خارج الإطار النمطي المعهود لكتب التنمية البشرية، والتي غالبا ما تكون مستلهمة من أفكار غربية ويغلب عليها المحتوى الأكاديمي، يقدم الكاتب المصري مصطفى عاطف تجربة جديدة في كتابه «ثمن النجاح.. أفكار ومهارات وأخلاقيات»، بلغة أكثر بساطة، والأهم أنه يقدم نماذج واقعية من «لحم ودم» لتجارب نجاح مشاهير ورجال أعمال، تصدرتها قصص نجاح عربية لرجال أعمال سعوديين، وهو ما يجعل الكتاب أقرب إلى الواقع، وسعي قابل للتطبيق من أجل وضع وصفة عملية للطامحين في النجاح.
يستهل المؤلف كتابه بالتأكيد على تفاوت مفهوم النجاح بين الناس، وأن النجاح هو أمر شديد الخصوصية يتوقف على تجارب الأشخاص، لكن المفهوم الواضح للنجاح برأي الكاتب هو التغيير في الشخصية الإنسانية والذي لا يستلزم فقط مهارات بعينها، وإنما أيضا يحتاج أفكارا وقناعات ذهنية، والتي تكون بمثابة الدوافع لتحقيق النجاح، والتي حذر الكاتب من خطورتها إن لم تكن سليمة. ويشدد الكاتب على أن إدراك المشكلة وأوجه القصور في هذه القناعات والأفكار يساهم بنسبة 50 في المائة في إيجاد حل لها ومعالجتها، ومن ثم تحقيق النجاح المرجو.
وكما هو جلي في عنوان الكتاب «ثمن النجاح»، يفند المؤلف ما يمكن أن يدفعه المرء ثمنا للنجاح، معنويا كان أو ماديا، من عمل وصبر وتضحية، مشيرًا إلى أن الطريق لن يكون بالطبع مفروشا بالورود، وأن قيمة النجاح تتوقف على حجم التضحيات التي بذلت للوصول إليه.
ويقول عاطف في كتابه: «أحيانا ما ينظر الناس إلى الوضع الذي عليه الآن كثير من الناجحين أو المشاهير، أو ممن فتح الله عليهم أبواب رزقه، ولكن يتغافل هؤلاء حقيقة مهمة جدا، ألا وهي أن الوضع الحالي الذي تراه للبعض ما كنت لتراه منذ سنوات كثيرة». مضيفًا أن «كثيرين من ضعاف النفوس وغير المتزنين سينظرون بحسد وحقد إلى الناجحين مهنيا أو شخصيا أو اجتماعيا»، لكنهم في الوقت ذاته سيعانون من الشعور بالظلم نظرا لظروفهم الحياتية الصعبة، كما لو كان «الناجحون والمتميزون خلقوا هكذا أو لم يبذلوا أي مجهود يذكر من أجل الحصول على قلوب الناس».
إيمانًا منه بأن مطالعة تجارب الآخرين والتعلم منها هي أقصر الطرق نحو النجاح، بدأ الكاتب يسرد بعض قصص النجاح لمشاهير حول العالم مع التركيز على المعاناة والتضحيات التي قدموها للوصول إلى ما وصلوا إليه، والتي استهلها برجل الأعمال السعودي الراحل صالح الراجحي الذي بدأ حياته في أربعينات القرن الماضي بالعمل «حمّالا» بأجر بسيط في الصباح وبائعا للخردوات بعد العصر وطباخا أيضا، دون أن يخطر بباله يوما أن يكون ثراؤه بهذا الحجم. ويقول: «كنت أعمل في الصباح والمساء، وأبيع واشتري في أعمال بسيطة كبيع المفاتيح والأقفال وبعض الخردوات»، ويقول الكاتب إن بيعه للمفاتيح والأقفال «قاده إلى الإمساك بمفاتيح أحد أكبر الخزائن والبنوك في السعودية».
واستطاع الراجحي إنشاء أول مكان للصرافة عام 1366هـ (1946 م) بعدما وجد الناس يتهافتون عليه لتغيير العملة، لينطلق منه مجموعة الراجحي التجارية وهي الآن أحد أكبر المصارف حول العالم، لكن الوصول إلى ذلك كان ثمنه قصة كفاح استمرت نحو 80 عاما.
ويقول الكاتب: «بدأ الراجحي حياته العملية في العاشرة من عمره بتجارة الكيروسين؛ فلم تكن الكهرباء معروفة في ذلك الوقت.. وكان الكيروسين يأتي من خارج المملكة في (تنكات) ثم تعبأ في قوارير، وكان يربح من هذه التجارة قرشا أو قرشا ونصف خلال اليومين، وعمل بعد ذلك حمّالا مقابل نصف قرش في اليوم، وكان الريال في ذلك الوقت يساوي 22 قرشا مصريا فيما كان الجنيه المصري يعادل نحو 80 سنتا أميركيا، ثم انتقل للعمل طباخا في بإحدى الشركات التي كانت تعمل في مشاريع الدولة، لكنه لم يستمر طويلا، بسبب رفض الشركة زيادة راتبه أسوة بزملائه في العمل».
ويؤكد الكاتب مقولة الراجحي بأن «رأس الإنسان هو كومبيوتر إذا ما استخدم في التفكير الجاد والعمل الدؤوب، وقنوات العمل مفتوحة أمام الجميع تنتظر دخولها»، حيث قال إنه على الرغم من عدم إكمال الرجل تعليمه لكنه نجح في إدارة موظفيه وأغلبهم يحمل شهادات وخبرات اقتصادية واسعة، وبات «مصرف الراجحي» اليوم أحد أكبر المصارف الإسلامية حول العالم حيث يدير أصولا قيمتها 124 مليار ريال سعودي (33 مليار دولار) وبرأسمال يبلغ 15 مليار ريال سعودي (4 مليارات دولار)، ويعمل فيه نحو 8 آلاف موظف.
قصة أخرى من قصص النجاح يسردها الكاتب، لكن هذه المرة على لسان صاحبها، وهو رامي أبو غزالة، صاحب سلسلة مطاعم «البيك» الشهيرة في المملكة العربية السعودية، التي يعود تاريخ انطلاقها إلى 35 عاما، حيث كان أغلب الناس يتناولون طعامهم خارج المنازل، ففكر والده في إنشاء مطاعم تقدم طعاما نظيفا وصحيا، وبالفعل تم التعاقد مع شركة «بروست»، وهو المصطلح الذي انتشر فيما بعد، حيث أصبح والد رامي وكيلها في جدة.
لكن وفاة الوالد كانت بمثابة علامة فارقة في رحلة نجاح رامي، حيث ألغت الشركة التعاقد لوفاة الوكيل، فما كان من رامي وشقيقه إحسان إلا أن اختارا مجابهة التحدي الأكبر وهو إدارة وإنقاذ أعمال والدهم المختلفة التي ضربتها الخسائر والفوضى، حيث اتخذ إحسان (الأخ الأكبر) قرارا جريئا بتصفية كل الأعمال الأخرى والإبقاء على المطاعم فقط، رغم أنه لم يكن تخصص أي منهما.
وكانت الصدمة حينما أبلغهما البنك بمديونية بالملايين، وبدلا من الاستسلام للحجز على الممتلكات فقد اختارا التوقيع على كمبيالات يتم سدادها على مدار سنتين، لكن هذا بالتوازي مع تقشف شديد، ويحكي رامي «كنا نعمل في مكاتب صغيرة جدا وضيقة حتى السقف كنا نحني رؤوسنا عندما نقف، وألغينا الشاي والقهوة في المكاتب، وقد علمتنا هذه التجربة كيف نحافظ على أموالنا وحلالنا وتعلمنا أيضا ألا نأخذ قروضا من البنك».
لم يتوقف إصرار واجتهاد رامي وشقيقه عند هذا الحد، حيث نجحا في الاستقلال عن الوكالة وإعداد الخلطة السرية للطعام التي تم تجريبها على مدار أربع سنوات تقريبا، ويحكي رامي أنه كان يمسح ويكنس المطعم ويخدم الزبائن. ومع انتشار مطاعم «البروست» التي وصلت إلى 400 في جدة وتراجع سمعة الطعام فيها، تميز مطعم رامي عن غيره بالنظافة والجودة مع تغيير اسمه إلى «البيك».
ولم يكتفِ الكاتب بسرد نماذج نجاح، وإنما لجأ أيضا للأقوال التاريخية والدينية لترسيخ فكرة الاجتهاد وإتقان العمل، مثل قوله تعالى: (إن الله لا يضيع أجر من أن أحسن عملا)، والتأكيد على ضرورة السعي كما في قوله تعالى: (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى). وأكد الكاتب أيضا على ضرورة وجود شيء من المغامرة من أجل النجاح والتميز، مستشهدا بما قاله الكاتب المصري الراحل أنيس منصور: «لا تخَف من التجربة فالهواة بنوا سفينة نوح، والمحترفون بنوا سفينة تيتانيك». كما دعا الباحثين عن النجاح للابتكار والإبداع والذهاب إلى حيث لم يذهب غيرهم، مذكّرا بقول المفكر المصري الراحل الدكتور زكي نجيب محمود: «إن عبقرية الإنسان هي في مواجهته للحياة بالجديد المبتكر؛ ولقد أراد الله لهذا الإنسان أن ينظر إلى أمام، ومن ثم كانت أبصارنا في جباهنا، ولم تكن في مؤخرات رؤوسنا..».
وعن ضرورة أن يكون للإنسان هدفه الخاص دون أن يكنّ الحقد والحسد للآخرين، أبرز الكاتب مقولة الحكيم الصيني الشهير كونفوشيوس «ما يسعى إليه الإنسان السامي يكمن في ذاته هو، أما الوضيع فيسعى لما لدى الآخرين». كما أكد عاطف على ضرورة التحلي بالأخلاق في المسيرة نحو النجاح وأن الإنسان لا يحصد سوى ما يزرع، إن خيرا فخير وإن شرا فشر.
وتميز الكتاب بوجه عام بلغته البسيطة، وصياغته السلسلة، وأيضا نماذجه الحياتية المعروفة للقارئ المصري والعربي، وهو عمل قلما نراه في كتب الإنسانيات والتنمية البشرية بوجه عام، والتي عادة ما تكون ترجمات لكتب غربية ومن ثم تكون أمثلتها بعيدة عن القارئ. ويذكر أن مصطفى عاطف هو كاتب ومحاضر وباحث في مجال العلوم الإنسانية، ألف الكثير من الكتب من بينها «ياللا نتغير» في 2013، وكتاب «ميكتروبيس» الساخر في 2014، بالإضافة إلى كتب «لا أنا أنت ولا أنت أنا» و«كيف تقتنص الفرص وتحل مشكلاتك بلا تردد».
كيف سدد «الراجحي» و«البيك».. «ثمن النجاح»؟
كتاب مصري جديد يستعرض تجارب سعودية وعربية ملهمة
كيف سدد «الراجحي» و«البيك».. «ثمن النجاح»؟
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة