ماذا يحدث عندما يتعرض الطفل لأكثر من لغة؟ هل يؤدي ذلك إلى أنه يرتبك ويتأخر؟ هل من الممكن أن يواجه صعوبة أكثر في تعلم الكلام من الأطفال الذين يتحدثون لغة واحدة فقط؟ هل استخدام أكثر من لغة مع طفل يعاني من صعوبات في التواصل يساهم في زيادة مشكلته؟ هل من الممكن أن يصبح طفل ذو احتياج خاص ثنائي اللغة؟
إن التطور المتسارع في وسائل الاتصال والتكنولوجيا، وتلاشي الحدود بين المجتمعات والثقافات، دفع كثيرا من الآباء إلى تعليم أبنائهم منذ الصغر أكثر من لغة إعدادا لهم لمستقبل قد لا يكون فيه مكان لمن يتحدثون لغة واحدة (محلية)، ولكن ذلك السعي الحثيث يجب أن يراعي مقدرة هذا الجيل على الاحتفاظ بثقافته ولغته اللتين تمثلان الهوية له، مع الأخذ في الاعتبار ضرورة تنوع مصادر المعرفة.
إن كانت هذه هي حال الأطفال الذين لا يعانون من مشكلات تتعلق بالنمو، سواء كان لغويا أو إدراكيا أو غيرهما من التحديات، فما طبيعة الحال بالنسبة للأطفال المتأخرين لغويا أو ذوي الاحتياجات الخاصة؟
* ثنائية اللغة
للإجابة عن هذا التساؤل المهم في مستقبل أجيالنا ولتحديد أبعاد هذه المشكلة المعاصرة، التقت «صحتك» الدكتور وائل الدكروري، الحاصل على الـ«بورد» الأميركي واستشاري ورئيس قسم اضطرابات التواصل بمجمع العناية النفسية بالرياض والباحث في اضطرابات اللغة عند الأطفال، فأرجع إجابته لنتائج دراسة كندية حديثة أجريت على 63 طفلا، بعضهم يتحدث لغة واحدة، والبعض يتحدث لغتين (ثنائي اللغة). ووجد أن من يتحدثون لغتين قد أظهروا تقدما في المجال الإدراكي، مقارنة بأقرانهم الذين يتحدثون لغة واحدة، وقد تمثل ذلك في أن الأطفال الذين يتحدثون لغتين لديهم قدرة على التركيز على مثير واحد وتجاهل المثيرات الأخرى عند طلب ذلك منهم، وهو ما يسمى «بالانتباه الاختياري»، وتغيير استجابتهم بناء على متطلبات الموقف، وهو ما يعرف بـ«المرونة الإدراكية».
كما أظهرت الدراسة أن الأطفال الذين يتحدثون لغتين، تكون اللغتان في صراع كما لو كانت كل منهما تحاول إقناع الطفل باختيارها عند الاستجابة لمثير لغوي، وهو ما يتطلب قدرة على تنحية لغة وإعلاء الأخرى، مما يستلزم تفعيل الانتباه الاختياري والمرونة الإدراكية؛ حيث توصلت الدراسة إلى أن هذه المهارات تكون أفضل عند الأطفال الذين يتحدثون لغتين، وهو ما يظهر بشكل واضح عند بداية الدراسة الأكاديمية؛ حيث يظهر الأطفال الذين يتحدثون لغتين تقدما في المجال الإدراكي، يتمثل في تطور أعلى لمهارات السيطرة على الذات، وهو ما يؤثر بشكل مباشر على مستقبلهم الأكاديمي وتطور المهارات الاجتماعية لديهم، فالطفل الذي لديه مهارات متقدمة في السيطرة على الذات يكون من السهل عليه تركيز انتباهه على النقاط المهمة، وأقل تفاعلا مع المشتتات المختلفة، مما يكون له تأثير إيجابي على التطور الأكاديمي. أما بالنسبة للتفاعل الاجتماعي فيكون لديه سيطرة أكبر على سلوكياته وتفاعلاته.
إن استخدام أكثر من لغة مع الطفل لا يسبب تأخرا في حد ذاته، في حين أن الأطفال الذين يتعرضون لأكثر من لغة قد تكون بداية الكلام عندهم أبطأ قليلا من الأطفال الذين يتعرضون للغة واحدة، ولكن يظلون ضمن الحدود الطبيعية، بل لقد أظهرت الدراسات أنه حتى الأطفال الذين يعانون من تأخر في نمو مهارات اللغة والكلام يمكنهم الاستفادة من تعلم أكثر من نظام لغوي.
* مزايا ونواقص من فوائد ثنائية اللغة:
- قدرة أفضل على التركيز وتجاهل المشتتات.
- قدرة أفضل على حل المشكلات الصحية.
- التأثير على مخ الإنسان عند البالغين، فيتأجل ظهور أعراض الخرف لمدة 4 سنوات.
ولكن، هل يساعد استعمال لغتين على زيادة مشكلة التأخر في الكلام؟ يجيب د. وائل الدكروري أنه مثال لحالة الاكتساب المتزامن للغات (أي اكتساب الطفل أكثر من لغة قبل سن الثالثة)؛ حيث أظهرت الأبحاث أن كون الطفل المتأخر لغويا دون وجود مسببات مثل ضعف السمع أو الاضطرابات النمائية وهو ما يعرف بالمصطلح الأكاديمي «SpecificLanguage Impairment، SLI»، من ثنائي اللغة، لا يعني مواجهة صعوبة أكبر من الأطفال أحاديي اللغة، فلقد كانت معدلات أدائهم متساوية، ولا يمكن الإقرار بوجود صعوبة أكثر في تطوير مهارات اللغة والكلام بسبب ثنائية البيئة اللغوية للطفل، وهو ما أظهرته الدراسات من أنه مماثل لنتائج الدراسات التي أجريت على الأطفال المصابين باضطراب طيف التوحد؛ حيث إن النتائج لم تظهر أي آثار سلبية على تطور مهارات التواصل واللغة بسبب ثنائية اللغة، عن أطفال اضطرابات طيف التوحد الخاضعين لهذه الدراسة، لدرجة تطابق نتائج اختبار فهم المفردات والتسمية عند الأطفال المصابين باضطراب طيف التوحد ثنائي اللغة والأطفال أحاديي اللغة، شرط تماثل درجة شدة الأعراض، وهو ما تطابق مع نتائج دراسات أجريت على أطفال التحدي الذهني مثل «متلازمة داون».
وهنا يمكننا استنتاج أن الأطفال ثنائيي اللغة والمصابين بصعوبات في نمو مهارات اللغة والكلام، لا يعانون من مشكلات أكثر من الأطفال أحاديي اللغة، الذين يعانون من الصعوبات نفسها في نمو مهارات اللغة والكلام.
هل يمكن تقديم لغة ثانية للطفل الذي أظهر تأخرا في اكتساب لغته الأم؟
يجيب د. وائل الدكروري أن هناك ما يعرف بـ«اكتساب اللغات المتسلسل»، (أي اكتساب الطفل اللغة الثانية بعد الأولى بثلاث سنوات)؛ حيث تم اكتساب بعض مهارات اللغة الأولى، ويتم تقديم لغة ثانية بعد عمر ثلاث سنوات. لقد خلصت نتائج الدراسات التي أجريت في العقد الأخير إلى عدم وجود اختلافات بين هؤلاء الأطفال والأطفال أحاديي اللغة، الذين يتفقون في وجود صعوبات في تطور ونمو مهارات اللغة والكلام؛ حيث إنهم توافقوا في سرعة اكتساب المهارات اللغوية وكمية المهارات التي تم اكتسابها، في حين يجب توضيح أن البيئة التي يعيش فيها الطفل لها تأثير كبير من حيث كون اللغة لغة أقلية في هذا المجتمع أو لغة أغلبية، ومثال ذلك نتائج الدراسات المطولة التي أجريت على الجاليات التركية المقيمة بألمانيا؛ حيث وجد أن الأطفال الأتراك، الذين يعانون من تأخر نمو مهارات اللغة والكلام، وتم البدء بتعليمهم اللغة الألمانية لغة ثانية بعد بلوغ سن الثالثة، ظلوا متأخرين مقارنة بأقرانهم متحدثي اللغة الألمانية أحاديي اللغة حتى بعد 4 سنوات من التعليم والتدريب المكثف، كما ظل مستوى أدائهم أقل من المعدلات الطبيعية لمتحدثي اللغة التركية أحاديي اللغة.
ومن الغريب أن «دراسة هايلي وزملائها»، التي نشرت عام 2011 في مجلة التوحد والاضطرابات النمائية، والتي أجريت بهدف مقارنة تطور نمو مهارات اللغة عند من اكتسبوا اللغات بشكل متزامن أو متسلسل، أو أحاديي اللغة، شريطة أن يكونوا تحت اسم «اضطرابات طيف التوحد»، لم تظهر فروقا مميزة لأي فئة من فئات الدراسة، وهو ما يثبت عدم اختلاف ثنائية اللغة بأنواعها مقارنة بأحادية اللغة عند الحديث عن اكتساب مهارة لغة ثانية. فلقد أظهرت نتائج البحوث التي أجريت أن الأطفال المتأخرين لغويا يمكن أن يكتسبوا لغة ثانية بعد اكتساب اللغة الأولى، شريطة أن يتم التعامل مع اللغتين بشكل دائم في البيئة المنزلية أو بيئة المدرسة.
وهنا يمكننا استنتاج أن الأطفال الذين يكتسبون لغة ثانية وهم يعانون من تأخر في نمو وتطور اللغة الأم، لا يواجهون مصاعب أكثر من الأطفال أحاديي اللغة، الذين يعانون من التأخر نفسه في نمو مهارات اللغة.
* مشكلات الطفل المهاجر
ما مشكلات الطفل العربي الذي يعيش في مجتمع لا يتحدث لغته؟
يجيب د. وائل الدكروري بأن ما يحدث عندما يكتشف الأهل أن طفلهم يعاني من تأخر في تطور ونمو مهارات اللغة والكلام وهم في مجتمع يتحدث لغة أخرى (مثال: طفل عربي في مجتمع أميركي)، هو أن يعتقد الأهل أن تعلم لغة المجتمع (لغة الأغلبية) أكثر أهمية، بل إن اللغة الأصلية (العربية) قد تكون غير مهمة الآن حتى لو كان الأهل لا يتحدثون الإنجليزية بطلاقة كما في بعض الأحيان. وهنا تظهر مشكلات كثيرة؛ منها على سبيل المثال لا الحصر:
- الأطفال الذين يتحدثون لغة الأغلبية عرضة لعدم اكتمال لغتهم الأصلية أو حتى فقدها.
- في حال عدم طلاقة الأهل في استخدام لغة الأغلبية، وإصرارهم على استخدامها لمساعدة طفلهم، قد يتأثر نمط العلاقة بين الطفل والأهل من حيث التفاعل، مما يلقي بظلاله على العلاقة العاطفية والنواحي النفسية؛ حيث إن اللغة مرتبطة بهما بشكل كبير، كما أنها ترتبط بمفهوم تحديد مرجعية الهوية الثقافية للطفل.
- تأثر علاقة الطفل بثقافته وأصوله بشكل سلبي.
وهنا يمكننا استنتاج أن على الأهل أن يتواصلوا مع أطفالهم بلغتهم الأصلية، كذلك المتخصصون يجب أن يبذلوا أقصى ما في وسعهم لتقديم المساعدة التي تدعم تطوير مهارات اللغة الأم عند الطفل.
* دراسة عالمية
ولقد تناولت هذا الموضوع الدكتورة كاثرين كوهنرت وزملاؤها في دراسة خلصت إلى ضرورة أن يكون الهدف الأساسي للتدخل العلاجي لعلاج النطق واللغة هو مساعدة الطفل المتأخر لغويا على تطوير لغته الأم في الوقت نفسه الذي يتلقى فيه علاجا بلغة الأغلبية في المجتمع الذي يعيش فيه.
هل من الضرورة أن يتم توجيه الأطفال المتأخرين لنظام تعليم أحادي اللغة فقط؟ يجيب د. وائل الدكروري بأن الإجابة هنا تتمثل في أن نتائج الأبحاث التي أجريت حتى عام 2014 خلصت إلى أن الأطفال المتأخرين لغويا يؤدون الأعمال بشكل مماثل في البيئة التعليمية ثنائية اللغة كما في البيئة أحادية اللغة.
فالتعلم سواء كان بلغة واحدة أو لغتين بالنسبة للأطفال المتأخرين لغويا يتساوى مع وجوب وجود الدعم المتمثل في علاج أمراض النطق واللغة؛ لمساعدة الطفل على اجتياز المصاعب التي يواجهها، فالمعيار بالنسبة لهؤلاء الأطفال ليس وجود لغة أو لغتين، بل وجود الدعم الكافي بالجلسات العلاجية.
وفي النهاية نقول: إن الأطفال ثنائيي اللغة، الذين يعانون من تأخر في نمو مهارات اللغة والكلام، يحتاجون لدعم كامل للغتين؛ لضمان اكتسابهما بشكل متوافق مع أعمارهم. أما الاعتقاد الخاطئ بأن ثنائية اللغة مسؤولة عن تأخر الأطفال أو تحد من إمكانية تطورهم على المستوى اللغوي، فيجب عدم إعطائه أي اهتمام؛ لأنه يتنافى مع نتائج الدراسات التي أجريت في العشرين سنة الماضية.