تختصر «كناوة» جزءًا مهمًا من تاريخ المغرب، في ارتباط بعمقه الأفريقي، الذي يتم استحضاره عند الحديث عن التنوع الثقافي للمغرب، خاصة في ما يتعلق بمكوناته وروافده التي أسهمت في تشكيل الفسيفساء الثقافي للبلد، ضمن خاصية الوحدة في التعدد. لذلك، لم يكن لدستور 2011 إلا أن يترجم الحراك المجتمعي الإيجابي الذي يميز الجغرافية المغربية، عبر تأكيد واقع الحال، بشكل يبرز، كما نصت على ذلك الوثيقة الدستورية، أن «المملكة المغربية دولة إسلامية ذات سيادة كاملة، متشبثة بوحدتها الوطنية والترابية، وبصيانة تلاحم وتنوع مقومات هويتها الوطنية، الموحدة بانصهار كل مكوناتها، العربية - الإسلامية، والأمازيغية، والصحراوية الحسانية، والغنية بروافدها الأفريقية والأندلسية والعبرية والمتوسطية».
وتبقى موسيقى «كناوة» من أبرز عناوين الانتماء الأفريقي للمغرب، لذلك تحضر في أكثر من منطقة بالبلد، غير أن «مهرجان كناوة وموسيقى العالم»، الذي تحتضنه مدينة الصويرة، منذ 1998، جعل هذه الموسيقى ترتبط أكثر، على مستوى الاحتفاء بها وتسويقها عالميا، بـ«مدينة الرياح» (لقب تعرف به مدينة الصويرة)، المدينة التي يرى أندري أزولاي، مستشار العاهل المغربي الملك محمد السادس، والرئيس المؤسس لـ«جمعية الصويرة موغادور»، أنها، اليوم «عنوانٌ للمغرب المنفتح الذي يتقدم من دون عُقد.. المغرب المتجذر في هويته وقيمه، مع وفاء كبير للذاكرة».. الصويرة حيث «تتجاور الأجناس وتتشابك اللغات وتتداخل الألحان في تضامٍّ فريد. عرب وأمازيغ وأجانب من كُلِّ جنس، يهود ومسلمون ونصارى، بيضٌ وسود»، يكتب الشاعر المغربي محمد الصالحي. إنها الصويرة، مدينة أطلسية وأفريقية، في آن.. وأنت تجول في الصويرة، يضيف الصالحي «لا بد أن تتفطن إلى كونك تجول في طقس أفريقي، فمآذن الصويرة إلى مآذن مساجد أفريقيا جنوب الصحراء أقرب. قل الأمر ذاته عن أسواقها الصغيرة المبعثرة التي تؤثثها مواد توقظ في النفس حنينًا جارفًا إلى وقع أخْفَافِ الإبل وهي آتية من تمبكتو مثقلة بالذهب وريش النعام والعاج والعبيد والصمغ العربي».
ليست «كناوة» مجرد موسيقى عادية، من جهة أنها تتميز بإيقاعات قوية، محملة بثقل الأساطير والمعتقدات الموغلة في القدم، ومشحونة بالإرث الحضاري للبلد في علاقة بعمقه الأفريقي، كما أنها، كما يكتب الصالحي «مزيج من حنين وشوق وألم وغربة وانفصام»، حيث «يصيحُ الكناوي مهتزًا نحو الأعلى، كما لهيب نارٍ، في ضوء ضَربات الطبل وإيقاع السنتير، وهي آلة محض أفريقية، وآلات يدوية حديدية ذات إيقاع حادّ، يبدأ بطيئا ليتسارع كلما اقتربت الذات الكناوية من لحظة الجذبة».
وتتباين الآراء بخصوص أصل تسمية «كناوة»، فهناك من يجعلها تحريفا لـ«غينيا»، وهناك من يربطها بمعان ترتبط بمفردة «قن» كتعريف ومرادف لكلمة «عبد»، فيما يرى الباحث المغربي محمد الكوخي، في مؤلفه «سؤال الهوية في شمال أفريقيا»، أنها تحريف عربي لكلمة «إكناون» (مفردها أكناو)، والتي تعني بالأمازيغية من لا يستطيع الكلام (الأبكم) أو من لا يمكن فهم كلامه. ويرى الكوخي أن التفاعل الثقافي، الذي حصل بين المكون الأفريقي، ذي الجذور القادمة من منطقة جنوب الصحراء، مع المكونات الثقافية الأخرى المتعددة في شمال أفريقيا، أدى إلى «بروز نمط خاص من الثقافة الشعبية ذات الموسيقى المميزة والمعتقدات العجائبية، التي يختلط فيها الواقع بالخيال، وتاريخ العبودية والواقع القاسي لفئة من المهمشين اجتماعيا، بالتاريخ العريق للزوايا الصوفية في شمال أفريقيا».
يشدد الكوخي على أن الصحراء لم تكن، في يوم من الأيام، حاجزًا أمام الاتصال الثقافي بين شمال أفريقيا ومنطقة جنوب الصحراء، حيث ظل الاتصال التجاري والسياسي يلعب دورًا حاسمًا في تقوية علاقات التفاعل الثقافي بين شمال وجنوب الصحراء، ممثلاً لذلك بالطريقة التي انتشر بها الدين الإسلامي في جزء مهم من جنوب الصحراء، انطلاقًا من قواعده بشمال أفريقيا، مبينًا أنه، منذ العصر المرابطي (1056 - 1147) كانت تجري محاولات سياسية وعسكرية لضم مناطق جنوب الصحراء لشمال أفريقيا، من أجل السيطرة على طرق التجارة الصحراوية ومصادر المواد الأولية المتاجر بها، قبل أن ينصرف اهتمام المرابطين، خلال حكم يوسف بن تاشفين (1006 - 1106)، شمالا، إلى الأندلس.
يذكر الكوخي أن تدخل المرابطين في منطقة الأندلس جعل الاهتمام ينصب، بشكل رئيسي، على المناطق الشمالية، وهو التوجه الذي تواصل خلال حكم الموحدين (1121 - 1269) والمرينيين (1242 - 1465). لكن، مباشرة بعد سقوط الأندلس (1492)، سيعود الاهتمام بمنطقة جنوب الصحراء مجددا، بشكل جعلها تأخذ حيزا من اهتمام السلطة السياسية بشمال أفريقيا، في وقت كانت قد بدأت تتجلى فيه مطامع الدولة العثمانية في منطقة السودان، خاصة بعد وصولهم إلى تلمسان ومحاولتهم السيطرة على الخط الجنوبي للتجارة الصحراوية. وفي الوقت نفسه، ولنفس الأسباب، كانت المنطقة محط أنظار الدولة السعدية في المغرب (1554 - 1659)، التي كانت خرجت قوية ومنتصرة عقب معركة «وادي المخازن» (4 أغسطس/ آب، 1578)، وفشل الأطماع الأوروبية والعثمانية في السيطرة على المغرب، ليقرر السلطان السعدي أحمد المنصور الذهبي (حكم خلال الفترة ما بين 1578 و1603) أن يسبق الجميع ويغزو «بلاد السودان»، فجهز حملة عسكرية سنة 1590 انتهت بالسيطرة على مناطق الصحراء الجنوبية وإبعاد الأطماع العثمانية في المنطقة، والحد من التدخل الأوروبي في أفريقيا الغربية.
وفي سياق هذا التناول التاريخي لعلاقة المغرب بعمقه الأفريقي، لن ينسى الكوخي أن يستعرض فترة حكم المولى إسماعيل العلوي (حكم خلال الفترة ما بين 1672 و1727)، خاصة ما تعلق منها ببناء «جيش البخاري»، المكون من جنود من أصول جنوب صحراوية.
ويتوقف الكوخي عند هذه الفترة التاريخية، فيعتبرها «مهمة جدا في تغلغل العنصر البشري والثقافي الأسود في النسيج السياسي والاجتماعي والثقافي للمغرب»، حيث سيظهر إلى الوجود أحد أهم المكونات الثقافية التي تبرز التأثير الأفريقي لجنوب الصحراء على منطقة شمال أفريقيا، وبالضبط في مجال الموسيقى الثقافية الشعبية، وذلك بالتوازي مع التأثير الأندلسي الشمالي، حيث ظهر في تلك الفترة نوع موسيقي جديد عرف باسم «الموسيقى الكناوية»، ومعه طريقة صوفية جديدة عرفت باسم «الزاوية الكناوية».
ويشدد الكوخي على أن ما يميز «الزاوية الكناوية» هو الموسيقى «الكناوية» ذات الإيقاعات الأفريقية المميزة، التي تستخدم فيها عدة آلات موسيقية، هي الكنبري أو الهجهوج والطبل والمزمار وصنوج حديدية، فيما يلبس العازفون لباسًا خاصًا يميزهم، يتكون، عادة، من ألوان فاقعة، مثل الأحمر والأزرق، ويضعون على رؤوسهم طرابيش تتميز بلونها وزخرفتها بالصدف. وعادة ما يترافق العزف الصاخب مع أهازيج وأغان مبهمة المعاني تظهر عليها بوضوح اللكنة الأفريقية عند نطق الكلمات، مع طابع حزين يمكن لمسه خلف صخب الأصوات والألوان، والذي يحيل إلى تاريخ العبودية في المنطقة والواقع القاسي التي كانت تتصف به حياة العبيد السود. ورغم الطقوس الغريبة التي ترافقها والأجواء العجائبية التي تميزها فإن أتباع الطائفة «الكناوية»، كما يبرز الكوخي، لا يعتبرون أنفسهم خارجين عن تعاليم الدين الإسلامي، لذلك، تجدهم يبدأون طقوسهم ويختمونها بالصلاة على النبي (صلى الله عليه وسلم) وذكر الله.
«كناوة».. المغرب الأفريقي في نغمة
موسيقى مميزة ومعتقدات عجائبية يمتزج فيها الواقع بالخيال
«كناوة».. المغرب الأفريقي في نغمة
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة