمالي يجمع جمال الشكل بقوة الضوء. فقد يكون والدها نحاتا مشهورا، إلا أنها تحاول دائما تطبيق نفس التقنيات التي تعلمتها منه، فوجه الاختلاف بينهما يتمثل في المواد فقط، فهو يستعمل الطين والصلصال، وهي تستعمل الذهب والأحجار الثمينة. تتذكر أنها حين كانت ترافقه إلى الاستوديو الخاص به، كانت تنصت إليه بإعجاب وهو يشرح لها بصبر ما يتطلبه النحت من أدوات. كانت الأوقات التي تقضيها معه من أسعد أوقاتها لأنه كان يشركها في العمل معه، بالسماح لها بتهوية أعماله حتى تجف بسرعة أحيانا. تبتسم وهي تقول إنه كلما أراد بعض الهدوء، يلهيها بعمل صغير تقوم به، يشعرها بأهميتها فتركز عليه ناسية ما يجري حولها. وعندما تنتهي من مهمتها، يعلق على النتيجة، ويتبرع لها بالنصائح التي باتت تقدرها وتفهمها أكثر كلما كبرت في السن. كان يقول لها: «بغض النظر عن الموضوع الذي تتناولينه، يجب أن تأتي النتيجة النهائية نابضة بالحياة كما لو كانت حقيقية تتحرك. خذي وقتك في التأمل وانتبهي إل أدق التفاصيل، ثم حكمي قلبك وعقلك قبل البدء في تشكيل أي قطعة». هذه الكلمات لا تزال تتردد على آذانها إلى الآن وربما أقوى من ذي قبل.
جولة في معرضها المصغر في فندق «الفورسيزونز» تشير إلى أن التأثيرات التي تظهر فيها متنوعة، تتراوح بين الأشكال الطبيعية والكائنات البرية إلى المباني المعمارية الكلاسيكية، بأشكالها الضخمة، التي خزنتها ذاكرتها من الطفولة، أو الحداثية والانسيابية خصوصا تصاميم أنطوني غاودي وزها حديد. عند مواجهتها بهذه الملاحظة، ترد بأنها من أكثر المعجبات بزها حديد، مضيفة أن أي عمل، مهما كان، يدين بنجاحه إلى الأحاسيس التي يتضمنها ويثيرها في النفس، لأن هذا ما يمنحه حيويته وقوته. فـ«نظرة كل فنان للشيء الواحد تختلف، مما ينعكس على طريقة ترجمته» حسبما تقول. وتضيف: «خذي مثلا مجموعة (ماي ريبن My Ribbon) فهي ثمرة عشقي للأقمشة، التي يثيرني ترفها وحركتها وملمسها ما حاولت أن أجسده في هذه المجموعة بالتركيز على الأحجار الكريمة التي تبدو وكأنها مغلفة بأشرطة من الماس أو تبدو وكأنها تتمايل وتتراقص. فليس هناك عنصر واحد يحدد عملي، لأني أستوحي تصاميمي من كل شيء يحيط بي، بدءا من الطبيعة إلى تجاربي وتفاعلي مع الناس. فليس هناك حدود للأشياء التي يمكن لأي فنان أو مصمم أن يستقي منها أفكاره. صحيح أن الطبيعة ملهم قوي في أعمالي، خصوصا الكائنات المائية والأزهار المتفتحة لكن أسفاري وفن العمارة والهندسة، وثقافات متنوعة لها أيضا فضل في تشكيل الصور في خيالي.
المهم أن أسعى إلى التقاط جمالية لحظة ما، أو شيء في وقت زمني محدد، وأنجح أن أجسده بطريقة توقظ عاطفة جياشة تربط بين القطعة وبين صاحبها».
وهذا بالفعل ما توقظه تصاميمها من النظرة الأولى في النفس: عاطفة جياشة يتمازج فيها الإعجاب بقدرتها على الإبداع بجرأة فنية مع رغبة في لمسها، لأنك تعرف بأنها ستبقى بالنسبة للأغلبية حلما بعيد المنال، ومجرد لمس انعراجاتها وتقوساتها فرصة لا تعوض.
سيندي تشاو.. نحاتة ومعمارية ومصممة في وقت واحد
أجهضت والدتها حلمها بامتهان الهندسة المعمارية فأبدعت في مجال الجواهر
سيندي تشاو.. نحاتة ومعمارية ومصممة في وقت واحد
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة