بعد عقد ونصف من أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) خيل للكثيرين أن خطاب الكراهية الأصولي بدأ يتوارى عن الأنظار، ذلك الخطاب الذي دفع العالم في طريق الحروب، وكان أحد أهم إفرازاته، ظاهرة الإسلاموفوبيا في طبعتها الجديدة المستحدثة للقرن الحادي والعشرين.
غير أن سلسلة من الأحداث التي جرت وتجري بها المقادير مؤخرا في الولايات المتحدة الأميركية بنوع خاص، تدفعنا للقطع بالقول إن هناك من ينفخ في نيران الأصولية، عبر تصعيد المواجهة مع الإسلام والمسلمين، متخذين من أحداث الشرق الأوسط، وصراعاته، ومن ظواهر الإرهاب الأسود الداعشي والقاعدي، البعيدة كل البعد عن جذور الإسلام السمح والمعتدل، تكأة لتبرير المواجهات العقائدية في أثوابها المريرة، الأمر الذي يولد ولا شك لاحقا في قلوب وعقول البسطاء والعوام من المسلمين حول العالم ردود فعل أصولية، وليبقى العالم بين الفعل والرد عليه، في دائرة لا تنتهي ولا تفرغ من الانتقام والانتقام المضاد، ما يحيل حياة الناس إلى حروب ذهنية ومادية مستعرة صباح مساء كل يوم.
ما الذي دعا إلى إعادة فتح هذا الملف من جديد؟
الموضوعية تقتضي النظر إلى المشهد الأصولي عبر نظارتين معظمتين الأولى تتناول ما جرى بشكل خاص من قبل «داعش» ورجالاتها تجاه المسيحيين في المشرق، والثانية ترصد تصاعد العداوة للمسلمين في الولايات المتحدة الأميركية بنوع عام.
في الاتجاه الأول ذهبت الأصوليات الداعشية منقطعة الصلة بالحضارة الإسلامية الخلاقة التي شارك في صنعها المسيحيين العرب إلى هدم الكنائس وإحراقها، وتهجير المسيحيين وقتلهم وحرق بعضهم أحياء، في تكرار لسيناريوهات هولاكو، وبعيدا كل البعد عن زمن الخلافة الإسلامية الرشيدة، حين كان بلاط الخلفاء التنويريين يمتلئ بالمسيحيين العرب، فلاسفة، وأطباء، وصيادلة، ومهندسين إلى آخره، وقد كان لأفعال «داعش» المريرة وقع وصدى خطير في الغرب، وهم يشاهدون بشرا يذبحون على أساس عقائدهم الدينية، وقد وجد هناك ومن أسف شديد من استطاع تطويع المشهد البائس، ضمن دائرة الصراع الدوغمائي، بين الأديان وأتباعها، ولترسيخ جذور الإسلاموفوبيا البغيضة من جديد... هل أتاك حديث مديريات النقل في مدينة فيلادلفيا في جنوب ولاية بنسلفانيا الأميركية الأيام القليلة الماضية؟
في الأسبوع الأول من شهر أبريل (نيسان) الحالي، بدأت وسائل النقل في المدنية توزيع ملصقات على عدد منها تحمل إساءات واضحة، ومثيرة للكراهية، وتحث على استجلاب المشاكل مع المسلمين في المدن الأميركية.
بعض تلك الملصقات يقول: «إن كراهية المسلمين لليهود وردت في القرآن»، وتطالب الملصقات بوقف المساعدات الأميركية للدول الإسلامية العنصرية.
الإعلان ذاته يتلاعب بعقول الأميركيين عبر استحضار مشاهد من الماضي، تتمثل في لقاء مفتي فلسطين السابق أمين الحسيني مع الزعيم النازي أدولف هتلر، في محاولة للربط بين النازية من جهة والإسلاموية من جهة أخرى.
يجري هذا كله في ظل حكم من محكمة أميركية اعتبر أن المسألة على هذا النحو حرية رأي، وتعبير عن اتجاهات فكرية وذهنية تتصل بمؤسسة تعرف بـ«مبادرة الدفاع عن الحريات في أميركا».
هل هذه هي دائرة الأصوليات الجهنمية التي نتحدث عنها بين فعل داعشي وردود فعل لا تقل ضراوة عنها؟
يخشى المرء أن يعيد الماضي أحداثه الأليمة بصورة عصرانية، فالمخاوف المتبادلة من جراء الأصوليات المتصاعدة، تكاد تجعل من مسلمي أميركا اليوم صنوا لليابانيين غداة الحرب العالمية الثانية، مهما تشدق باراك أوباما بأن حربه وصراع بلاده مع الإرهابيين والأشرار، لا مع المسلمين والأخيار.
في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي كتبت عضو مجلس النواب الأميركي عن ولاية تكساس «مولي وايت» عبر صفحتها على «فيسبوك»، تعليقا قالت فيه إنها ستطالب المؤسسات الإسلامية بالإعلان عن التضامن العلني مع الولايات المتحدة لدى حضورهم لفعاليات يوم مخصص للمسلمين في مدينة أوستن.. ماذا يعني ذلك التعليق؟
دون مواراة أو مداراة يعني أن على هؤلاء المسلمين الأميركيين إثبات ولائهم ووطنيتهم للدولة الأميركية لا للعقيدة الإسلامية، في عودة واضحة للخلط بين الدين والدولة الأمر الذي فصله الدستور الأميركي جملة وتفصيلا فصلا كاملا.
هل هناك خطأ أصيل قائم في الذهنية الأميركية والأوروبية تجاه العرب والمسلمين، بعيدا عن استهداف «داعش» للكنائس والأديرة والطوائف المسيحية في الشرق الأوسط والعالم العربي التي عاشت أربعة عشر قرنا في قلب العالم الإسلامي مصونة وفي حماية المسلمين أنفسهم، ونادرا ما تعرضت لانتهاكات إلا من قبل متشددين لا يخلو منهم زمان ولا مكان؟.
مؤخرا كان موقع «غلوبال ريسرش» الرصين يعرض لأطروحة فكرية عالية المستوى عن العلاقة بين الغرب ومخاوفه من الإرهابيين، الذين يراهم أبدا ودوما مسلمين.. ما الذي تذهب إليه خلاصة القراءة؟
يؤكد التحليل على أن العرب والمسلمين هم المحاجر الرئيسية للاستشراق الأميركي، إذ يتم تصوير العرب والمسلمين، إما ضمنيا أو صراحة، كرعايا غير حضاريين وكذلك يرتبط الإرهاب بشدة بصور العرب والمسلمين في أذهان كثير من المواطنين الأميركيين.
في هذا السياق يفهم المرء لماذا التعميم الأميركي والأوروبي عندما يرتكب أحد العرب أو المسلمين جريمة فردية، بمعنى أن الذنب والتهمة ينسحبان على جميع العرب والمسلمين، حتى وإن كان الأمر بدرجات متفاوتة، ذلك لأن الخلفيات الاستشراقية المغلوطة، التي تحدث عنها طويلا الراحل الدكتور إدوارد سعيد لا تزال قابعة في زوايا الذهنية الغريبة عن العرب كإرهابيين وعن الإسلام كمحفز للإرهاب، الأمر الذي ينافي ويجافي وينسى أو يتناسى عمدا حقيقة أن المسلمين هم أكبر ضحايا الإرهاب.
هل بدأت عدوى الإسلاموفوبيا تصل إلى بلاد كانت في واقع الحال أكثر أريحية وبعيدة عن جدل الصراع الأصولي المرير؟
عن كندا بشكل خاص نتحدث، ذلك أن الهجوم الذي حدث على البرلمان الكندي في الثاني والعشرين من أكتوبر الماضي، دفع الحكومة الكندية نفسها وليس الأفراد إلى مزيد من التشدد كان المسلمين هناك من أوائل ضحاياه فكريا، فعلى سبيل المثال تحدث رئيس الوزراء «هاربر» عن أنه سيستأنف قرار المحكمة الاتحادية العليا التي سمحت للنساء بارتداء النقاب أثناء أداء اليمين ضمن مراسم الحصول على الجنسية، واختارها هاربر في حديثه عن هذا الأمر عبارات جعلت المسلمين يظهرون كأنهم يختلفون عن باقي الكنديين إذ قال: «أرى وأعتقد أن معظم الكنديين يتفقون معي في أنه من المهين أن يخفي الشخص هويته في اللحظة التي يلتزم فيها بالانضمام إلى العائلة الكندية».
هل نحن والعالم برمته أمام لحظة مفصلية هامة وتاريخية ينبغي فيها الوقوف سدا في وجه انتشار كراهية الأصوليات المتنامية؟
غداة الأحداث المرة التي عاشها مسيحيو العراق وسوريا، تنادت أصوات كثيرة في العالم الغربي مطالبة العرب والمسلمين بأن يرفعوا أصواتهم عالية مستنكرين ما يجري للأقليات المسيحية الشرق أوسطية، وللحق فإن كثيرا من تلك المرجعيات فعلت ذلك بالفعل، قبل أن تستمع إلى النداءات الغربية، كفعل أصيل تحتمه سياقات العيش الواحد عبر مئات السنين، وحتى لو لم يكن في مقدورها تغيير الأمر الواقع المرير على الأرض، وكان الأجدر بتلك الأصوات أن تنادي على حكوماتها بأعلى صوت متسائلة عن من الذي أذكى دور «داعش» ومدها بالسلاح والعتاد وكافة أشكال الدعم اللوجستي.
لكن على الجانب الآخر تحتم الموضوعية أيضا النظر بإمعان فيما قاله الكاتب البريطاني الكبير روبرت فيسك عبر صفحات «الإندبندنت» البريطانية في يناير (كانون الثاني) الماضي من أن: «الظلم الذي نسمح بحدوثه قادر على دفع المسلمين إلى العنف»، وقد أشار في مقال تحليلي دقيق له إلى أن «الفظائع التي يسمح الغرب بارتكابها» قادرة على دفع أي شاب مسلم تجاه ارتكاب أعمال العنف العدائية.
وفي مقاله يطلب من قرائه أن يلاحظوا أنه لم يذكر حتى نظام التعذيب الذي وضعه الغرب نفسه في أفغانستان وغوانتامو، والعراق بعد غزوه بطريقة وحشية وغير قانونية، وأنه لم يكتب أيضا عن ذبح الأطفال الفلسطينيين في القصف الإسرائيلي على قطاع غزة، وخلاصة رأي الرجل أن «وراء حقل الدم في الشرق الأوسط، هناك تاريخا من الظلم الهائل الذي لا بد من الاعتراف به».
هل تتم قراءة هذه السطور في دوائر الاستشراق الغربية، أم أن عين السخط تبدي المساوئ فقط دون النظر بعدالة ما للمسألة ككل واحد لا يتجزأ؟.
ثم وهذا هو الأهم: «هل هناك من يقف وراء إذكاء نيران الإسلاموفوبيا بالقدر الذي يقف آخرون وراء إشعال سعير الحروب الدينية في الشرق الأوسط التي تجاوزت مؤخرا المواجهات التقليدية للقرون الوسطى بين الإسلام والمسيحية، وباتت المواجهات في داخل الإسلام الواحد؟».
ربما يتعين على الباحث المخلص في التساؤل والبحث عن الجواب، أن يعود إلى شاشة هوليوود التي عرضت فيلم «القناص الأميركي»، ذاك الذي يحمل كراهية وشرا مجانيين للعرب والمسلمين، وقد كان سببا بحسب اللجنة العربية لمكافحة التمييز في واشنطن (ADC) لزيادة حوادث العنف والترهيب التي نفذت ضد الأميركيين المسلمين، وقالت في بيان لها إن: «الغالبية العظمى من التهديدات العنيفة التي شهدتها جاءت نتيجة للكيفية التي وصف بها العرب والمسلمون في فيلم القناص الأميركي، لقد جمعنا مئات من الرسائل العنيفة التي تستهدف العرب الأميركيين والمسلمين من رواد السينما».
لا يغيب عن أعين المتابعين للمشهد الأصولي العالمي أن هناك أيادي خفية بعينها تدفع إلى الصراع الأصولي دفعا، والصراع هنا لم يعد يتوقف عند حدود الأديان السماوية الإبراهيمية الثلاثة المسيحية والإسلام واليهودية، بل ها نحن نرى الآن موجة جديدة من الأصولية الهندوسية والبوذية في الهند تحديدا، ضد الإسلام والمسيحية بنوع خاص، ما يعني أن الأمر مرشح للتفاقم مستقبلا، وإن كان الصدام الأكبر اليوم يراد له أن يكون بين الإسلام والغرب بنوع خاص.
هل المشهد مرشح للتصاعد داخل الولايات المتحدة الأميركية بنوع خاص العامين المقبلين؟
المؤكد أنه مع اقتراب عام 2016 موعد الانتخابات الرئاسية الأميركية، يتوقع المرء أن تتصاعد الأزمة، ذلك أن أوضاع الشرق الأوسط، ومسألة الحريات الدينية، وأوضاع المسيحية المشرقية، ستجد من يجيد العزف عليها وإن ظاهريا لتحقيق مكاسب انتخابية، لا سيما أن هناك ما يشبه العودة من جديد لصحوة التيارات اليمينية المسيحية في الداخل الأميركي التي هدأت ثورتها وفورتها بعد رحيل بوش الابن عام 2008 عن البيت الأبيض، وحديث الأديان والأصوليات وكيفية العزف عليها في الداخل الأميركي في زمن الانتخابات الرئاسية في حاجة لحديث مطول بعينه.
هل من طاقة أمل في وسط ظلمة الأصوليات البغيضة؟
مشرقيا حمى المسلمون في العراق وسوريا الكثير من العائلات المسيحية التي تعرضت لجور وظلم وعدوان «داعش».
وفي خضم الأزمة التي عرفتها كندا، شهدت بعض مدنها مثل «كولدليك» في مقاطعة البرتا، تعاطفا من غير المسلمين مع جيرانهم المسلمين الذين لطخ مسجدهم بعبارات مسيئة ورسومات مؤذية للنفس والروح، بل إن حادثة «تشابل هي» التي راح ضحيتها ثلاثة شباب مسلمين في أميركا دعت الآلاف من الأميركيين في المنطقة لتجاوز اختلافاتهم العقائدية والسياسية والتعاطف مع أسرهم، عطفا على رفض الأعمال المعادية للمسلمين التي ارتكبت في الشهور الأخيرة.
كارثة الأصوليات أنها تحصر الله - وحاشا لله - في إطار من الذرائع الآيديولوجية، وعليه يتطلب الأمر ردا إنسانيا جماعيا وفي إطار من القانون الدولي للحد من تفشي العنف واستعادة الوئام وتضميد الجراح. وعلى الزعماء إدانة التطرف، من كل الأديان والأجناس.
إن الحروب تولد في ذهن البشر، لذا يجب أن تقام دفاعات السلام في ذهن الإنسان.
لماذا عادت «الإسلاموفوبيا» تحلق فوق سماوات أميركا مرة ثانية وبقوة؟
التطرف الأصولي وخطاب الكراهية
لماذا عادت «الإسلاموفوبيا» تحلق فوق سماوات أميركا مرة ثانية وبقوة؟
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة