لوزان.. بعيدًا عن الاتفاقيات السياسية

تغار من جارتها جنيف ولو أنها تفوقها جمالاً

لوزان مدينة تفتخر بمعمارها التاريخي وجبالها الشاهقة وبحيراتها الهادئة
لوزان مدينة تفتخر بمعمارها التاريخي وجبالها الشاهقة وبحيراتها الهادئة
TT

لوزان.. بعيدًا عن الاتفاقيات السياسية

لوزان مدينة تفتخر بمعمارها التاريخي وجبالها الشاهقة وبحيراتها الهادئة
لوزان مدينة تفتخر بمعمارها التاريخي وجبالها الشاهقة وبحيراتها الهادئة

في كل مرة يذكر فيها اسم مدينة لوزان السويسرية لا بد أن تذكر اتفاقية سياسية، ولكن هذا لا يمنع أن تلك المدينة الوادعة في الجزء الغربي من دولة الاتحاد الكونفدرالي السويسري، وترتيبها الرابعة من حيث المساحة، وهي عاصمة إقليم أوكانتون فاود، هي من أجمل المدن السويسرية من الناحية السياحية.
تزين لوزان ثلاثة جبال شاهقة من سلاسل الألب الفرنسية، وتحتضنها بحيرة ليمان الشهيرة باسم بحيرة جنيف. وبين لوزان وجنيف علاقة حب وغيرة ومنافسة، إذ تستأثر تلك الأخيرة بالشهرة الدولية وباسم البحيرة رغم أنها، أي البحيرة، أطول وأعرض وأهدأ وأكثر سحرا على امتداد شواطئ لوزان، ناهيك عما تكسبه إياها الجبال بثلوجها وشمسها من انعكاسات طبيعية لا تضاهى.
تبعد لوزان مسافة 45 كيلومترا عن مطار جنيف شريانها الأساسي للحركة الجوية، وتقصر المسافة بينهما عن ساعة زمن بالسيارة، فيما لا تتعدى 35 دقيقة بالقطار.
تجري القطارات على مدار الساعة وحتى منتصف الليل. وتتوافر المعلومات عن رحلاتها على الشاشات المعلقة، كما تتوافر مطبوعة لكل من يطلبها. ويمكن الوصول إلى لوزان بالقطار مباشرة من مطار جنيف الذي يضم محطة قطارات تسير بدقة الساعات السويسرية دون تأخير أو تأجيل أو اعتذارات. وللحركة والانتقال داخل المدينة تمتاز لوزان بكونها أصغر مدينة تملك قطار أنفاق (مترو) كما يسمونه باللغة الفرنسية التي تتحدثها المدينة، كما تشيع فيها الألمانية والإيطالية وبالطبع الإنجليزية كحال معظم مدن سويسرا التي تمتاز بالثراء اللغوي والثقافي.
تزخر لوزان بمعظم المقومات الجاذبة لكل أنواع السياحة سواء للترفيه أو للتسوق أو بحثا عن ثقافة أو تاريخ أو رياضة أو علاج واستجمام وراحة، كل ذلك مدعوما بأمن مستتب ومعايير سلامة عالية ووسائل مواصلات سهلة وواسعة، بجانب فنادق متنوعة من تلك النوعيات ذات النجوم المتراكمة التي يصل سعر الليلة فيها إلى 1500 يورو، وقد يزيد إلى تلك التي ينام فيها المرء ويفطر بما قد يقل عن 100 يورو.
بهذا المبلغ، ومع قليل من الحظ والحجز المبكر، يمكن للنزيل الاستمتاع بغرفة صغيرة ونظيفة وهادئة، مزودة بمعدات قهوة وشاي وإنترنت مجاني، بالإضافة لمنظر مبهج يطل على البحيرة مباشرة. لا تبعد هكذا فنادق صغيرة عن وسط البلد إلا مسافة 3 إلى 4 محطات بالمترو، كما لا تزيد التذكرة على 3.40 فرنك سويسري. وعادة ما تمنح معظم الفنادق بطاقات يمكن استخدامها لوسائل المواصلات العامة عدا سيارات الأجرة.
الجدير بالذكر أن سويسرا بعد انضمامها لاتفاقية شنغن (التي تفتح الحدود بين 28 دولة عضوا بالاتحاد الأوروبي وثلاث دول أوروبية هي سويسرا وآيسلاند والنرويج)، لا تزال تحتفظ بالفرنك السويسري كعملة رسمية، لكن ورغم هذا يتم التداول باليورو على نطاق واسع في معظم المحال، على أن تدفع كمشتر باليورو كعملة ورقية ويردون لك الباقي فرنكات سواء كورق أو حديد.
من حيث المعمار والبنية التحتية استفادت لوزان كثيرا من كونها أرضا جبلية تم تشييدها على مدرجات تم تسطيحها، فأمست المدينة وكأنها مبنية على طبقات أو أدوار، حرصوا ما أمكن أن تطل على البحيرة.
من جانب آخر، كسبت المدينة كثيرا من مهارات أبنائها من مهندسي المساحة ممن نحتوا الجبال وجعلوها منبسطة حول المدينة كأراض زراعية تقاوم الانجراف، تم تنسيقها في أشكال هندسية جميلة لزراعة العنب، ومن تلك مساحات اختارتها منظمة الأمم المتحدة للثقافة والفنون (اليونيسكو) في عام 2007 كأراض محمية وتراث عالمي.
إلى ذلك، تفتخر لوزان معماريا وبالطبع تاريخيا بعدد من القلاع والكنائس والقصور. وفي هذا السياق، تعتبر كاتدرائية «نوتردام» (1170 - 1235) بلوزان التي تم تشييدها وفق المعمار القوطي أجمل كاتدرائية سويسرية.
هذه الكاتدرائية بالذات تدور من حولها كثير من الأساطير، بدءا بقصة إنشائها من قبل مجهول، ثم توقف البناء ليكمله مجهول ثان، ولم يعرف لها مهندس مشهور إلا بعد 20 عاما من وضع حجر أساسها. ليس ذلك فحسب إذ لاحقها الغموض حتى بعد أن اكتملت، ويقال إنها لم تفتتح إلا بعد 100 بصلاة من البابا غريغوري العاشر. ووفقا لمعلومات حصلت عليها «الشرق الأوسط» مطلع الشهر من مكتب السياحة بمدينة لوزان فإن العمل لم ينته بالكاتدرائية بعد.
يزين الكاتدرائية التي تسع 70 ألف بيانو معلق ضخم تم تصميمه خصيصا لها بكلفة قدرت بـ6 ملايين فرنك، أما جرسها المهول فيزن 6300 طن من الحديد. إلى ذلك، ومنذ نحو 605 سنوات تشتهر الكاتدرائية بـ«خفيرها» أو حارسها الخاص الذي يعمل وفق تقليد راسخ في القدم يعود للقرون الوسطى، حين كان للكاتدرائيات بمعظم المدن الأوروبية حراس يسهرون والناس نيام ليعلنوا الوقت، وأهم من ذلك للتنبيه في حالات الحريق.
إلى يومنا هذا لا يزال لكاتدرائية نوتردام بلوزان حارس يتسلق السلالم يوميا عتبة عتبة عبر أدوار ثلاثة حتى يصل لقمتها ليعلن التوقيت ما إن ينقر الجرس الساعة 10 مساء وحتى 2:00 صباحا، وليحذر «اللوزانييين» في حال اندلاع حريق رغم ما انتشر في زماننا الحديث من أجهزة إنذار إلكترونية داخل كل مسكن وعمارة.
وتسود كثير من الأساطير والقصص حول الكاتدرائية بين قراء الأدب الإنجليزي ممن أعجبوا برواية «The Watchers» للصحافي والإعلامي الأميركي جون استيلي الذي سطرها دراما محبوكة بلغة رفيعة، تحكي عن أكثر من جريمة قتل غامضة بُعثرت أشلاؤها حول أزقة الكاتدرائية، فيما دارت الشبهات حول «الخفير»، وبالطبع لم تخل الرواية من بائعة جنس أميركية حسناء، كما لم تغفل ظهور محقق بريطاني لم يدر ما الذي جاء به أو من عينه فأطلق عبارة أمست شهيرة وهو ينظر للسماء، وقال «إنها الملائكة التي تتساقط من السماء تطارد لوزان».
وبالطبع تضافرت شهرة الكتاب وما يحكى عن الكاتب، بالإضافة للغموض التاريخي الذي يلف الكاتدرائية من زيادة أعداد زوارها من السياح.
ودون شك نال مقهى «غروتلي» المقابل، الذي ورد ذكره في الرواية، حظه من الشهرة، رغم بساطته، فأصبح بدوره معلما مميزا يقف عنده كثيرون أثناء تجوالهم حول قلب المدينة القديم وأزقتها التي لاحقتها معالم الحداثة والتقنية.
بجانب الأزقة القديمة والقلاع والكنائس والحدائق العامة والمقاهي والمعارض الفنية والمتاحف، تفتخر طرقات لوزان السياحية بعدد من الفنادق التاريخية وأشهرها (فندق قصر «بوريفاج») الذي على عكس ما يظن كثيرون لم يبن كقصر وإنما كفندق.
تعود شهرة فندق قصر «بوريفاج» لفخامته كمبنى ولموقعه وطلته من ناحيته الخلفية على البحيرة مباشرة ولخدماته، كما يستمد أهمية خاصة مما شهده من أحداث لا يزال المجتمع الدولي يعيش آثارها سياسيا وجغرافيا، ومنها معاهدة «أوشي» 1912 ومعاهدة لوزان 1923، وحديثا جدا الاتفاق النووي الإطاري 2015، هذا بالإضافة لمشاهير أقاموا فيه وفضلوه على ما عداه من فنادق سويسرية وفي مقدمتهم الشيخ زايد ونيلسون مانديلا.
عادة يكون الفندق مفتوحا لكل من يشاء، وما أحلى التجوال في حدائقه الخضراء الممتدة التي تربط بينه وبين المتحف الأولمبي المخصص بالكامل لأكثر من 10 آلاف منحوتة وتذكار أولمبي.
ومعلوم أن لوزان، ومنذ عام 1915، أصبحت المقر الرسمي للجنة الأولمبية، مما أكسبها روحا رياضية وشبابية تظهر في كثير من مناشطها وأحيائها، لا سيما أنها مدينة جامعية لاثنتين من أشهر الجامعات السويسرية، إضافة لمساعيها الحثيثة لتصبح العاصمة الجديدة للرقص.
وفي هذا السياق، هناك جائزة لوزان لرقص الباليه، ومسابقة لوزان للرقص الكلاسيكي. ولمزيد من الدعم كانت الحكومة السويسرية قد قدمت منذ عام 2009 شهادة الكفاءة الفيدرالية في الرقص، مما أدى للاعتراف بهذا الفن كمهنة.
وجود أعداد مقدرة من المؤسسات المالية الباهظة والمعاشيين الأثرياء، بجانب وجود أعداد هائلة من الطلاب الجامعيين والمختبرات الطبية وقاعات المؤتمرات ومعاهد تأهيل الشباب محدودي الميزانيات، انعكس إيجابا في تنوع أسعار الفنادق والمطاعم وأماكن اللهو حتى في أرقى أحياء لوزان بالمقارنة مع بقية المدن السويسرية مثل بيرن وبازل وزيوريخ وحتى مونترو وجنيف، مما أضاف لحميمية لوزان ورومانسيتها، ومما يجعل بحيرتها موقعا لا يقاوم للنزهة والرياضة والتمعن والاسترخاء في أي ساعة من اليوم حتى في عتمة الليل.



سوق البحرين العتيقة... روح البلد وعنوان المقاهي القديمة والجلسات التراثية

سوق المنامة القديم (إنستغرام)
سوق المنامة القديم (إنستغرام)
TT

سوق البحرين العتيقة... روح البلد وعنوان المقاهي القديمة والجلسات التراثية

سوق المنامة القديم (إنستغرام)
سوق المنامة القديم (إنستغرام)

«إن أعدنا لك المقاهي القديمة، فمن يُعِد لك الرفاق؟» بهذه العبارة التي تحمل في طياتها حنيناً عميقاً لماضٍ تليد، استهل محمود النامليتي، مالك أحد أقدم المقاهي الشعبية في قلب سوق المنامة، حديثه عن شغف البحرينيين بتراثهم العريق وارتباطهم العاطفي بجذورهم.

فور دخولك بوابة البحرين، والتجول في أزقة السوق العتيقة، حيث تمتزج رائحة القهوة بنكهة الذكريات، تبدو حكايات الأجداد حاضرة في كل زاوية، ويتأكد لك أن الموروث الثقافي ليس مجرد معلم من بين المعالم القديمة، بل روح متجددة تتوارثها الأجيال على مدى عقود.

«مقهى النامليتي» يُعدُّ أيقونة تاريخية ومعلماً شعبياً يُجسّد أصالة البحرين، حيث يقع في قلب سوق المنامة القديمة، نابضاً بروح الماضي وعراقة المكان، مالكه، محمود النامليتي، يحرص على الوجود يومياً، مرحباً بالزبائن بابتسامة دافئة وأسلوب يفيض بكرم الضيافة البحرينية التي تُدهش الزوار بحفاوتها وتميّزها.

مجموعة من الزوار قدموا من دولة الكويت حرصوا على زيارة مقهى النامليتي في سوق المنامة القديمة (الشرق الأوسط)

يؤكد النامليتي في حديثه لـ«الشرق الأوسط» أن سوق المنامة القديمة، الذي يمتد عمره لأكثر من 150 عاماً، يُعد شاهداً حيّاً على تاريخ البحرين وإرثها العريق، حيث تحتضن أزقته العديد من المقاهي الشعبية التي تروي حكايات الأجيال وتُبقي على جذور الهوية البحرينية متأصلة، ويُدلل على أهمية هذا الإرث بالمقولة الشعبية «اللي ما له أول ما له تالي».

عندما سألناه عن المقهى وبداياته، ارتسمت على وجهه ابتسامة وأجاب قائلاً: «مقهى النامليتي تأسس قبل نحو 85 عاماً، وخلال تلك المسيرة أُغلق وأُعيد فتحه 3 مرات تقريباً».

محمود النامليتي مالك المقهى يوجد باستمرار للترحيب بالزبائن بكل بشاشة (الشرق الأوسط)

وأضاف: «في الستينات، كان المقهى مركزاً ثقافياً واجتماعياً، تُوزع فيه المناهج الدراسية القادمة من العراق، والكويت، ومصر، وكان يشكل ملتقى للسكان من مختلف مناطق البلاد، كما أتذكر كيف كان الزبائن يشترون جريدة واحدة فقط، ويتناوبون على قراءتها واحداً تلو الآخر، لم تكن هناك إمكانية لأن يشتري كل شخص جريدة خاصة به، فكانوا يتشاركونها».

وتضم سوق المنامة القديمة، التي تعد واحدة من أقدم الأسواق في الخليج عدة مقاه ومطاعم وأسواق مخصصة قديمة مثل: مثل سوق الطووايش، والبهارات، والحلويات، والأغنام، والطيور، واللحوم، والذهب، والفضة، والساعات وغيرها.

وبينما كان صوت كوكب الشرق أم كلثوم يصدح في أرجاء المكان، استرسل النامليتي بقوله: «الناس تأتي إلى هنا لترتاح، واحتساء استكانة شاي، أو لتجربة أكلات شعبية مثل البليلة والخبيصة وغيرها، الزوار الذين يأتون إلى البحرين غالباً لا يبحثون عن الأماكن الحديثة، فهي موجودة في كل مكان، بل يتوقون لاكتشاف الأماكن الشعبية، تلك التي تحمل روح البلد، مثل المقاهي القديمة، والمطاعم البسيطة، والجلسات التراثية، والمحلات التقليدية».

جانب من السوق القديم (الشرق الاوسط)

في الماضي، كانت المقاهي الشعبية - كما يروي محمود النامليتي - تشكل متنفساً رئيسياً لأهل الخليج والبحرين على وجه الخصوص، في زمن خالٍ من السينما والتلفزيون والإنترنت والهواتف المحمولة. وأضاف: «كانت تلك المقاهي مركزاً للقاء الشعراء والمثقفين والأدباء، حيث يملأون المكان بحواراتهم ونقاشاتهم حول مختلف القضايا الثقافية والاجتماعية».

عندما سألناه عن سر تمسكه بالمقهى العتيق، رغم اتجاه الكثيرين للتخلي عن مقاهي آبائهم لصالح محلات حديثة تواكب متطلبات العصر، أجاب بثقة: «تمسكنا بالمقهى هو حفاظ على ماضينا وماضي آبائنا وأجدادنا، ولإبراز هذه الجوانب للآخرين، الناس اليوم يشتاقون للمقاهي والمجالس القديمة، للسيارات الكلاسيكية، المباني التراثية، الأنتيك، وحتى الأشرطة القديمة، هذه الأشياء ليست مجرد ذكريات، بل هي هوية نحرص على إبقائها حية للأجيال المقبلة».

يحرص العديد من الزوار والدبلوماسيين على زيارة الأماكن التراثية والشعبية في البحرين (الشرق الأوسط)

اليوم، يشهد الإقبال على المقاهي الشعبية ازدياداً لافتاً من الشباب من الجنسين، كما يوضح محمود النامليتي، مشيراً إلى أن بعضهم يتخذ من هذه الأماكن العريقة موضوعاً لأبحاثهم الجامعية، مما يعكس اهتمامهم بالتراث وتوثيقه أكاديمياً.

وأضاف: «كما يحرص العديد من السفراء المعتمدين لدى المنامة على زيارة المقهى باستمرار، للتعرف عن قرب على تراث البحرين العريق وأسواقها الشعبية».