شهادات منشقين عن داعش المتطرفة (3 - 4) : الاشتباكات الدامية مع عشيرة الشعيطات تتسبب في تخلي الكثير من مقاتلي «داعش» عن الحرب

التنظيم يعصف بعناصره المشاركة في مناظرات في مدينة الدانا ويستثني أمراء الولايات

TT

شهادات منشقين عن داعش المتطرفة (3 - 4) : الاشتباكات الدامية مع عشيرة الشعيطات تتسبب في تخلي الكثير من مقاتلي «داعش» عن الحرب

من أهم أسباب انشقاق مقاتلين من تنظيم داعش، تضارب توجهات التنظيم وعدم وجود مرجعية واضحة أو أهداف محددة يسعى لتحقيقها باستثناء شعار «إقامة دولة الخلافة»، وهو أمر بدا في الواقع، وعبر شهور، أنه لا يزيد عن وهم قام بحبكه عدد من القادة لترويجه نظريا، بينما ما يجري على الأرض مغاير تماما.
وتواصل «الشرق الأوسط» نشر شهادات من خمسة، من سوريا وليبيا وتونس، كان يجري تأهيلهم على جانبي الحدود العراقية السورية، لكي يكونوا قادة مستقبلا، وحاربوا مع التنظيم في مناطق دير الزور والبوكمال وحديثة وغيرها، بينما كانت تعليمات ما يطلق عليه القادة «الشرعيون» في داعش، تزيد من حيرتهم بشأن جدوى الاستمرار في التنظيم، بعد صدور الكثير من الفتاوى وعكسها في بضعة أيام، رغم ما ترتب عليها من أعمال قتل وتشريد وفوضى.
وتوقفت الحلقة السابقة عند نذر المواجهة التي بدأت في منطقة البوكمال وهي مدينة سورية قريبة من الحدود مع العراق بين مجموعة الليبي أبو هريرة والجيش الحر. كان عدد مقاتلي داعش قد زاد من 18 مقاتلا إلى 70. بسبب عدم ثقة المقاتلين في الصفقات التي يعقدها قادة التنظيم وآخرهم أبو عمر الشيشاني الذي ترك الجبهة ومضى، دون أن يشرح لأتباعه العلاقة الجديدة التي ينبغي أن تكون بين مقاتلي داعش وكل من جبهة النصرة والجيش الحر.
يقول أبو هريرة إنه فوجئ بأن جبهة النصرة والجيش الحر لم ينضموا لداعش أو يعلنوا الاستتابة أو يبايعوا الخليفة، كما أوحى لهم الشيشاني من قبل. وشعرت مجموعة أبو هريرة بالخوف من الإمدادات التي كانت تصل للجيش الحر، وهنا طلب من جبهة النصرة أن تدخل مع مجموعته في مقاتلة الجيش الحر، إلا أنها نأت بنفسها عن الاقتتال وانحازت إلى ما قالت: إنه رغبتها في «حقن دماء الطرفين».
الاصطدام مع الجيش الحر، وعدم مساندة جبهة النصرة لمقاتلي داعش في تلك المعركة، كما يشرح أبو هريرة أثبت صدق ما كان يتحدث عنه هو وجماعته مع البنعلي والقحطاني وأبو اليمان والشيشاني، بشأن عدم الثقة في خصوم التنظيم، وضرورة الاستتابة لهم قبل أي هدنة أو تعاون معهم.
ويضيف أحد المنشقين التونسيين: «كان الموقف هو أنه إما أن يدخلوا تحت راية دولة (الخلافة) ويأتمروا بأمرها أو قتالهم، كما تنص الفتاوى التي نحارب منذ البداية بناء عليها، ولا قبول بأي مبررات دون هذا الأمر، وإلا يكون هناك تلاعب.. وهذا ما كان في الحقيقة. وجدنا أنفسنا في تلك الحرب أضحوكة. أنت تتصرف وأنت تظن أن هذا سيقف إلى جانبك، لكن حين تبدأ المعركة يقول لك أنا لن أحارب معك. إذن ما العمل؟».
خلال ساعات من بدء تلك المعارك بين «داعش» والجيش الحر، وصل للتنظيم الدموي المزيد من المدد، بعد أن هدد «أبو هريرة: بسحب مجموعته من المنطقة.. وصل من الشمال ومن جهة العراق، مئات المقاتلين وشحنات من الأسلحة وسيارات الدفع الرباعي ومدرعات عسكرية أيضا كان قد جرى الاستيلاء عليها من الحروب مع الجيش العراقي». ويضيف التونسي أنه بهذه التعزيزات التي وصلتنا «حققنا الغلبة على الجيش الحر الذي كان يبدو أنه أسس لمعركة مع 70 مقاتلا من داعش وليس مع عدة مئات كما حدث بعد ذلك».
من جانبه يقول أبو هريرة: في اليوم الأخير، وبعدما أخذنا كل مواقع الجيش الحر تقريبا، إلا موقعا أو موقعين في البوكمال، طلب الجيش الحر مهلة ليسلم سلاحه. أنا ومن معي كنا ضد هذا، لكن قادة داعش ارتكبوا نفس الأخطاء السابقة حين وثقوا في مبادرة الجيش الحر.. فأعطوه المهلة، لكن بعدها بساعتين هربوا. وصدرت لنا الأوامر بأن نعود إلى العراق لدعم إخواننا من جنود الدولة (داعش) في معركة أخرى في حديثة كانت قد وقعت هناك وشهدت مجازر نجونا منها بفضل الله. ومن وراء ألسنة الدخان ظهر أبو شعيب ومجموعته مجددا.
هذه لم تكن المرة الأولى التي يشترك فيها أبو هريرة وأبو شعيب في معارك حديثة، وهي بلدة تقع غرب منطقة الأنبار. لكن الفرق هذه المرة هو أن قوات التحالف الدولي كانت تقصف مواقع داعش بالطيران صباح مساء.. وعلى الأرض تجري عمليات الكر والفر، بين قوات داعش من جانب، والجيش العراقي وحلفائه من الصحوات والحشد الشعبي من جانب آخر.. يقول أبو شعيب: «نهاجم حتى نقترب من السيطرة على المدينة ثم نضطر للتراجع تحت قصف القوات المتمركزة فيها والتي كان يصلها المدد يوما بيوم من قيادة عمليات الأنبار ومن قوات الفرقة السابعة».
خلال الأيام التي لا يكون فيها قتال، كان أبو هريرة يجتمع في محاضرات بالمعسكرات مع مقاتلين آخرين.. «هنا تستطيع أن تعثر على كتب البنعلي وفقهاء آخرين في كل مكان. كانت لنا مطابع حصلنا عليها من المدن التي دخلناها. هذه الكتب غير موجودة على الإنترنت، ربما لأن قادة التنظيم لا يريدونها أن تقع في أيدي شيوخ آخرين حتى لا ينقدوها أو يعرفوا ما فيها من تعليمات عن التعامل مع الكفار والمرتدين وغيرها».
ومرة أخرى يعود الجدل، أكثر حدة من السابق، حول توجهات التنظيم وخطوطه العامة وعلاقاته بـ«القاعدة» والنصرة ومقاتلة العشائر و«المرتدين».. حدث هذا حين جرى تأجيل اقتحام حديثة، وتوجيه دفة المعارك إلى جبهات أخرى أكثر أهمية.. وهنا يقول أبو هريرة: «سألت عن مصير شيخنا الذي سبق وأخبرتك أنه جرى سجنه في مبنى السفارة في الرِّقة.. لكن لم أتمكن من معرفة ما جرى له إلا بعد عدة أسابيع».
