في مؤتمراته الصحافية، يجيبك سعود الفيصل بما لا تتوقع، أو بالأصح، بما يجب أن يقال. فصراحته دبلوماسية، ودبلوماسيته خارطة طريق. يتحدث مجيبا على أسئلة الصحافيين فيتصدر حديثه صفحات الصحف الأولى، حتى حصد إعجاب المهتمين بالسياسة ودهاليزها من مختلف الأجيال، وتنامت شعبيته في أوساط السعوديين عامًا بعد عام. هو الأمير ابن الملك، عاصر 5 ملوك سعوديين بدءا من الملك فيصل، واستمر وزيرا للخارجية حتى يوم أمس، بعد أن طلب إعفاءه من منصبه لظروفه الصحية، لكن خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز لم يتخل عنه وعن رؤيته وخبرته، فعينه مشرفا على الشؤون الخارجية إلى جانب تعيينه عضوا بمجلس الوزراء.
الأمير الوزير، والطالب المجتهد، وعاشق العلم الذي تخرج في إحدى أعرق جامعات العالم، جامعة برنستون عام 1963م ثم التحق بوزارة البترول والثروة المعدنية مستشارا اقتصاديا وعضوا في لجنة التنسيق العليا التابعة لها، وبدأ العمل الدبلوماسي رسميا حين تسلم مهام وزارة الخارجية عام 1975م.
لم يكن الفيصل مضطرا لتعلم لغات متعددة، فبإمكانه الاستعانة بالمترجمين والمستشارين، لكن لفهم سياسات أي قوم فمن المهم معرفة لغة حديثهم، وهو ما حدث بالفعل. فالوزير المعتق يتحدث أكثر مم 6 لغات، وفي المؤتمرات الصحافية، يجيب باللغة التي يسأل بها، دون استعانة بمترجم فوري.
العمل أولاً، وثانيًا، وثالثًا، ورابعًا حتى. هذا هو شعار حياة سعود الفيصل، فلا يعرف الكلل ولا الملل، حتى وهو على فراش المرض، وقبل ثلاثة أعوام، ظهر في إحدى جلسات الأمم المتحدة وهو يلف حول عنقه ربطة طبية وجبيرة، بعد خروجه من المستشفى مباشرة، فلم يضطر لأخذ إجازة مرضية، بل توجه إلى القاعة لعمل ما يلزم، والحديث بما يلزم.
في مجمل أحاديثه، يرفع الفيصل لواء السلام، ويتحدث بنبرة الغيرة والحسرة أحيانا، على القضية الفلسطينية، ويعاود التأكيد في كل مناسبة أن السعودية تعتبر قضية فلسطين قضيتها الأولى، بل لا يتوقف الوزير العتيق للحديث عن بلاء الأمة العربية والإسلامية وأسباب ضعفها في مواجهة أعدائها، وفي أغسطس (آب) الماضي في اجتماع منظمة التعاون الإسلامي في جدة متسائلا مع نظرائه عن أسباب ضعف الأمة قائلاً: لماذا نحن في ضعف؟ وهل كان في مقدور إسرائيل العدوان على غزة لو أن الأمة موحدة؟
هذا الفؤاد النابض بالقضايا العربية والوحدة الإقليمية أكسب الفيصل مكانة خاصة في قلوب ملايين العرب، الذين يبادلونه الاحترام والتقدير في عدة محافل، الأمر الذي أثار اهتمام وكالات الأنباء العالمية بخبر ترجل الفيصل عن منصبه، من ذلك وكالة «رويترز» الإخبارية التي وصفت الفيصل أمس بأنه «أثبت براعة في تجنب المجاملات الدبلوماسية المنمقة لتقديم رسالة بلاده بخفة وبشكل جوهري».
ورغم سنوات العطاء الطويلة التي قدمها الفيصل فإن ترجله من وزارة الخارجية لم يكن بالأمر السهل، خاصة وأنه يأتي نتيجة الظروف الصحية التي يمر بها، حيث بدأ الفيصل رحلته العلاجية بالخارج منذ شهر يناير (كانون الثاني) الماضي، لإجراء عملية جراحية في فقرات الظهر بالولايات المتحدة الأميركية، والتي «تكللت بالنجاح»، بحسب بيان صادر عن الديوان الملكي السعودي آنذاك، ثم عاد إلى البلاد في شهر مارس (آذار) الماضي.
إلا أن الفيصل واصل عمله السياسي بعدها متحملا الأوجاع الصحية في سبيل خدمة وطنه، حتى صباح أمس حيث جاء نص الأمر الملكي قائلا «إنه بعد الاطلاع على ما رفعه لنا الأمير سعود بن فيصل بن عبد العزيز آل سعود وزير الخارجية عن طلبه إعفاءه من منصبه لظروفه الصحية، فقد أمرنا بالموافقة على طلبه».
ونظرا للثقل السياسي الذي يمثله الأمير سعود الفيصل، أصدر الملك سلمان بن عبد العزيز أمرا آخر بتعيينه «وزير دولة وعضوًا بمجلس الوزراء، ومستشارًا ومبعوثًا خاصًا لخادم الحرمين الشريفين، ومشرفًا على الشؤون الخارجية».
يكمل الفيصل هذا العام الخامسة والسبعين من العمر، 40 منها قضاها في مجال الدبلوماسية والسياسة وزيرًا للخارجية، ففي عام 1975 تقلد مهام الخارجية بعد وفاة الملك فيصل بن عبد العزيز، والذي كان يتقلد المنصب قبل وفاته، رحمه الله، واستلم المهمة ابنه سعود الذي يشبهه البعض بحامل شعلة الدبلوماسية، أو العداء الماهر الذي يسبق الجميع إلى الهدف، ويستطيع إقناع الآخرين بمواقف السعودية تجاه قضايا عدة تكون الرياض فيها طرفًا.
كان الفيصل يحذر باستمرار من عدم الوقوف مع الشعب السوري في قضيته، وأن ذلك سينعكس على المنطقة برمتها، بل كان يسعى جاهدا ويطالب بدعم الثوار لوقف النزيف الدموي المستمر بفعل جرائم نظام بشار الأسد، وهي المطالبات التي اتضح لاحقًا دقة رؤيته، فبعد تأخر المجتمع الدولي في إنقاذ ما يمكن إنقاذه، توافدت جماعات إرهابية على الأراضي السورية من كل حدب وصوب، حاملة فكر التطرف والقتل والإرهاب، فضاعت حقوق الشعب السوري بين مطرقتي إرهاب نظام بشار وميليشياته وإرهاب «داعش».
الحزن على ترجل الفيصل ورحيله لم يكن يخص السعوديين، بل العرب. فأحد أعمدة الدبلوماسية العربية يترجل، بعد أن قضى أكثر من نصف عمره وزيرا للخارجية، مدافعا عن قضايا العرب والمسلمين، وحازما في تصريحاته، فهو القائل عن أي تدخلات: «حين نلمسها، سننهيها».
عميد وزراء خارجية العالم.. يترجل
40 عامًا من الركض في مجال السياسة.. وشعلة السعودية الدبلوماسية
عميد وزراء خارجية العالم.. يترجل
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة