امرأة الحُلم.. رواية مثقلة بوقائع تاريخية مقحمة على النص

لجأ المؤلف إلى تقنية الأحلام والكوابيس والاستعادات الذهنية

امرأة الحُلم.. رواية مثقلة بوقائع تاريخية مقحمة على النص
TT

امرأة الحُلم.. رواية مثقلة بوقائع تاريخية مقحمة على النص

امرأة الحُلم.. رواية مثقلة بوقائع تاريخية مقحمة على النص

نادرا ما تنجو الرواية العراقية من سطوة السياسة على أجوائها وفضاءاتها السردية، وربما تذهب أبعد من ذلك حينما تكون لسان حال شخصيتها الرئيسية التي تُخبِّئ خلفها، في الأعم الأغلب، صوت الكاتب الذي ينطوي على جوانب متعددة من رؤاه الفنية والفكرية والثقافية. ورواية «امرأة الحلم» لحمّودي عبد محسن لا تخرج عن هذا الإطار «المُسيّس» إن صحَّ التعبير، فهي رواية سياسية بامتياز لكنها لا تهمل مناحي الحياة العاطفية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية على حدٍّ سواء.
تتمحور هذه الرواية برُمتها على شخصية المعلّم المتقاعد رياض رسول لكننا لم نتحسس أبعاد هذه المهنة العظيمة على مدار النص الروائي حتى ولو في استعادة ذهنية واحدة، إذ سارع الكاتب إلى تقديمه كمناضل شيوعي مخضرم قارعَ السلطة الاستبدادية من أجل تحقيق شعارٍ سياسي مقدّس يتمثل في «وطنٍ حرٍّ وشعبٍ سعيد» لكن هذا الوطن ظلَّ مكبّلا ومحتلا منذ سقوط بغداد على يد هولاكو عام 1258 حتى ثورة 14 يوليو (تموز) التي فجّرها عبد الكريم قاسم عام 1958 ثم تناهبتها الأنظمة العسكرية المتخلفة والأحزاب القومية والدينية المتطرفة حتى يومنا هذا.
وتمهيدا لتقديم هذه الشخصية التي تتنازعها السياسة والثقافة في آنٍ معا نرى رياض رسول في الفصل الأول من الرواية وهو عائد من ساحة الفردوس يرفع علما أحمرَ تطرزه مطرقة ومنجل بعد مشاركته في تظاهرة احتفالية بالذكرى الثانية والخمسين لثورة 14 تموز 1958. وعلى الرغم من أنه يرى صبيا مُعدما يبيع قناني الماء للمتظاهرين فإنه لا يزال مُستغرقا في الحلم الاشتراكي الذي تنتهي فيه السلطة، ويدير المجتمع نفسه بنفسه، ويكون كل حسب حاجته وقدرته!
وبما أن السجون والمعتقلات هي قدر السياسيين والمثقفين العراقيين المناوئين للسلطة أو المعارضين لها فإن رياض رسول هو سجين سياسي بالضرورة، فقد سُجن في العهد الملكي، وتعرض للتعذيب بسبب أفكاره التقدمية، وسوف يتعرض للضرب على أيدي شرطة المالكي في واحدة من المظاهرات الاحتجاجية في ساحة التحرير. فهذه الرواية لا تخرج عن ثنائية الضحية والجلاد، وأدب السجون والمعتقلات، فلا غرابة أن نراه أحد الصامدين الذين لم ينكسروا أمام وحشية الجلاد في مختلف السجون العراقية في بغداد وبعقوبة ونقرة السلمان التي أسسها العثمانيون كنقطة حراسة في بادية السماوة لكنها تحولت إلى منفى للشيوعيين ومعارضي النظام الملكي وما تبعته من أنظمة شمولية مستبدة.
تتمحور الرواية، على الرغم من عمقها التاريخي البعيد الذي يمتد إلى سومر وأكد وملحمة جلجامش، على السنوات التي أعقبت احتلال بغداد عام 2003 لكي يقدّم لنا صورة مؤسية عن الحكومات الفاشلة التي طُبعت بطابع النهب العلني، والسرقة المنظمة من قبل اللصوص الجدد الذين سطوا على مئات المليارات من الدولارات وحولوها إلى أرصدتهم الشخصية من دون أن يرف لهم جفن أو ترتعد لهم فريصة.
اختار الروائي حمودي عبد محسن منطقة البتّاويين في قلب بغداد كبؤرة مركزية تدور فيها أحداث الرواية. واستطاع من خلال تقنية الأحلام، والكوابيس، والاستعادات الذهنية، وقراءة المخطوطات، والخُطب الملكية وما إلى ذلك أن يأخذنا إلى دلمون واليمن السعيد وبغداد التي سلّمها المستعصم بالله للجنود المغول الذين أشبعوه رفسا حتى فارق الحياة من دون أن تُراق منه قطرة دمٍ واحدة كما اشترط هولاكو!
ثمة أحداث فرعية تُسهم في تعزيز البنية الروائية وتعمّق أنساقها السردية الحقيقية والحُلمية في آنٍ معا مثل الحملة التي تشنّها القوى الأمنية ضد الكلاب السائبة بدلا عن الإرهاب المستشري في مختلف أرجاء العاصمة وما يترتب عليها من تداعيات مؤثرة على نفسية الأطفال على وجه الخصوص. ثم ينعطف بنا الروائي إلى العالم الذي يتداخل فيه الحُلم بالحقيقة. فمقهى الحجي الذي تحوّل في لحظة من الزمن المعاصر إلى مجمّع «العراقي الأصيل» وتحدث فيه عن تموز، ثم أخرج حمورابي مجموعة أوراق من جيبه وبدأ يقرأ ما كتبه ابنه سنحاريب في سجون الظلم ودهاليز الاستبداد حيث يقتاده الجلاوزة إثر وشاية كاذبة من مخبر سرّي إلى محاجر السود ومنها إلى وحدة الجرائم الكبرى كي ينال قسطا من التعذيب، والصعق الكهربائي، والحرمان من متطلبات الحياة اليومية. لعل أبرز ما في هذه الأحداث الفرعية هو العثور على طفل رضيع في قُمامة الحي يُطلق عليه رياض اسم «وليد العراق»، وحينما تتعهّد «أم خولة» بتربيته ورعايته أسوة بأولادها يوافق رياض أن يمنحه لها شرط أن تسمّيه «تموز».
ينوء رياض بثقل الماضي العراقي، ويسترجع العديد من أحداثه المؤسية وربما يكون احتلال هولاكو لبغداد هو الحدث الأبرز الذي تتداعى تفاصيله وكأننا نشاهد فيلما سينمائيا فانتازيا، فالخليفة المستعصم بالله كان سادرا في غيّه ومجونه حتى أن سهما من سهام العدو قد أصاب جاريته «عرفة» دون أن يكلّف نفسه عناء الدفاع عن محظياته في الأقل. ثم تتوالى سلسلة الاحتلالات من تيمورلنك إلى السلطان أحمد، ومن دولة الخروف الأبيض إلى الخروف الأسود، ومنها إلى إسماعيل الصفوي الذي ترك أثرا سيئا في نفوس العراقيين. ولكي يتخلص رياض من هذه المتاعب الذهنية قرر أن يمارس عزلته المشدّدة مكتفيا بقراءة الكتب والمراجع التاريخية التي تكتظ بها مكتبته المنزلية.
يعود رياض إلى عام 1978 حينما اختطف أزلام الديكتاتور زوجته وحشروها في سجن مظلم حيث تعرضت فيه إلى مختلف أشكال التعذيب قبل أن تفارق الحياة، وقرر ألا يتزوج بعدها على الإطلاق لأنها تمثل بالنسبة إليه الجمال والكمال والرُقي ولذلك سماها «امرأة الحُلم» وكتب لها ست رسائل مليئة بالحُب واللوعة والاشتياق. ثم يستغرق السارد في الحديث عن الملك السومري زيوسدرا الذي أنقذ الجنس البشري من الطوفان، كما يعرِّج في الحديث عن جلجامش الباحث عن الخلود له ولشعبه.
يشكِّل الفصل الخامس منعطفا أساسيا في الرواية حينما ينتبه رياض إلى المطعم الذي يشوي صاحبه العصافير والزرازير والحمام الفاخت، وتهتز مشاعره كثيرا حينما يشاهد كيسا مكتظا بالطيور حيث يُطلقها في الهواء ويرقص رقصة التمرد في منتصف الشارع التي تُوحي للآخرين أنه قد أُصيب بمسٍ من الجنون وحينما يستنفد قواه يُغمى عليه فيأخذنا خلال إغماءته معه إلى اليمن السعيد ليقتل الذئب الإنسان ثم يموت ويُدفن في موضع «حُب الغريب»، وحينما يستفيق يجد نفسه في بيت أم محمد في حي البتاويين حيث تراوده بائعة هوى عن نفسه لكنه يخرج من البيت مستاءً مشوّش الذهن.
لا تقدّم الفصول الثلاثة التالية سوى معلومات مبتسرة عن الفيضان الذي اجتاح بغداد وأخذ رياض يطوف مثل سفينة نوح، كما حلُم بذي القرنين الذي مزّق حُليّهُ، ونزع تاج عرشه في مقاربة واضحة لما قام به رياض في رقصة التمرد التي مزّق فيها ثيابه أيضا. وبحث أيضا عن امرأة الحلم التي زارته في اليمن وكسرت جدران عزلته، ثم تلاشت وكأنها صعدت إلى السماء ولم يبقَ منها سوى بقع الدم ورموز الإخصاب على الملاءات البيض.
الفصل التاسع قد يكون من أهم فصول الرواية التي تتكثّف زبدتها في جمعات الغضب، والكرامة، والقصاص ومحاكمة المالكي، وارحل قبل فوات الأوان وشعاراتها التي توزعت على 3 محاور وهي: «إيران برّة برّة بغداد تبقى حرّة» و«يا أميركي اسمع زين، اطلع من بلد النهرين» والشعار الثالث الذي يمس اللصوص الجدد «نفط الشعب للشعب مو للحرامية». ثم يصعّد رياض موقفه حينما يطالب بإسقاط النظام فتتعرض المظاهرة برمتها إلى الاعتداء من قبل أزلام ما يسمى «دولة القانون» فيسقط رياض مغشيا عليه وحينما يستفيق يجد نفسه مستلقيا في مقهى الحجي، ويزداد قناعة بأن البطش لا ينتهي في بغداد وكأنه مثل لعنة أبدية حلّت بدُرّة النهرين.
لم يخرق حمودي عبد محسن الإيهام السردي، ولم يحطّم البنية الكلاسيكية المتعارف عليها، وكانت فرصته كبيرة في الفصل العاشر تحديدا فبدلا من أن يقرأ المخطوطة التي تتحدث عن أرض دلمون وقصة حُب أنكي لننبرساج وزواجه منها بغية ديمومة الوجود البشري كان عليه أن يتناص مع هذه المخطوطة أو يشتبك مع أحداثها وشخصياتها على حد سواء. وهذا الأمر ينطبق على قراءته لملحمة جلجامش بوصفها جزءا حيويا من سفر أرض دلمون وما انطوت عليه من معانٍ عديدة لعل أبرزها البحث عن هاجس الخلود له ولشعبه لكن هذه العملية لم تخرج عن إطاره القراءة السردية العادية التي أبقت هذه القصص والملاحم السومرية على طبيعتها ولم يتناص معها الروائي، أو يستفد من أنساقها الفنية عبر التقنية الميتاسردية التي عرفناها عند عبد الخالق الركابي، حازم كمال الدين، أحمد خلف، لطفية الدليمي، علي بدر، وآخرين. وعلى الرغم من القراءة التقليدية لرياض فإنه يستنبط في خاتمة المطاف بأن الحرية من أجمل الكلمات، ولكنها ستكون أجمل بكثير إذا ما اشتبكت في بنية ميتاروائية لا تتكئ على الرؤية التقليدية ولا تكتفي بها.
ولكي يلملم حمودي عبد محسن معطيات الرواية المبعثرة بين الوقائع الحقيقية التي تدور في حي البتاويين، وساحة التحرير، والسجون المبثوثة في بغداد وبقية المدن العراقية، وبين الأحلام والأوهام والكوابيس العديدة التي انتابت رياض على مدى النص الروائي الذي يختمه بجلاء المحتل والتقاط العراقيين لأنفاسهم بعد سنوات الاحتلال المريرة، وحضور امرأة الحلم مع رجل دين بارع في تزوير الأنساب، وامرأة ساحرة تدّعي أنها تطرد الجن والأرواح الشريرة من أجساد المسحورين والمصابين بالأعين الشريرة الحاسدة حيث يعقد قرانهما ويغادر المكان تاركا رياض مع امرأة الحلم التي بكت على مصير العراق المجهول على الرغم من الوعد الذي قطعته على نفسها بأنها سوف تنجب له تموز العراقي، فيتذكر ما قاله الحموي عن بغداد بأنها «سيدة الدنيا» التي ستنتفض مثل العنقاء من تحت الرماد مثلما ستنجب امرأة الحلم تموز الذي سوف ينبثق إلى الوجود حيا سواء من غشاوة الحلم أم من تضاعيف الواقع الأسيان.
نخلص إلى القول بأن «امرأة الحلم» هي رواية مثقلة بالعديد من الوقائع والأحداث التاريخية المُقحمة على بنية النص الروائي وكان على الكاتب أن يكتفي ببعض الإحالات التاريخية المهمة ويشتبك معها عبر تقنية التناص التي تجعل من المادة التاريخية جزءا من لحمة النص وسداته لا أن تظل مادة طارئة تشكِّل عبئا على الرواية بدل أن تتماهى مع أحداثها وتصبح جزءا حيويا من المعطيات المكوِّنة لنسيجها السردي.
إن منْ يجرّب قراءة هذه الرواية من دون الإحالات التاريخية سيجد نفسه أمام نص روائي مكثفٍ رشيق يُذكِّرنا بالأعمال الروائية الناجحة التي أنجزها الكاتب الدؤوب حمودي عبد محسن لعل أبرزها «الدفّان والغجرية» و«المزمار» و«حكاية من النجف» التي قال فيها أشياءَ كثيرة حتى وإن جاءت ضمن أنساق سردية تقليدية لم تكلّف نفسها عناء الخوض في مجازفة التجريب أو الحداثة الفنية غير مضمونة العواقب.



أوانٍ فخارية من مدافن دار كليب الأثرية في البحرين

قطع فخارية من محفوظات متحف البحرين الوطني بالمنامة مصدرها موقع مدافن دار كليب في المحافظة الشمالية
قطع فخارية من محفوظات متحف البحرين الوطني بالمنامة مصدرها موقع مدافن دار كليب في المحافظة الشمالية
TT

أوانٍ فخارية من مدافن دار كليب الأثرية في البحرين

قطع فخارية من محفوظات متحف البحرين الوطني بالمنامة مصدرها موقع مدافن دار كليب في المحافظة الشمالية
قطع فخارية من محفوظات متحف البحرين الوطني بالمنامة مصدرها موقع مدافن دار كليب في المحافظة الشمالية

تحوي مملكة البحرين سلسلة من المقابر الأثرية، تُعرف باسم «تلال مدافن دلمون»، سُجلت ضمن قائمة التراث العالمي التابعة لـ«منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة» (اليونيسكو) في صيف 2019. تضم هذه السلسلة في الواقع مجموعات عدة من المدافن، منها مجموعة تقع في أقصى جنوب مدينة حمد، وتجاور قرية دار كليب التي تبعد عن المنامة نحو 25 كيلومتراً. بدأ استكشاف «مدافن دار كليب» في عام 1965، حيث عمد باحثان يعملان لحساب «شركة نفط البحرين» (بابكو) إلى إجراء أول أعمال المسح فيه. وصل هذا الخبر إلى البعثة الدنماركية التي كانت تعمل في هذه الناحية من الخليج خلال تلك الفترة، فباشرت دراسة الموقع بشكل معمّق. توالت مواسم التنقيب خلال العقود التالية، وأدت إلى الكشف عن مجموعات متنوعة من اللقى، منها مجموعة من الأواني الفخارية تعود إلى حقب متلاحقة من الزمن.

تحمل «تلال مدافن دلمون» اسم إقليم برز شرق الجزيرة العربية خلال الألفية الثالثة قبل الميلاد، كما تشهد المصادر السومرية، وكانت جزيرة البحرين حاضرة من حواضر هذا الإقليم الوسيط الذي شكل حلقة وصل بين بلدان الشرق القديم، الأوسط والأدنى. خرج من هذه المدافن عدد كبير من القطع الفخارية تعكس هذه التعددية، منها مجموعة من القطع مصدرها حقل «مدافن دار كليب» الذي يمثّل كما يبدو الطور الأخير من تلك الحقبة الغنية. تبرز في هذا الميدان بضع أوانٍ تتميز بحلل زخرفية تبدو غير مألوفة في محيطها، منها آنية على شكل زهريّة من الحجم الصغير، كشفت عنها بعثة محليّة في منتصف تسعينات القرن الماضي، وهي اليوم من محفوظات متحف البحرين الوطني بالمنامة. يبلغ طول هذه الزهرية المخروطية 12 سنتيمتراً، وعرضها 9 سنتيمترات، وهي من نتاج القرنين الأخيرين من الألفية الثانية قبل الميلاد، كما يؤكّد أهل الاختصاص، وتكوينها بسيط، ويغلب عليه اللون العسلي المائل إلى الأخضر الزيتي.

تُزين القسم الأعلى من هذه الزهرية شبكة من الخطوط الأفقية الدائرية، تحوي في وسطها خطاً متعرّجاً. خُطت هذه الشبكة باللون الأسود، وتقابلها شبكة مشابهة مختزلة تزيّن القسم الأسفل منها. بين هاتين الشبكتين، تحضر شبكة عريضة تحتلّ القسم الأوسط، وقوامها زخرفة نباتية متناسقة تعتمد طرازاً مكرّساً، يُعرف في قاموس الفنون باسم «بيبال»، أي شجرة التين الهندسية المقدسة. خطّت هذه الزخرفة النباتية كذلك باللون الأسود، وتتشكّل من أربعة أغصان أفقية تحمل أطرافها سلسلة من الأوراق اللوزية المرصوصة بشكل تعادلي في بناء محكم، وفقاً لنسق فني اعتُمد بشكل واسع في المناطق الشمالية الغربية من جنوب آسيا، وبات من خصائص حضارة وادي السند التي توهّجت على مدى قرون من الزمن، وبلغت نواحي عديدة من الشرق الأدنى وجنوب آسيا.

تبدو زهرية دار كليب على الأرجح من نتاج وادي السند، وتشهد للروابط الثقافية المتواصلة التي جمعت بين هذا الوادي وإقليم دلمون. لا نجد ما يماثل هذه الآنية في هذا الميراث، غير أننا نقع على قطعة تشابهها بشكل كبير، مصدرها المناطق الشرقية من المملكة العربية السعودية، وهي قطعة شبه مجهولة، قدّمت عالمة الآثار غرايس بوركهولدر تعريفاً بها ضمن كتاب لها صدر عام 1984، تناول مجموعة من اللقى الأثرية تمّ اكتشافها في هذه المناطق الشرقية.

خرجت من مدافن دار كليب كذلك مجموعة من القطع الفخارية تعود إلى الحقبة التي أطلق فيها المستكشفون الإغريقيون على جزيرة البحرين اسم تايلوس، وهي الحقبة التي تمتد من القرن الثالث قبل الميلاد إلى فترة دخول الإسلام. تُشكّل هذه القطع مجموعة من مجموعات مشابهة خرجت من المدافن المجاورة، وتحوي قطعاً تتفرّد في بعض الأحيان في تكوينها، منها قطعة من الفخار المزجّج، عُثر عليها خلال حملة محليّة تمّت بين عام 1993 وعام 1994، وهي من محفوظات المتحف الوطني بالمنامة.

صُنعت هذه الآنية بين القرن الأول والقرن الثاني للميلاد على الأرجح، وفقاً لتقنية نشأت قديماً في جنوب بلاد ما بين النهرين، وهي على شكل جرة لها عنق طويل، طولها 32.5 سنتيمتراً، وعرضها 22 سنتيمتراً. تشابه هذه الجرة في تكوينها العام جرة معاصرة لها خرجت من الموقع نفسه، وتتميّز بعروة على شكل مجسّم حيواني، تحل مكان العروة التقليدية المجرّدة من أي شكل تصويري. يصعب تحديد نوعية هذه البهيمة، والأرجح أنها تمثل كبشاً ذا قرنين مستديرين، وتشكّل امتداداً لتقليد قديم، تبدو شواهده محدودة في هذه الناحية من الجزيرة العربية.

يحضر هذا الكبش في قالب جامد تغيب عنه أي حركة ظاهرة، وتبدو قوائمه الأربع ثابتة في وضعية واحدة ثابتة، يغلب عليها طابع التحوير والتجريد. يتبع تكوين رأس هذه البهيمة هذا النسق، ويتميّز بقرنين عريضين صيغا على شكل هلالين متوازيين.


آخر ما قاله سعد الله ونوس عن «الخفقة السوداء في الرأس»

سعد الله ونوس كما بدا في الفيلم
سعد الله ونوس كما بدا في الفيلم
TT

آخر ما قاله سعد الله ونوس عن «الخفقة السوداء في الرأس»

سعد الله ونوس كما بدا في الفيلم
سعد الله ونوس كما بدا في الفيلم

مصعد المستشفى لا يكفّ عن الرنين، بينما المرضى وزوارهم يخرجون ويدخلون إليه. الممرات أشبه بنفق معتم. أطباء يعاينون صورة شعاعية، قبل أن تظهر لنا الكاميرا سعد الله ونوس على سرير المرض شاحباً، متعباً، هزيلاً، وقد فقد شعره، يتناول الدواء من يد شخص إلى جانبه، وتثبّت الممرضة إبرة المصل في ذراعه.

هكذا يبدأ «الوثائقي» المعنون: «هناك أشياء كثيرة كان يمكن أن يتحدث عنها المرء»، الذي صوره المخرج عمر أميرالاي، مع صديقه الكاتب المسرحي سعد الله ونوس، قبل فترة قصيرة من وفاته يوم 15 مايو (أيار) 1997، وعرض يوم 28/11، في سينما متروبوليس ببيروت.الكلمة الأخيرةالفيلم بمثابة وصية، أو لنقل الكلمة الأخيرة التي تركها لنا هذا الكاتب الكبير بنصوصه كما بانخراطه الكامل في القضايا التي أحاطت به. منذ البدء يصارح أميرالاي سعد الله ونوس، الواقف «على حافة تخوم رجراجة بين الحياة والموت»، أنه جاءه ليستنطقه كشاهد على مرحلة «لتكون لسان حال جيلنا في هذا الصراع».

الفيلم سجل بعد اتفاق أوسلو، ونوس متوجس مما سيأتي، مزاجه جنائزي، ليس فقط بسبب المرض، بل بسبب الحالة العامة أيضاً. ثمة شرطان للسلام لم يتحققا بالنسبة لسعد الله ونوس. أن يحصل تغيير جوهري وجذري في البنى الاجتماعية والسياسية في إسرائيل. وأن يحصل الشيء نفسه في البلاد العربية من جهة أخرى. عندها التاريخ قد يجبرنا وتحت وطأة اليأس على التغيير والتجدد. نكبة 1948 «أقولها حرفياً إن إسرائيل سرقت السنوات الجميلة من عمري، وأفسدت على إنسان عاش خمسين عاماً، مثلاً، الكثير من الفرح، والكثير من الإمكانات»، يقول ونوس في مطلع الفيلم الذي عرض في سينما «متروبوليس» في بيروت قبل أيام، إلى جانب فيلم آخر «إلِيبسِس» للمخرجة ساندرا إيشيه تتحاور فيه مع عمر أميرالاي ضمن فعالية «حواران على أهبة الموت» لـ«سينماتك بيروت».

مات «رائد المسرح السياسي»، سعد الله ونوس بعد صراع طويل مع سرطان في البلعوم كان يفترض ألا يمهله أكثر من ستة أشهر بحسب الأطباء، لكنه بقوة الكتابة تمكن من المقاومة خمس سنوات. ومن حسن حظنا أنها كانت من أغزر فترات حياته إبداعاً، كتب خلالها أروع مسرحياته، وشارك في هذا «الوثائقي» البديع الذي تحدث خلاله عن العلاقة العضوية التي ربطته بالقضية الفلسطينية، وأحداث المنطقة كيف عاشها بروحه وضميره ووجدانه، حتى لتشعر وهو يتحدث أن المآسي التي مرّت نهشت جسده، حتى أودت به، وهذا ما يعتقده هو نفسه.

عمر أميرالاي

أميرالاي الساخر حد البكاء بقدر ما يبدو سعد الله ونوس حزيناً ومكفهراً، نرى صديقه عمر أميرالاي حين تحاوره المخرجة الفرنسية، في الفيلم الثاني، ساخراً هزلياً بمرارة، حتى تختلط الدموع بالقهقهات. ويجيب على الأسئلة باعتباره يعيش في عام 2030 خاصة وأن كل التوقعات في الخمسين سنة الماضية، حصلت، ولم يعد من مكان للخيال. لقد أصبح كل شيء واقعاً، وما سيحدث غداً نعرفه اليوم. فهو كسوري - كما يقول - يعيش خارج الزمان والمكان. والسوريون واللبنانيون يتقاسمون الشيء نفسه. فهما توأمان سياميان لا يوجد جرّاح يمكنه أن يفصل مصير أحدهما عن الآخر، المقرون بـ«اليأس».

«أشياء كثيرة كان يمكن أن يتحدث عنها المرء» (1997) يكتسب أهميته من حيث أنه اختصار لوجع جيل كامل في ساعة سينمائية مكثفة. تبدأ من نكبة 48 حيث فتح ونوس عينيه على قصة شابين من قريته «حسين البحر» تطوعاً في جيش الإنقاذ، ليحررا فلسطين من الذين جاءوا ليحتلوها. كان ترقّب مغمّس بالرهبة والخوف على مصيرهما. لكن الشعور تطور بمرور السنوات: «كنا نكبر وتكبر القضية معنا».

يسير الفيلم على وقع نقاط المصل وصوتها وهي تتدحرج ببطء إلى عروق ونوس. «كنا بلاداً فقيرة» لكن مع كل الهموم اليومية الكثيرة «كنا نحمل هموم القضية وتحولاتها على كواهلنا النحيلة، المتعبة».هزيمة 1967 لحظة حاسمة بعد أن استقر في الأذهان عبر سنوات الكذب والتدجيل أن نكبة 1948 كانت نتيجة الخيانة والأسلحة الفاسدة، وأنها لم تكن أبداً بسبب ضعف القدرة القتالية عند الجندي العربي. «زرعوا في أذهاننا أن مسألة هزيمة إسرائيل هي مسألة ممكنة، في أي لحظة».لذلك جاءت هزيمة 67 مدويّة. «لم أتصور أن القوات العربية في مصر بالذات، وكذلك في سوريا هي من الضعف والتفكك إلى الحد الذي بدت فيه خلال الأيام الستة». وعدت الأنظمة العربية بأنها ستحمي الوطن وأنها المؤهلة للقتال، ولم تفعل شيئاً إلا مراكمة الهزائم.

البكاء مع بلوغ النهاية مشاهد استسلام الجنود كانت مؤلمة. «الصدمة حادة وعنيفة، إذ أحس الجميع أنهم مطعونون بكبريائهم، أنهم مهانون حتى العظم». مشاهد تتخلل المقابلة، منها الأطفال المشردون في الخيام، يأكلون الخبز اليابس مع الشاي، عبد الناصر يعترف بمسؤوليته بعد الهزيمة ويتنحى، جنود إسرائيليون يقصفون بالطائرات، جنود عرب يستسلمون. تتالى المشاهد التي تدعو كلها لمزيد من الانكسار.يكاشفنا ونوس وكأنما يستعيد اللحظة حية. عندما تأكدت الهزيمة «شعرت أنني سأموت في تلك اللحظة، شعرت أنني أختنق.» بكى وبكى، وشعر أنها النهاية. وأن عمراً قد انتهى، وأن التاريخ قد توقف، وأن وجوده قد انطوى.

أهمية حرب 73 أنها كشفت بعد هزيمة ساحقة، أن إسرائيل ليست حصناً منيعاً لا يمكن مسّه، وليست تلك الدولة غير القابلة لأن تجرح وتخسر معارك. «لذلك صفقنا كثيراً. عندما قامت حرب 1973. مجرد شعورنا بأن جنودنا يستطيعون أن يقاتلوا، أعاد لنا شيئاً من الثقة المضعضعة والمعدومة بالذات».

لكن هذه الحرب، من ناحية أخرى، في رأي ونوس، أجهضت الفوران المبشّر بعد 67، وربما أنها كانت في ذهن بعض من شاركوا فيها مقدمة لما أتى بعدها.لم يبقَ سوى الانتحارحين زار أنور السادات إسرائيل أصاب ونوس الذهول. جلس وكتب «أنا الجنازة والمشيعون معاً». كان ذلك آخر نص، ومن بعده التزم سعد الله ونوس الصمت. كان متوتراً ولا يستطيع السيطرة على نفسه بعد أن أنهى كتابة ذلك النص. «تناولت حبة النوم، وحاولت أن أخرج من حالتي. بعد ساعتين أو أقل استيقظت أشد توتراً وضيقاً وكانت الظلمة شاملة أمامي. في تلك الليلة أقدمت على محاولة الانتحار الجدية».

في فترة الصمت الطويلة المغمسة بالاكتئاب، أمضى معظم وقته في القراءة والتأمّل، وفي مواجهة أسئلة التاريخ الموجعة، إلى أن أنعشت مشاعره انتفاضة 1989 وحفزته على كسر الصمت. في تلك السنة بدأ يخطط لكتابة مسرحيته «الاغتصاب». لم يكن غريباً أن يكسر صمته بمسرحية تتناول الصراع العربي الإسرائيلي، وتحاول تحليل بنية النخبة الحاكمة في إسرائيل.

عندما راودته فكرة المصالحةنهاية المسرحية، أثارت الجدل، لأنها تضمنت حواراً بينه وبين طبيب نفسي إسرائيلي، يردد طوال المسرحية مقتطفات من سفر إرمية مستنزلاً اللعنات على السياسة العدوانية للنخبة الحاكمة في إسرائيل، والتي لا تؤدي فقط إلى الإجهاز على الفلسطيني، وإنما على تدمير الإنسان اليهودي أيضاً.

يعترف أنه في تلك اللحظة، كان يفتح باباً على الصلح، وأن إسرائيل في مسرحيته لم تعد حُرُم. «مجرد أن أقدم في المسرحية شخصية يهودية إيجابية تحتج على ما يحدث، وعلى ممارسات (الشين بيت) إزاء الفلسطينيين وعمليات التعذيب التي يقومون بها، مجرد أن أقدم شخصية من هذا النوع إنما يحمل في طياته تعاطفاً مع الإسرائيليين».

المشكلة في البلاد العربية أيضاً، بهذه البنى المتخلفة التي لم تحدّث و«تجعل من شعوبها كماً بشرياً مهملاً» حيث لا يجد المواطن أمامه سوى أن «يطأطئ رأسه».

العلاقة بين القصف والسرطانيعتقد سعد الله ونوس أن ثمة علاقة مباشرة بين حرب الخليج التي أجهزت على بقية الآمال الموجودة لدى العرب، وبدء شعوره بالإصابة بالورم أثناء الحرب، وخلال القصف الجوي الوحشي الذي كانت تقوم به الولايات المتحدة الأميركية ضد العراق. ثم جاءت مفاوضات مدريد بعد هزيمة العراق التي يصفها بـ«الاستسلام» لأنها «لا يمكن أن تكون بداية لسلام حقيقي». الاتفاقات التي تمخضت عنها «ما هي إلا فصل من فصول هذه الحرب الدائرة التي يمكن أن تطول بيننا وبين إسرائيل».

إسرائيل غدت حقيقة تاريخية، غير أنه بقراءة متأنية يستنتج أنها لا تملك مقومات الاستمرار، هي مشروع خاسر. «لا حياة لها إلا إذا اندمجت كجزء في الكل، لا كمخفر مهمته أن يدمّر المنطقة، ويجعلها ممرغة باستمرار في الهزيمة والتخلف والتفتت».يسأله أميرالاي: «هل سنموت، وفينا العلة التي اسمها إسرائيل؟»يجيب: «على الأقل بالنسبة لي شخصياً، من المؤكد أن هذا سيحدث».

أميرالاي رحل هو الآخر عام 2011. ولم يشكّ ونوس بأن جيله كله سيمضي و«في رأسه تلوح هذه الخفقة السوداء الشبيهة بعلامة، هي علامة الخيبة التي تذوق مرارتها على مدّ عمره. لأن إسرائيل ستكون باقية حين يذهب جيلنا إلى نهاية حياته».


علماء الآثار يعثرون على حطام سفينة قديمة قبالة الإسكندرية

اكتشاف حطام سفينة ترفيهية مصرية قديمة عمرها 2000 عام تحت المياه قبالة سواحل الإسكندرية (الشرق الأوسط)
اكتشاف حطام سفينة ترفيهية مصرية قديمة عمرها 2000 عام تحت المياه قبالة سواحل الإسكندرية (الشرق الأوسط)
TT

علماء الآثار يعثرون على حطام سفينة قديمة قبالة الإسكندرية

اكتشاف حطام سفينة ترفيهية مصرية قديمة عمرها 2000 عام تحت المياه قبالة سواحل الإسكندرية (الشرق الأوسط)
اكتشاف حطام سفينة ترفيهية مصرية قديمة عمرها 2000 عام تحت المياه قبالة سواحل الإسكندرية (الشرق الأوسط)

أعلن علماء الآثار البحرية، الاثنين، اكتشاف حطام سفينة ترفيهية مصرية قديمة عمرها 2000 عام تحت المياه قبالة سواحل الإسكندرية.

ووفقاً لوكالة الصحافة الفرنسية، عثر غواصون على هيكل السفينة الذي يزيد طوله على 35 متراً وعرضه نحو 7 أمتار، تحت المياه في ميناء جزيرة أنتيرودوس، حسبما أعلن المعهد الأوروبي للآثار البحرية في بيان.

ووجدت على السفينة كتابات يونانية «قد تعود إلى النصف الأول من القرن الأول للميلاد» و«تدعم فرضية أن السفينة بُنيت في الإسكندرية».

وأضاف المعهد ومقره في الإسكندرية أن السفينة «كانت على ما يبدو تضم مقصورة مزينة بشكل فاخر، وكانت تُشغّل بالمجاذيف فقط».

أسس الإسكندر الأكبر مدينة الإسكندرية عام 331 قبل الميلاد. وضربت سلسلة من الزلازل وأمواج المد ساحلها ما أدى إلى غرق جزيرة أنتيرودوس التي اكتُشفت عام 1996.

على مر السنين، عثر الغواصون على تماثيل وعملات معدنية وكنوزاً أخرى في الجزيرة الغارقة، بعضها معروض في المتحف اليوناني الروماني بالإسكندرية.

ونشر مدير المعهد الأوروبي للآثار البحرية فرانك غوديو، مؤخراً، تقريراً عن أنتيرودوس ومعبد إيزيس فيها، استناداً إلى عمليات استكشاف تحت الماء أُجريت منذ تسعينات القرن الماضي.

وأكد المعهد أن الأبحاث المستقبلية حول الحطام المكتشف حديثاً «تبشر برحلة شيقة في حياة مصر الرومانية القديمة وديانتها وثرواتها ومجاريها المائية».

والإسكندرية موطن لآثار قديمة وكنوز تاريخية، لكن ثاني أكبر مدينة في مصر عرضة بشكل خاص لتداعيات تغير المناخ وارتفاع منسوب مياه البحر، إذ تغمرها المياه بأكثر من 3 مليمترات كل عام.

وتقول الأمم المتحدة إنه في أفضل السيناريوهات سيكون ثلث الإسكندرية مغموراً بالمياه أو غير صالح للسكن بحلول 2050.