يضيف أبو شعيب أن قادة داعش ومساعدي البنعلي كانوا يردون على تشعب الحديث بين المقاتلين عن التكفير وحدود القتل وغموض توجهات التنظيم، بتوزيع مزيد من المطويات والكتيبات، مع التنبيه على ضرورة الالتزام بما فيها.. «من أجل النصر على العدو. ضغوط رهيبة لمنع طرح الأسئلة، وأخيرا أعادوني مع مجموعتي مجددا، إلى سوريا بسبب اندلاع معارك جديدة هناك، قرب دير الزور. وشارك في هذه المعارك أيضا أبو هريرة والتونسيين الثلاثة».. «كنا بضع عشرات معنا 23 سيارة ومدرعة وخمسون مدفعا والكثير من القذائف الصاروخية، إضافة إلى أسلحتنا الشخصية».
قبل الانطلاق إلى دير الزور استقبل هذه المجموعة القتالية، والي الأنبار وعضو المجلس العسكري ومجلس الشورى في داعش، ويدعى أبو أيمن العراقي الذي يقال: إنه قتل فيما بعد في الغارات الحربية. يتذكر أبو شعيب قائلا: فهمت من حديثه أن هناك قلقا بين قادة التنظيم من أفكارنا وأفكار مجموعات أخرى مماثلة لنا، ولهذا أخذ يبرر لماذا كنا نحارب النصرة والجيش الحر، ثم لماذا دخلنا معهما في هدنة، ولماذا عدنا للحرب معهما من جديد.
لقد قُتل منا كثير من الليبيين والجزائريين والتونسيين وغيرهم. والآن يقول أبو أيمن، بكل بساطة، إن تأثير الذين يطرحون مثل هذه الأسئلة لا يختلفون عن أعداء دولة الخلافة.. فخذوا حذركم ولا تتأثروا بدعايات الصحوات والمرتدين. وماذا عن قضية الغنائم التي طرحها الإخوة في جلسة مناظرة الدانا؟ لا مجيب.
ويضيف أحد التونسيين «بعد أن مشينا عدة كيلومترات بجوار نهر الفرات، وعند وصولنا إلى دير الزور مع الفجر، وجدنا أبو أيمن قد سبقنا إلى هناك، وطلب الاجتماع بنا». ومن جانبه يوضح أبو هريرة قائلا: اجتمع بنا، وقال لنا بالحرف، وكانت لهجته مخيفة ومرعبة، إن من يقول بكفر العاذر سأرميه بطلقة في رأسه وأرميه في القمامة.. ومن يُكفِّر الظواهري سأرميه بطلقة في رأسه وأرميه في القمامة.. وإذا أحدٌ كفَّر أحدًا من الدولة (أي من داعش) سأرميه بطلقة في رأسه وأرميه في القمامة.. وإذا وجدت أحدًا يسمع لما يقوله الحازمي (أحد الدعاة ممن ارتبط اسمه بالجدل حول تكفير العاذر) في خطبه سأسجنه وأعاقبه وأرميه بطلقة وأرميه في القمامة».
ويشير أبو شعيب إلى جانب آخر من القصة، ويقول إنه «في الحقيقة، اكتشفت فيما بعد أن تعليمات الوالي أبو أيمن كانت جزءًا من الاستعداد للحرب على عشيرة الشعيطات التي لها قرى في الريف الشرقي لدير الزور».
في البداية قال: إن الشعيطات كفار، ثم في محاضرات اليوم التالي قال: إنهم مرتدون». بينما يوضح أبو هريرة أنه خلال درس الوالي «تذكرت شيخنا الذي تركناه في مبنى السفارة في الرِّقة، لأنه كان قد شرح لنا الفرق الكبير بين الكافر والمرتد».
ويقول التونسي إنه طرح هو الآخر سؤالا للوالي، حول هذا الأمر، وزاد قائلا له إن الشعيطات ينطقون الشهادة ويرفعون الأذان ويصلون في مساجدهم ويحاربون بشار الأسد، فأجاب أنهم يقاتلون الدولة (داعش)، ولذلك وجب التعامل معهم كمرتدين.
يبدو الهدف من الحرب مع الشعيطات مشوشا في ذهن أبو هريرة منذ بدايتها حتى اليوم وهو يروي تجربته. كان العام الجديد قد بدأ والرياح تهب على دير الزور من الشمال بينما السماء خالية من السحب. وبعد ذلك بعدة أيام انصرف مساعد الوالي، وترك المقاتلين هناك قرب تخوم الشعيطات، وأرسل بدلا منه مندوبا آخر يحل محله. وعرف من هذا المندوب، وهو عراقي يكنى أبو حمزة، أن شيخ المجموعة الغائب قد جرى نقله من مقر السفارة بـ«الرِّقة» إلى سجن في المدينة نفسها، تمهيدا لعرضه على المحكمة الشرعية.
يواصل أبو شعيب: لم يمهلنا الشعيطات للتفكير فيما يحدث أو إيجاد تفسير لزج التنظيم الذي نقاتل معه، بشيخنا في السجن.. هجم علينا عدد من أبناء الشعيطات بمجرد اقترابنا من تخومهم.. «فصرنا نقتل كل من نجده منهم في طريقنا. في البداية قاتلناهم على أساس أنهم كفار، ما اختلفنا، لكن بعد ذلك نقل لنا المندوب أبو حمزة تفسيرا من الدولة يقول إن السبب في قتالهم هو لأنهم يحاربون الدولة.. بينما نحن كنا نقول هم كفار. هناك فرق».
بعد ذلك جاء مدد.. مقاتلون وأسلحة وسيارات. وجاء مندوبون آخرون للدولة من قادة الدولة ومن الوالي.. «صاروا يقولون لنا إن الشعيطات مرتدون.. قلنا لهم لماذا؟ فقالوا لأنهم قاتلوا الدولة. قلنا إذن ليسوا كفارا وبالتالي المسألة لا تتساوى، لكن لم يكن هناك أحد ليشرح أو يجيب أو يعطي إفادة ناجعة».
وكان قد سقط في هذه المعارك المئات من أبناء الشعيطات بين قتيل وأسير. لكن أبو حمزة، وبعد كل هذا، كما يقول أبو شعيب أمر بالاحتفاظ بمن نأسره من أولاد الشعيطات، حيا، ولا نقتله. جمعهم في المؤخرة، وعرض عليهم الاستتابة ومبايعة الدولة والحرب في صفوفها. من يوافق يجري نقله للتدريب في المعسكرات في الأنبار، ومن يرفض يُقتل.
يقول أبو هريرة إنه بعد هذه الوقائع قرر التوقف عن الاشتراك في العمليات القتالية. وكذلك فعل أبو شعيب وعدد آخر من المجموعات لا سيما تلك التي ينخرط فيها ليبيون وتونسيون وجزائريون.
وأخذ ينأى بنفسه عن التواجد في المعسكرات، خاصة أنه كان في الأسابيع السابقة يتردد على مقار «معهد تخريج الشرعيين للدولة (داعش)»، التي كان يديرها في السابق رجل شهير بين المقاتلين العرب والأجانب، يدعى عثمان، وهو قيادي ومفتي في التنظيم، ويعتقد أنه قتل في غارة جوية في مدينة عين العرب في وقت سابق عن تلك الأيام.
كان مقر المعهد الشرعي الذي توجه إليه أبو هريرة يقع في مدينة الرقة. يقول: «اعتزلت القتال، وصرت أبحث في أمور ديني. كنت أشك بكفر الدولة (داعش) لكنني لم أكن متيقنا من ذلك. كنت أعلم بحربها على الموحدين، وهذا أمر يخالف الدين.. أدركت أنني تورطت معها في أعمال لا ترضي الله». لكن رحلة الخروج من داعش لم تكن سهلة.
أما أبو شعيب فقد توصل إلى قناعات مماثلة، بل بدأ في إعادة قراءة الحالة التي أصبح عليها مع داعش. وخرجت أفكاره مغايرة مقارنة بالمرة الأولى التي التحق فيها بهذا التنظيم عند اجتياحه للأراضي السورية.
يقول، وقد بدا أنه يتحول إلى فقيه يبحث لنفسه عن طريق جديد، إن «الدنيا تغيرت أمام عينيه.. يرى دنيا جديدة». وبعد أن يؤكد على تفاصيل تخص قضية العقيدة و«الانقياد والتسليم والخضوع والذل والانكسار بين يدي الله عز وجل»، يتطرق مرة أخرى إلى تنظيم داعش الذي كان أحد مقاتليه ودعاته، قائلا إن داعش «جعلت لنفسها وجماعتها الحق المطلق لرعاية القتال وجعلت هذا أصلاً مطردًا، بل كفرت من خالفها فيه، والعجب كل العجب بأنها لم تكفر من خالفها فيما تعتقده وتزعم أنها تنظر له ألا وهو حقيقة التوحيد».
وبعد هجره للتنظيم.. وبعد تأمل وقراءة يبدأ أبو شعيب في نقض معتقدات داعش وهو يدعو لأفرادها بـ«الهداية»، قائلا: «سنبدأ إن شاء الله في نقض معتقد هذه الجماعة التي أسأل الله أن ييسر لأفرادها الهداية، وأن يعلموا أنهم على باطل وإن زعموا أنهم يقاتلون، فالقتال ليس هو ميزان لمعرفة الحق من الباطل.. وكما أنه لا يستدل بالفرع على صحة الأصل.. أيضا لا يمكن أن يستدل بالقتال على صحة التوحيد. هذا ما يجب أن يكون واضحًا عند هذه الجماعة التي لا هم لها إلا القتال».
ويضيف أن جماعة داعش «تعتقد أن الإسلام يكون بالكفر بالطاغوت والإيمان بالله، ومن ثمَّ نجدها تضطرب حينما تحكم لمن لم يأت بهذا الأصل، أو خالفه». ويقول إن هذا أمر عجيب. وهو هنا يشير إلى فتاوى سابقة منسوبة لتركي البنعلي، أحد كبار قيادات التنظيم وأحد كبار الداعين لانضمام الشباب له من أصقاع العالم.
ويضيف: هذه الجماعة بدأت تعادي عداء واضحًا من أنكر عليهم، أو أنقض شيئا، ولو أنه لا يمس المعتقد، وذلك مثلما حدث معي، مشيرا في هذه الواقعة إلى جلسة المناظرة بين قادة داعشيين حول تطبيق الحدود وتقسيم الغنائم. كانت تلك الجلسة بحسب أبو شعيب السوري، في مدينة الدانا، التابعة لمحافظة إدلب.
كان من بين الكوادر والقيادات والقضاة الحضور أبو عبد الله الليبي، وأبو المقداد الليبي، وأبو جهاد الشيشاني، وأبو البراء المدني، وأبو شعيب المصري وأبو الأثير وأبو بكر القحطاني.
ويواصل قائلا إن جلسة المناظرة كانت في «تطبيق الحدود في ديار الكفر»، و«تقسيم الغنائم التي كانوا يأخذونها بحجة أنها لبيت مال المسلمين».. وعليه، وبناء على ما جرى في هذه المناظرة، سجنوا أبو شعيب المصري وأبو البراء المدني، لأنهما قالا حقًا، وأنهما رأيا الأخطاء.. ثم بدأ العصف والتنكيل بكل من جهر بانتقاد الدولة.
يتساءل أبو شعيب السوري في أسى: «هل على هذا يكون عمل من يدعي الدين والاستمساك به؟ هل هكذا يعامل من يرى عليك خطأ ويريد إصلاحه؟ أين الرجوع إلى الكتاب والسنة؟». ويعود أبو شعيب إلى جانب آخر يتعلق بتجربته مع داعش قائلا إن الأمر الآخر «الحكم بغير ما أنزل الله الذي تفشى فيهم».
ويشير إلى تجارب مريرة عاشها جنود التنظيم على أيدي الكثير من أمراء المعسكرات، خاصة أن بعض محاكم داعش كانت تعمل جنبا إلى جنب مع محاكم نظام بشار الأسد، إلى جانب تزايد الخلافات الفقهية إلى درجة وقوع الاشتباكات في الحواجز وعلى الطرق، في شرق سوريا، كما حدث مع مجموعة شباب من داعش ينتمون لمدينة بن قردان التونسية، ما أدى إلى ابتعادهم عن تعليمات قادة التنظيم والعمل كمجموعة منفصلة.
ويتحدث أبو شعيب عن الكثير من الوقائع الأخرى من بينها اشتباكات بين عناصر داعش، وصلت إلى حد رفع الأسلحة على بعضهم بعضا، بعد خلافات فقهية حول ما إذا كان الرئيس المصري الأسبق مرسي يستحق وصفه بالطاغوت أم لا.. «سحب أحدهم بندقيته وأراد إطلاق النار على خصمه في المجادلة».
وأخذ أبو شعيب على داعش اشتراكها في القضاء مع فصائل أخرى، دون سند من الفقه أو الشريعة، قائلا إن هذا «دليل على أن القوم يميلون إلى القتال وكسب الناس ولو على حساب العقيدة.. يعني الذي ترى فيه مصلحة تفعله وإن كان فيه مخالفة للمعتقد».
ويضرب مثلا بواقعة جرت أثناء وجوده في صفوف داعش تتعلق بقبر جد العثمانيين، سليمان شاه، الموجود في شمال سوريا، قرب الحدود مع تركيا. يقول إن وفدا رفيع المستوى دخل لزيارة قبر سليمان شاه في مدينة تل أبيض، وهي مدينة تحت سيطرة الدولة (داعش) ويرى جنود التنظيم ذلك فلا يحركون ساكنًا، بذريعة السمع والطاعة في الشرك.. يدخل الجنود ويخرجون للتناوب على حراسة هذا الضريح، ويقول لك قادة التنظيم إنهم يفعلون هذا، رغم مخالفته للشرع، لأنهم لا يريدون أن تقوم تركيا بغلق الحدود أمام عناصر التنظيم.
وينتقل أبو شعيب إلى جانب آخر يبدو أنه قاسم مشترك لدى الشبان الذين نفضوا أيديهم من داعش. ويقول: بل العجب الذي لاحظته في الدولة تنوع العقائد.. هناك من يكفِّر الجيش الحر، وهناك من لا يكفره، بل كان يقاتل معه وينافح ويدافع عنه من أمثال المسؤول عن المخيمات الدعوية لداعش.. بل بعضهم يزور الجيش الحر ويبقى عنده، والأمر الآخر يقبضون على الدروز، ثم يطلقون سراحهم ولا تفهم كيف ولماذا؟ كذلك قادة داعش لا يحاكمون أمراء التنظيم إطلاقا.. تجدهم بسيارات فارهة ولديهم أفضل الأسلحة، وإن أخطأوا لا يحاكمونهم، ولا يحرضون الجنود على القتال للتخلص منهم مثلما يحدث ضد من هم ليسوا في مرتبة أمراء المناطق. كما أنهم لا يدخلون المعارك، لأنهم أمراء في داعش.
ويواصل أبو شعيب موضحا أن التنظيم ناصب عددا من جنود وفقهاء شجعان من داعش العداء لا لشيء إلا لأنهم قالوا الصدق في وجه القادة الكبار. هؤلاء جهروا بالأسئلة والانتقادات، فكان مصيرهم إما القتل أو الأسر، وأذكر منهم أبو البراء المدني، وأبو عمر الكويتي، وأبو الحوراء الجزائري، وأبو جعفر الحطاب التونسي، وأبو قسورة التونسي، وأبو عبيدة التونسي، وأبو مصعب التونسي، وأبو نعيم التونسي، وأبو القعقاع الشامي، وأبو يزيد الحموي، وأبو معاوية الحموي، وأبو عمر الحموي، وأبو معاوية النصاري.



السوريون يحتفون بذكرى عودة سوريا وهروب الأسد


سوريون يلوحون بأعلام بلدهم وهم يشاركون في الاحتفالات بسقوط نظام بشار الأسد في دمشق أمس (أ.ب)
سوريون يلوحون بأعلام بلدهم وهم يشاركون في الاحتفالات بسقوط نظام بشار الأسد في دمشق أمس (أ.ب)
TT

السوريون يحتفون بذكرى عودة سوريا وهروب الأسد


سوريون يلوحون بأعلام بلدهم وهم يشاركون في الاحتفالات بسقوط نظام بشار الأسد في دمشق أمس (أ.ب)
سوريون يلوحون بأعلام بلدهم وهم يشاركون في الاحتفالات بسقوط نظام بشار الأسد في دمشق أمس (أ.ب)

تعيش دمشق، في الذكرى الأولى لـ«التحرير» التي تصادف اليوم، لحظات احتفاء بعودة السوريين إلى بلادهم، وانهيار النظام السابق وهروب رئيسه بشار الأسد.

في العاصمة التي بدت كأنها في «وقفة عيد»، تتداخل بهجة بـ«حق العودة» مع ثقل الذاكرة، فيما تعكس الشوارع ملامح هوية جديدة حلّت محل رموز «الحقبة السوداء»، وصهرت مقاتلي الفصائل في أجهزة الدولة الناشئة، وامتصت جانباً من قلق الدمشقيين تجاه مستقبلهم.

وخلف الزينة والزحام والفنادق المكتظة والعائدين بعد سنوات منفى، ثمة غصة حاضرة لدى أهالي المغيبين وسكان المناطق المدمرة. رغم ذلك، استعاد الناس جرأة النقاش العلني، كأن «الجدران لم تعد لها آذان»، في تعبير عن شعور عام باسترداد القرار الفردي والحق في العودة.

هذا التحول لم يلغِ ذكرى الليلة العصيبة التي أعقبت هروب الأسد في 8 ديسمبر (كانون الأول) 2024، حين وقفت دمشق على حافة الفوضى؛ فقد انهارت المؤسسات الأمنية، واندفعت مجموعات مسلحة لنهب مقرات حساسة، بينما ترك عناصر النظام بزاتهم في الشوارع.

ومع ذلك، نجحت أحياء مثل الجسر الأبيض وباب توما والقصاع في حماية نفسها عبر لجان أهلية ارتجالية ضمت أطباء وطلاباً وتجاراً. وبفضل هذه المبادرات، أوقف أكثر من 200 لص، وأحبطت محاولات اعتداء ذات طابع طائفي، في لحظة كشفت قدرة الناس على منع الانزلاق.

وفي طهران، تبرز اليوم روايات متناقضة حول انهيار «خيمة المقاومة»، وفقدان إيران عمودها السوري بين خطاب المرشد عن «مؤامرة خارجية»، ورؤية «الحرس الثوري» لسوريا بوصفها «المحافظة الخامسة والثلاثين»، ودفاع الدبلوماسية، واتهامات برلمانيين بهدر عشرات المليارات. وتتوالى الأسئلة حول التكلفة والخسارة، وفيما إذا تستطيع طهران خوض مغامرة جديدة في سوريا بعدما انهار الرهان السابق.


4 روايات إيرانية عن انهيار «خيمة المقاومة»

الجنرال قاسم سليماني يجري مكالمة هاتفية قرب قلعة حلب التاريخية شتاء 2016 (فارس)
الجنرال قاسم سليماني يجري مكالمة هاتفية قرب قلعة حلب التاريخية شتاء 2016 (فارس)
TT

4 روايات إيرانية عن انهيار «خيمة المقاومة»

الجنرال قاسم سليماني يجري مكالمة هاتفية قرب قلعة حلب التاريخية شتاء 2016 (فارس)
الجنرال قاسم سليماني يجري مكالمة هاتفية قرب قلعة حلب التاريخية شتاء 2016 (فارس)

192 يوماً فصلت بين اللقاء الأخير الذي جمع المرشد الإيراني علي خامنئي بالرئيس السوري المخلوع بشار الأسد في طهران، وسقوط النظام السابق بيد المعارضة. هذا الفاصل الزمني لم يكن تفصيلاً عابراً في روزنامة الحرب السورية، بل تحول إلى مرآة حادة داخل طهران عكست حجم الرهان الذي وضعته القيادة الإيرانية على شخص الأسد، وكشفت عن حدود قدرتها على استشراف مسار الصراع وتحولات ميزان القوى في الإقليم.

في ذلك اللقاء، قدم خامنئي خلاصة «عقيدته» السورية على ضوء المستجدات في ساحات «محور المقاومة». فـسوريا، في نظره، ليست دولة عادية، بل صاحبة «مكانة خاصة»؛ لأن هويتها - كما رأى - تتشكل من دورها في هذا المحور.

ولأن «المقاومة هي الهوية المميزة لسوريا وينبغي الحفاظ على هذه السمة»، خاطب خامنئي الأسد بوصفه شريكاً في هذه الهوية لا مجرد حليف سياسي، وأثنى على عبارتيه: «كلفة المقاومة أقل من كلفة المساومة»، و«كلما تراجعنا تقدم الطرف المقابل». هكذا ثبّت خامنئي رهانه الكامل والمتأخر في الوقت نفسه على بقاء النظام، في لحظة كانت مؤشرات الانهيار فيها تتراكم بوضوح في الميدان، كما أقر بذلك لاحقاً بعض المسؤولين الإيرانيين.

بعد أقل من سبعة أشهر، كان النظام قد سقط، لكن سقوط نظام بشار الأسد لم ينتج رواية إيرانية واحدة، بل عدة روايات متوازية: رواية المرشد، ورواية «الحرس الثوري»، ورواية جهاز السياسة الخارجية، إلى جانب أصوات من داخل النظام نفسه عادت إلى الواجهة لتطرح أسئلة صريحة عن كلفة المغامرة الإيرانية في سوريا.

في أول خطاب له بعد سقوط الأسد، قدم خامنئي تفسيراً حاداً لما جرى، عارضاً الحدث بوصفه «نتاج مخطط مشترك أميركي - صهيوني» بمساندة بعض الدول المجاورة. وتحدث عن عوامل - قال إنها منعت طهران من تقديم المساندة المطلوبة - من بينها الضربات الإسرائيلية والأميركية على الأراضي السورية، وإغلاق الممرات الجوية والبرية أمام الإمداد الإيراني، ثم خلص إلى أن الخلل الحاسم وقع داخل سوريا نفسها، حين ضعفت «روح المقاومة» في مؤسساتها. وشدد على أن سقوط النظام لا يعني سقوط فكرة «المقاومة»، متوقعاً أن «ينهض الشباب السوري الغيور» يوماً ما لإعادة إنتاجها بصيغة جديدة.

هذه الرواية تنفي عملياً مفهوم «الهزيمة الاستراتيجية»؛ فما جرى بالنسبة لخامنئي، ليس نهاية المعركة، بل مرحلة قاسية في مسار أطول، ولذلك يصر على أن «الوضع لن يبقى على حاله».

رواية «الحرس الثوري»

في المقابل، بدا «الحرس الثوري» أقرب إلى لغة الأمن القومي منه إلى لغة العقيدة الخالصة، وإن استعان بالقاموس الآيديولوجي نفسه. في فبراير (شباط) 2013، صاغ مهدي طائب، رئيس «مقر عمار» المكلَّف بـ«الحرب الناعمة»، المعادلة بأوضح ما يكون: «سوريا هي بالنسبة لنا المحافظة الخامسة والثلاثون، وهي ذات أهمية استراتيجية. وإذا شنّ العدو هجوماً وحاول الاستيلاء على سوريا أو خوزستان (الأحواز)، فإن الأولوية لدينا ستكون الإبقاء على سوريا».

بهذه الجملة الصادمة داخلياً، رُفعت سوريا عملياً إلى مرتبة جزء من الجغرافيا الأمنية الإيرانية، يتقدّم أحياناً على أجزاء من التراب الإيراني نفسه.

وكان اللواء قاسم سليماني، القائد السابق لـ«فيلق القدس»، هو المهندس الميداني لهذه المقاربة: مواجهة التهديدات خارج الحدود، عبر بناء شبكات من الميليشيات المتعددة الجنسية، وتحويل «حماية العتبات والأماكن المقدسة» إلى شعار تعبوي يغطي في آن واحد الدوافع الآيديولوجية وحسابات الأمن القومي.

وفي خطاب الذكرى الخامسة لمقتل سليماني، بعد أقل من شهر على سقوط الأسد، أعاد خامنئي تثبيت هذه المدرسة؛ فربط بين حماية العتبات في دمشق والعراق وبين حماية «إيران بوصفها حرماً» نفسها، في محاولة لتوحيد كل هذه الساحات ضمن إطار واحد: صراع أمني - مذهبي عابر للحدود.

بعد سقوط النظام السوري، حافظت هذه الرواية على جوهرها: النجاح أو الفشل لا يُقاس بهوية من يجلس في قصر الشعب في دمشق، بل بما إذا كانت شبكات النفوذ التي نسجها الحرس ما زالت قابلة للحياة، وبما إذا كان «العمق السوري» ما زال مفتوحاً أمام النفاذ الإيراني. الانسحاب الكامل من سوريا يعني، وفق هذا المنطق، الاعتراف بأن «المحافظة الخامسة والثلاثين» سقطت من الخريطة؛ لذلك سيظل «الحرس» يبحث عن طرق لإبقاء موطئ قدم (مهما كان ضيقاً) في الجغرافيا السورية.

شيباني يلتقي عراقجي بعد تعيينه مبعوثاً خاصاً بسوريا بعد شهر من الإطاحة بالأسد يناير 2025 (الخارجية الإيرانية)

رواية الجهاز الدبلوماسي

حاول جهاز السياسة الخارجية تقديم قصة أكثر نعومة للداخل والخارج. قبل السقوط بأسابيع، أوفد خامنئي مستشاره الخاص علي لاريجاني إلى دمشق وبيروت، حاملاً رسائل سياسية تطمينية إلى بشار الأسد وحلفاء آخرين. تحدث لاريجاني علناً عن أن ما يجري في سوريا ولبنان «يتصل مباشرة بالأمن القومي الإيراني»، وكأن طهران ما زالت قادرة على ضبط التوازنات.

بعده بأيام، زار وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي دمشق قبل ستة أيام فقط من الانهيار، واختار أن يلتقط صورة وهو يتناول الشاورما في أحد مطاعم العاصمة، في إشارة مقصودة إلى أن «الوضع طبيعي»، وأن الحديث عن انهيار وشيك جزء من «الحرب النفسية». كان ذلك ذروة الفجوة بين الصورة التي تحاول الدبلوماسية تسويقها والواقع المتفكك على الأرض.

بعد السقوط، لجأت الخارجية إلى صيغة دفاعية مألوفة: إيران «استجابت لطلب حكومة حليفة، وقدّمت المشورة والدعم»، لكنها «لا تستطيع أن تقرر نيابة عن الشعوب». هكذا خففت مسؤولية القرار عن كاهل الدبلوماسية، وأُحيل الجزء الأكبر من الفشل إلى الداخل السوري و«التآمر الخارجي» الذي يتكرر في خطابات خامنئي. هذه الرواية تكشف عن قراءة تعد سوريا ملفاً من بين ملفات، لا ساحة وجودية كتلك التي يراها «الحرس الثوري» والمرشد.

من الناحية الجيوسياسية، كانت سوريا بالنسبة لطهران أكثر من حليف؛ كانت ممراً إلى لبنان وفلسطين، وساحة اشتباك مع إسرائيل، وخط دفاع متقدماً في مواجهة الولايات المتحدة. وتلخص عبارة مهدي طائب في 2013 - «إذا اضطررنا للاختيار فإن الأولوية تكون لحماية سوريا قبل خوزستان» - هذه العقيدة بوضوح.

اليوم، مع سقوط النظام الذي ارتبط بهذه العقيدة، تواجه إيران فراغاً في عمقها الإقليمي لا يمكن ملؤه بالشعارات وحدها. وهنا يصبح السؤال المركزي: كيف تتصرف طهران بعد أن فقدت النسخة التي صاغتها لنفسها من «خيمة المقاومة» في دمشق؟ الإجابة لا تأتي من خطاب واحد، بل من موازنة بين دوافع آيديولوجية راسخة، وقيود اقتصادية خانقة، وموازين قوى ميدانية لم تعد تميل لها كما في السابق.

ملصق نشره موقع المرشد الإيراني بعد آخر زيارة للأسد إلى طهران بينما كانت دمشق تتعرض إلى انتقادات بسبب تخليها عن «حزب الله»

رواية «الحساب المفتوح»

الرواية الرابعة جاءت من حيث لا يُفترض أن تأتي: من داخل المؤسسة نفسها؛ إذ خرج للمرة الأولى، من قلب البنية الرسمية توصيف شبه علني بأن العائد الاقتصادي من المغامرة السورية يكاد يكون معدوماً، وأن «الاستثمار» السياسي والأمني انتهى إلى ما يشبه الخسارة الصافية.

في مايو (أيار) 2020، قال حشمت الله فلاحت‌بيشه، الرئيس السابق للجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية في البرلمان، إن إيران أنفقت «بين 20 و30 مليار دولار» في سوريا، وإن «هذا مال الشعب ويجب استرداده».

بعد خمس سنوات، عاد فلاحت‌بيشه ليطلق اتهاماً أكثر مرارة: ديون سوريا لإيران - كما قال - سُويت عملياً عبر «أراضٍ بلا نفط، ومزارع أبقار بلا أبقار، ووعود فارغة».

هذا الصوت ليس استثناءً. على مدى عقد، ربطت شعارات الاحتجاجات الداخلية بين «غزة ولبنان وسوريا»، والخبز والوقود في المدن الإيرانية. ومع سقوط الأسد، صار من الأسهل على المنتقدين القول إن النظام أنفق عشرات المليارات، ودفع كلفة بشرية ملموسة بين مقاتليه وحلفائه، لينتهي إلى نفوذ شبه معدوم تقريباً في دمشق.

بالنسبة لصانع القرار، تتحول هذه الرواية إلى عامل ضغط داخلي ضد أي قرار بالعودة إلى سوريا بالحجم نفسه الذي كان عليه التدخل السابق.

عند جمع هذه الروايات المتوازية، يتضح التناقض الجوهري في المقاربة الإيرانية بعد سقوط الأسد: المرشد و«الحرس» لا يعترفان بأن إيران «خسرت سوريا»، بل يتعاملان مع ما جرى كمرحلة عابرة في مسار صراع أطول، ويصران على أن «جبهة المقاومة» قادرة على إعادة إنتاج نفسها، وأن سوريا ستعود، بطريقة ما، إلى هذا المدار. في المقابل، تكشف رواية الدبلوماسية الرسمية ورواية «الحساب المفتوح» عن إدراك ضمني بأن نموذج التدخل الذي طبق خلال العقد الماضي لم يعد قابلاً للاستمرار بصيغته السابقة، لا سياسياً ولا مالياً.

قائد «الحرس الثوري» يقدم إفادة لنواب البرلمان حول سقوط نظام بشار الأسد وخروج القوات الإيرانية يناير 2025 (موقع البرلمان)

السيناريوهات: هل تعيد طهران دمشق للمحور؟

في ضوء ما سبق، يمكن رسم أربعة سيناريوهات رئيسية، ليست متنافية بالضرورة، بل يمكن أن تتداخل زمنياً وجغرافياً.

السيناريو الأول هو «العودة عبر الوكلاء». وهو الأقرب إلى منطق «الحرس الثوري» ومدرسة سليماني. هنا تحاول طهران إعادة بناء نفوذها في سوريا من أسفل، عبر شبكات محلية مسلّحة كانت نواتها موجودة أصلاً، أو عبر تجنيد مجموعات جديدة تحت شعارات مذهبية أو آيديولوجية. الهدف ليس استعادة نظام شبيه بالأسد، بل تكوين قوة ضغط دائمة على أي سلطة قائمة في دمشق، وأداة استخدام ضد الخصوم الإقليميين. نجاح هذا السيناريو يتوقف على عاملين خارج السيطرة الكاملة لإيران: مآل معادلة الحكم في دمشق، واستعداد المجتمع السوري لتحمل دورة عنف جديدة أياً كان اسمها.

السيناريو الثاني هو «التموضع الإقليمي من دون سوريا». وفق هذا المسار، تقبل طهران ضمناً بأن دمشق لم تعد محور ارتكاز لنفوذها كما كانت، فتُعيد توزيع مواردها على الساحات الأربع التي ما زالت تمسك ببعض خيوطها فيها، رغم تراجع دورها النسبي: لبنان، العراق، اليمن، وغزة. تتحول سوريا هنا إلى ساحة استنزاف ثانوية، يقتصر الدور الإيراني فيها على منع الخصوم من تحويلها إلى منصة تهديد مباشر، من دون الدخول في مشروع جديد لإعادة هندسة النظام السياسي.

وينسجم هذا المسار مع ضغوط الكلفة المالية والبشرية التي راكمها التدخل خلال العقد الماضي، لكنه يصطدم بحقيقتين أساسيتين: حاجة «حزب الله» إلى سوريا بوصفها ممراً لوجيستياً، واستمرار خطاب خامنئي في التعامل معها على أنها عنصر بنيوي في «جبهة المقاومة».

السيناريو الثالث هو «التسوية الرمادية». هنا لا تسعى إيران إلى فرض عودة صاخبة، بل إلى تسلل محسوب عبر اتفاقات موضعية مع القوى المسيطرة على مناطق مختلفة من سوريا، وعبر مشاريع اقتصادية أو أمنية محدودة. الخطابات التي يتحدث فيها خامنئي عن أن «الأيام لا تبقى على حالها»، وأن «الشباب السوري سيعيد التوازن» يمكن قراءتها كتهيئة لعودة تدريجية وغير صدامية، تتيح لطهران القول إنها ما زالت «حاضرة» من دون أن تتحمل كلفة الرهان على نظام واحد كما فعلت مع الأسد.

السيناريو الرابع هو «مأسسة الخسارة». في هذا المسار، تتعامل طهران مع فقدان سوريا على أنه أمر واقع، من دون محاولة جدية لاستعادة نفوذ ميداني، لكنها تحوله إلى ملف داخلي - عقائدي أكثر منه جيوسياسي، خصوصاً في ضوء السردية التي تبنتها بعد الحرب الـ12 يوماً مع إسرائيل في يونيو (حزيران) 2025. تعاد تجربة سوريا وتؤطر ضمن خطاب «المؤامرة على جبهة المقاومة»، وتستخدم ذريعة لتشديد القبضة الأمنية، وتقييد النقاش حول كلفة التدخلات الخارجية، وتجريم الربط بين الإنفاق الإقليمي والأزمة المعيشية.

في المقابل، تبقي إيران على حضور رمزي منخفض في الملف السوري (لغة الشهداء، العتبات، حراك دبلوماسي شكلي)، فيما تطوى عملياً صفحة «المشروع السوري» بوصفه عمقاً استراتيجياً، من دون إعلان هزيمة صريحة، بل عبر تغليفها بلغة «الابتلاء والصمود»، ودفعها تدريجياً إلى هامش أجندة صنع القرار.

في كل هذه السيناريوهات تبقى حقيقة واحدة ثابتة: سوريا، التي نظر إليها يوماً على أنها أهم من «الأحواز» و«الهوية المميّزة للمقاومة»، لم تعد، في ميزان الواقع، ما كانت عليه قبل الثامن من ديسمبر (كانون الأول) 2024. يمكن للمرشد أن يراهن على الزمن، ولـ«الحرس» أن يفتش عن فتحات جديدة في الجغرافيا السورية، وللخارجية أن تلمّع لغة بياناتها، وللمنتقدين أن يتحدثوا عن «أراضٍ بلا نفط».

لكن السؤال المعلق فوق كل نقاش في طهران سيظل واحداً: هل تستطيع إيران أن تتحمل مغامرة ثانية بهذا الحجم في سوريا، بعد أن خرجت من الأولى وهي تحاول إقناع نفسها بأن «خيمة المقاومة» ما زالت قائمة، فيما عمودها السوري مكسور؟


كيف حمت دمشق نفسها ليلة هروب الأسد؟

لقطة جوية تُظهر رجلاً سورياً يلوّح بعَلم الاستقلال السوري في ساحة الأمويين بوسط دمشق (أ.ف.ب)
لقطة جوية تُظهر رجلاً سورياً يلوّح بعَلم الاستقلال السوري في ساحة الأمويين بوسط دمشق (أ.ف.ب)
TT

كيف حمت دمشق نفسها ليلة هروب الأسد؟

لقطة جوية تُظهر رجلاً سورياً يلوّح بعَلم الاستقلال السوري في ساحة الأمويين بوسط دمشق (أ.ف.ب)
لقطة جوية تُظهر رجلاً سورياً يلوّح بعَلم الاستقلال السوري في ساحة الأمويين بوسط دمشق (أ.ف.ب)

«في تلك الليلة لم يُكسر قفل محل واحد في حينا»، يقول وائل، طبيب في الأربعين من عمره، وهو يقف أمام عيادته الصغيرة في شارع بغداد وسط دمشق. يروي لحظة لن ينساها من يوم 8 ديسمبر (كانون الأول) 2024: «شاهدنا لصوصاً في طريقهم لاقتحام البنك المركزي في ساحة السبع بحرات. كنا بين صدمة وخوف وفرح، ثم أدركنا أن أحداً لن يحمينا... فبدأنا نحمي أحياءنا بأنفسنا».

كانت تلك الساعات الأولى بعد انهيار نظام بشار الأسد، حين عم الخوف وبات شبح الفوضى يخيم على المدينة. لكن دمشق، بطريقة ما، حمت نفسها.

نور الدين ترجمان، المعروف بـ«أبو جبريل»، أحد أبرز المتطوعين في لجنة حماية الجسر الأبيض والروضة القريبين من المقرات الأمنية والقصر الرئاسي، يتذكر ما حدث عند الثانية بعد منتصف الليل: «شاهدنا عناصر من النظام السابق يخلعون بزاتهم ويرمونها في حاويات القمامة قبل أن يفروا». بعد دقائق، وصلت مجموعات مسلحة على متن سيارات وشاحنات ودخلت المقر الأمني المعروف بـ«قسم الأربعين».

نهبوا كل شيء؛ السلاح، الحواسيب، الأقراص الصلبة، الوثائق، وحتى خزانات الوقود. لكن رغم موقع القسم وسط السوق التجارية والفوضى التي غمرتها، لم تُقتحم أي من المحال.

يقول أبو جبريل لـ«الشرق الأوسط»: «إن أطفالاً كانوا يلعبون بالسلاح والقذائف وسط إطلاق نار. الأهالي عاجزون عن التدخل. لكن عندما اندلع حريق داخل القسم، هرع الناس لإخماده خوفاً من انفجار أكبر». لم تهدأ المنطقة إلا مع وصول عناصر من «هيئة تحرير الشام» بعد الظهر.

حارس أمام علم في ساحة باب توما (رويترز)

قناص في «واتساب»

مع اتساع حوادث السرقة، خصوصاً السيارات، بدأ شباب الحي، وبينهم أطباء ومهندسون وأصحاب محلات وطلاب جامعيون، يتجمعون. يقول أبو جبريل: «بعد عشرين يوماً من سقوط النظام بدأ العمل ينتظم». وارتفع عدد المتطوعين من 75 إلى نحو 300. اشتروا أجهزة اتصال، وقسموا إلى مجموعات، وزودتهم السلطة الجديدة بقطعتي سلاح لكل مجموعة مع كلمة سر للتعريف.

واعتمدت اللجان على مجموعات «واتساب» للتواصل بين أفراد اللجان أنفسهم، وبين اللجان والأهالي. في بعض الأحياء تجاوز عدد المشتركين الآلاف. كانت المشاركة شخصية ومباشرة للإبلاغ عن تحركات مريبة، تصوير السلوكيات الخطرة، والمراقبة المستمرة.

ولا تخلو تلك المجموعات من خروقات، كما حصل لدى اكتشاف قناص من النظام السابق ضمن لجان الحماية نفسها.

القصاع وباب توما

في حي القصاع ذي الغالبية المسيحية، بقي الخوف من التجييش الطائفي حاضراً، خاصة بعد كتابة عبارات طائفية على جدار كنيسة القديس كيرلس. يوسف، أحد شبان «الفزعات» في باب توما والقصاع، يقول إن المتطوعين لعبوا دوراً حاسماً في احتواء الانفلات الأمني منذ اللحظة الأولى: «بدأت الفوضى عند الخامسة فجراً واستمرت حتى الثانية ظهراً. كانت المؤسسات الأمنية والحكومية تُنهب بالكامل، بعضها تعرض للحرق مثل مبنى الهجرة والجوازات في الزبلطاني». ويضيف: «رأيت أطفالاً يعرضون أسلحة للبيع ولصوصاً يسرقون السيارات».

أغلق شباب الحي الحارات بالسيارات حتى وصول «هيئة تحرير الشام» بعد الظهر. الخوف الأكبر كان من احتمال وقوع مجازر. يقول يوسف: «فجأة وجدنا أنفسنا أمام مسلحين (...) ذهبنا إليهم وطلبنا وضع حد للفوضى. وكانوا متعاونين».

وبحسب شهادة يوسف، فإن أعمال العنف لم تحدث بالمعنى المنظم في الأشهر الأولى، بل كانت هناك حوادث بالفعل واستفزازات، بسبب الخوف المسبق وسوء الفهم والجهل المتبادل بالآخر.

رفض أهالي الأحياء المسيحية تسلم السلاح من السلطة الجديدة خشية أن يجر ذلك إلى «خراب»، مفضلين الاعتماد على «الكثرة العددية» في حال حدوث طارئ، واللجوء إلى قوى الأمن لمواجهة الخطر عند الحاجة. وقد ساعد ذلك في إحباط هجوم مسلح والتصدي لسيارات رفعت شعارات طائفية.

سيدة سورية تُلوِّح بعلامة النصر حاملة باقة ورد في «ساحة الأمويين» بدمشق احتفالاً بإعلان إطاحة الأسد (أرشيفية - أ.ف.ب)

«أوقفنا 200 لص»

بعد عام على سقوط النظام، يقول سكان من الجسر الأبيض إن لجان المجتمع الأهلي التي تشكلت لعبت دوراً أساسياً في سد الفراغ الأمني إلى حد ما، خاصة في الأشهر الثلاثة الأولى، مشيرين إلى أن أكثر من 200 لص أُوقفوا في ذلك الحي وحده.

محمد الفقي يروي: «في تلك الأشهر عملنا في كل شيء؛ تنظيم السير، الحراسة، ملاحقة العصابات، الإسعاف، تأمين ذهاب الأطفال للمدارس. لم يكن هناك خيار آخر لحماية أهلنا».

ويضيف الفقي أن التحدي الأكبر كان غياب القدرة على التمييز بين رجال السلطة الحقيقيين ومنتحلي الصفة.

يضحك أبو جبريل وهو يستعيد ذكريات الأسبوع الأول: «كنا مجانين. نحمي الحي بلا سلاح ولا تدريب. تعرضنا لإطلاق نار مرات عدة، ومع ذلك واصلنا السهر كل ليلة على أمن الحارات».

هكذا، في تلك الليلة الرهيبة التي سقط فيها نظام بشار الأسد وعمت الفوضى، لم تنزلق دمشق إلى الهاوية التي خاف منها الجميع. وقام أهلها بحمايتها عبر ارتجال قرار جماعي.