ديانا بارش واحدة من الباحثين من جامعة واشنطن العاملين على وضع أول مخطط تفاعلي عن تشبيكات الدماغ البشري الحي العامل. ولتنفيذ هذا المشروع قامت هي وزملاؤها بمسوح عن الدماغ والتقديرات الإدراكية، والنفسية، والطبيعية، والبدنية والوراثية لـ1200 متطوع تراوحت أعمارهم بين 22 و35 سنة. وقد قطع الفريق ثلث العمل كله في جمع المعلومات. وسيلي ذلك معالجة البيانات، وضمها في خريطة تفاعلية ثلاثية الأبعاد للدماغ البشري المعافى تماما، تظهر تركيبه ومهامه، مع التفاصيل الخاصة بكل 1.5 ملليمتر مكعب منه، أو أقل من 0.0001 بوصة مكعبة.
وتقوم بارش بشرح المهمة الموكولة إليها في غرفة مجهزة بآلة للتصوير بالرنين المغناطيسي (إم آر آي). وتدرس أجزاء الدماغ المهمة وهي اللحاء الدماغي، واللوزة المخية، وقرن أمون، وجميع المناطق الأخرى وملحقاتها، حيث تحصل وتكمن الذكريات، والخوف، والنطق، والعمليات الحسابية. لكن هذه هي الجولة الأولى. فهي الصورة الساكنة بالأبيض والأسود، إذ ثمة كثير من عمليات المسح والاختبارات التي ينبغي بعد القيام بها.
* قاعدة بيانات
يقضي كل واحد من الـ1200 متطوع عشر ساعات على مدى يومين لإجراء المسوحات والاختبارات الأخرى، فضلا عن قضاء العلماء والفنيين عشر ساعات أخرى على الأقل في تحليل وتخزين البيانات المستحصلة من كل شخص لبناء نموذج لم يحصل بعد في عالم العلوم العصبية، ألا وهو قاعدة بيانات أساسية للدماغ البشري الصحي المعافى على صعيد تركيبه ونشاطاته، التي يمكن الرجوع إليها بمصاحبة السمات الشخصية، والمهارات الإدراكية، والأصول الوراثية. وسيكون هذا الأمر على الشبكة في خريطة تفاعلية متوفرة للجميع.
والدكتورة هيلين مايبيرغ الباحثة في كلية الطب في جامعة «إيموري» في أميركا، التي استخدمت الأبحاث الناتجة عن التصوير بالرنين المغناطيسي لتوجيه تطور حالتها العلاجية من مرض الكآبة عن طريق التحفيز العميق للدماغ، وهو أسلوب ينطوي على التدخل الجراحي لزرع منظم يشبه منظم ضربات القلب في دماغها، هي واحدة من بين كثير من العلماء يستخدمون هذا النوع من قاعدة البيانات لتوجيه أبحاثها.
وقاعدة البيانات النموذجية هذه التي يجري تحضيرها هي جزء من مشروع «هيومان كونيكتوم بروجيكت» Human Connectome Project الذي سيكلف 40 مليون دولار على مدى خمس سنوات، والذي تدعمه المؤسسات القومية للصحة في الولايات المتحدة، ويشارك به كثير من الجامعات الأميركية.
وتقول بارش إن السؤال الأساسي الذي قد تساعد قاعدة البيانات في الإجابة عنه، هو كيف تتصل أدمغتنا؟ وما الفروق التي بيني وبينك، وعلاقتها بالاختلافات في تصرفاتنا، وسلوكنا، وأفكارنا، وعواطفنا، وشعورنا، وتجاربنا؟ وهل هذا يجيب عن مسألة مساهمة الاضطراب في مثل هذا التواصل، أو ما يسببه من مشكلات عصبية ونفسية؟
وكان «مشروع الدماغ البشري» في أوروبا قد تلقى وعدا بتمويل قدره مليار دولار، لوضع نموذج كومبيوتري للدماغ. وفي الولايات المتحدة، أعلن الرئيس أوباما في العام الماضي عن بادرة للدفع بالأبحاث الدماغية، لتطوير تقنيات جديدة أولا. ووعد المشروع هذا الذي دعي بـ«التحدي الكبير» بتمويل قدره 100 مليون دولار في السنة الأولى، ويتوقع أن يستغرق عقدا برمته، وثمة أبحاث أخرى تجري حاليا في مجالات العلوم العصبية، وبعضها من قبل معاهد خاصة أيضا، إذ إن المعاهد القومية للصحة وحدها في أميركا تنفق 5.5 مليارات دولار سنويا على مثل هذه العلوم، غالبيتها توجه إلى الأبحاث في أمراض مثل مرضي باركنسون وألزهايمر. كما ينفق معهد «ألن» حاليا 60 مليون دولار سنويا على مثل هذه الدراسات، فضلا عن «جانيليا فارم» الذي ينفق 30 مليون دولار سنويا، إلى جانب المعاهد الأخرى الأكثر تواضعا التي رصدت كل منها ميزانية خاصة بها.
وهذه ليست المرة الأولى يجري فيها التركيز على الأبحاث الدماغية. فقد وصفت التسعينات من القرن الماضي بـ«العقد الدماغي» من قبل الرئيس الأميركي السابق جورج بوش الأب، عندما سجل بعض التقدم، لكن ظل بعض أقسام الدماغ غامضا.
* خرائط الدماغ
ويعتبر «أوبتوجينيتكس» (Optogenetics) من الأساليب الحديثة اليوم، الذي شكل تحولا كبيرا في هذا الصعيد، فهو يستخدم الضوء في بعض الأجزاء الدماغية لحيوانات المختبرات، لتنشيط بعض الجينات المعدّلة أو تجعلها تنكفئ. كما أن التطورات الجديدة في المجاهر (الميكروسكوبات) مكنت التقاط أفلام سينمائية مصورة لبعض النشاطات الدماغية في الحيوانات الحية.
ومن بين كثير من الوسائل المستخدمة في اكتشاف الدماغ وفهمه، يعدّ وضع الخرائط هو الأكثر فائدة وديمومة، ربما لأن الخرائط أمر مألوف يمكن فهمه واستيعابه. ويقول ديفيد فان إيسن المسؤول عن مشروع «هيومان كونيكتوم بروجيكت» للدماغ في جامعة واشنطن، حيث تعمل بارش: «لقرن مضى كانت الخرائط الدماغية أشبه بخرائط سطح الأرض في القرن الـ16». فقد كان الكثير منها مبهما غير معروف، مع احتوائها على أخطاء كثيرة. «أما اليوم فإن مشروع (هيومان كونيكتوم بروجيكت) هو أشبه بخرائط القرن الـ18 لسطح الأرض»، فالقارات والجبال والأنهار باتت أكثر وضوحا، بغية الوصول إلى خرائط للقرن الـ19 والـ20، كمقدمة للوصول إلى خرائط «غوغل» التفاعلية التي لها مستويات وطبقات متعددة!
وقد أدت القدرات الكبيرة التي وصلنا إليها في عالم الكومبيوتر، والأدوات الرياضية الحسابية التي صممت لتحليل كميات هائلة من البيانات والمعلومات، إمكانية وضع مثل هذه الخرائط ممكنة. وأداة جمع المعلومات حول الدماغ التي اختارتها جامعة واشنطن هي آلة قياس بالرنين المغنطيسي وضعت تفاصيلها جامعة مينيسوتا. وتقوم هذه الآلة بإحاطة الجزء المراد مسحه بمجال مغناطيسي، لترسل له موجات راديوية. وهي خلافا للأشعة السينية المعروف أنها تحمل في طياتها بعض المخاطر، تعد سليمة آمنة، وهي واحد من أساليب قليلة للمسح العام، التي يمكنها تغطية الدماغ البشري برمته.
وثمة كثير من الطرق لجمع المعلومات وتفسيرها عن طريق مثل هذه الآلات. كما أن الأساليب المختلفة من المسوحات يمكنها أن تظهر التركيب الأساسي للدماغ ونشاطاته. وعندما يحاول أحد المتطوعين حل مشكلة تتعلق بالذاكرة، ينشط قرن أمون، واللوزة المخية، واللحاء الدماغي في الفص الجبهي جميعها، وبالتالي يمكن لجهاز «إم آر آي» هذا تعقب اتجاه تدفق المعلومات بأسلوب يدعى التصوير الانتشاري، ففي مثل هذا النوع من المسوحات تظهر حركة الجزيئات المائية، ليس النشاط فحسب، بل وجهة الحركة أيضا.
* اختلافات فردية
تركز ديانا بارش كأستاذة في جامعة واشنطن، ورئيسة فريق واحد من أصل خمسة فرق تعمل في مشروع «هيومان كونيكتوم بروجيكت» على أسلوب الاختلافات الفردية في أدمغة الأشخاص الأصحاء، وعلاقتهم باختلافات الشخصية وطريقة التفكير.
ومثال على ذلك، فإن الأشخاص الذين يقومون بعمليات تتعلق بالذاكرة على آلة «إم آر آي» قد يختلفون بحيث وتتراوح درجات تنافسهم والتزامهم للقيام بعمل ممتاز. وهذا النشاط يظهر في أجزاء من الدماغ التي تنطوي على العاطفة، مثل منطقة اللوزة المخية. في أي حال توضح بارش أن هدف مشروع «هيومان كونيكتوم بروجيكت» هو عدم إيجاد أجوبة لمثل هذه التساؤلات، بل تأمين قاعدة بيانات للآخرين، ليتجهوا الاتجاه نفسه.
وفي العالم المثالي، قد يكون لدينا من الأعمال والمهام ما ينشط كل جزء من أدمغتنا وفقا لبارش «ونحن لسنا كاملين أو مثاليين بما نقوم به، لكننا اقتربنا من ذلك كثيرا».
يبقى القول إن 500 من هؤلاء المتطوعين أكملوا جميع الاختبارات المنوطة بهم، مما يعني نحو 5000 ساعة من العمل بالنسبة إلى بارش وغيرها من العاملين بالبرنامج. وجرى حتى الآن إطلاق البيانات والمعلومات المتعلقة بنحو 238 شخصا، وهي متوفرة للجميع مجانا، عبر قاعدة بيانات على الشبكة، وبرنامج كومبيوتر يدعى «وركبينش».
ولا يتوقع أحد أن يقوم الدماغ البشري بكشف كل أسراره وتسليمها هكذا، إذ لا يأمل بعض علماء الأعصاب كثيرا في هذه النتائج، على الرغم من إمكانية النجاح التي قد تتحقق. فقد يتمكن العلم من تفهم واستيعاب الأعصاب، ومناطق الدماغ، وإحراز تقدم في علاج أمراض الكآبة، ونرضي باركنسون وألزهايمر، وحتى في فك مغاليق الرموز التي يستخدمها الدماغ لإرسال المعلومات وتخزينها. لكن، كما يقول بعض هؤلاء العلماء، لن نستطيع حل معضلات الدماغ جميعها، وتفهمها، واستيعابها قريبا، لأننا لا يمكننا شرح مسألة الوعي والإدراك، والآلية الدقيقة التي تنتج الشعر والموسيقى مثلا.
وربما يكمن التحدي الأكبر في دراسة نبضاته الكهربائية وتركيبه البيولوجي - الكيميائي، وشبكاته المعقدة على كل المستويات، فهنالك حاليا أكثر من 40 ألف عالم على نطاق العالم كله يحاولون فك هذه الأسرار.
* خدمة «نيويورك تايمز»