لم تتمكن الأيام من أن تسلب مقهى الروضة في العاصمة بيروت رونقه وهذا السحر الذي يجعل الكبار ومن هم في سن الأحلام يتعاملون معه وكأنه على قول فادي النجار، 49 عاما، «من المقاهي القليلة التي ما زالت تحتفظ بطيف بيروت القديمة».
وفي هذه الفسحة المفتوحة على مداها في منطقة المنارة المطلة على بحر رأس بيروت يعيش كل من يرتادها قصته الشخصية وكأن مقهى الروضة ملكه الخاص وكما يقول أحمد الأيوبي، 35 عاما، عن المقهى إنها «عشيقتي وحدي».
وإذا كان هذا المقهى التاريخي الذي يرى البعض أن شهرته تعادل أهمية شارع الحمراء عرف لحظات عزه الحقيقية في سبعينات القرن المنصرم لا سيما مع المثقفين الذين كانوا يشكلون مجموعات صغيرة أو على شكل «شلات» تتألف الشلة الواحدة من عشرات المثقفين الذين ينتمون إلى مختلف الأنماط الفنية فإنه ما زال حتى يومنا هذا يجمع عشرات الأوفياء على اختلاف انتماءاتهم الفنية والثقافية كبارا كانوا أو ما زالوا يخطون أولى خطوات النجاح.
والمشهد الطبيعي صباحا في المقهى الذي يعرف أيضا بـ«قهوة شاتيلا» تيمنا بالعائلة التي ورثته أبا عن جد يستيقظ على طلاب وكتاب وصحافيين وعشاق يسرقون أولى ساعات الصباح كي يستهلوا نهارهم بفنجان قهوة أو كوب شاي وللغوص أيضا بين دفتي كتاب يعيشون أقدار أبطاله فيما البحر يعزف على قول جوسلين شاهين، 42 عاما، «ألحان أسراره».
وتروي لـ«رويترز» «عشت في هذا المقهى عشرات القصص التي تنقسم ما بين قصص حب وصداقات. وكنت ماضيا ألتقي الأصدقاء هنا بشكل يومي بعد الانتهاء من وظيفتي في إحدى شركات الدخان العالمية. اليوم ومع تأسيسي عائلة صغيرة أسرق بعض لحظات عندما تسنح لي الفرصة لأعيش ذكرياتي أمام البحر ولأجد بعض الهدوء بعيدا من مسؤولياتي والضغوط اليومية».
وعلى مر السنين أمست مسألة طبيعية بالنسبة إلى الرواد أن يصادفوا في المقهى كبار الإعلاميين أمثال زاهي وهبي أو الشعراء أمثال شوقي بزيع وأيضا الموسيقي الكبير أحمد قعبور أو رئيس الحركة الثقافية في لبنان بلال شرارة وهم منهمكون في احتساء قهوتهم أو غائرون في أفكارهم وأيضا في أحاديث جانبية مع الأصدقاء.
وبالنسبة إلى الممثل والكاتب المسرحي اللبناني رفيق علي أحمد فإن هذا المقهى هو كما يصفه لـ«رويترز» «شرفة مدينة بيروت». وكل من يزور مقهى الروضة بانتظام يعرف جيدا أن هذا الفنان يعيش ساعات طويلة فيه ومنذ أواخر سبعينات القرن المنصرم ويعتبره أيضا «مكتبي الخاص».
ويعلق ضاحكا «ثمة مثل في المصري يقول قاعد عالقهوة. وأنا شخصيا أقسم نهاري في هذا المقهى إلى دوامين. صباحا هو مكتبي وفيه أكتب مسرحياتي وأجري مقابلاتي الصحافية وأنهي كل ما يتعلق بمسؤولياتي في العمل. ومساء أطبق المثل المصري بمعنى أنني أعيش فيه ساعات من التسلية والمرح والمتعة».
ويروي لـ«رويترز» «منذ أتيت يافعا من الريف إلى بيروت وبناء على نصيحة بعض الأصدقاء عمدت إلى دخول المجتمع الثقافي في العاصمة الذي اتخذ ماضيا المقاهي مقره المحوري. ولكن بعد فترة تعبت من حياة المجموعات ولم يعد في استطاعتي العيش أسير شلة أو أخرى. فإذا بي أكتشف هذا المقهى الذي سرعان ما تحول إلى مقري الشخصي لا سيما وأنني لا أستطيع العيش بين الجدران».
وهذا المقهى التاريخي «ما زال حتى الساعة يحافظ على أشجاره والتراب المنتشر في زواياه كما أن العصافير ما زالت تعشش بين الأغصان».
ويذكر أنه «خلال فترة زمنية استمرت 20 عاما كان لهذا المقهى زبائنه الدويمة أي الثابتون لا سيما وأنه يجمع ما بين عناصر القرية والمدينة في آن واحد. يمكن هنا أن أجلس بمفردي وأعيش ما يشبه العزلة تماما كما أستطيع الانخراط بالآخرين وأتبادل معهم الأحاديث. وهذا ما يعطيني شخصيا التوازن النفسي الذي أحتاجه. كتبت كل مسرحياتي هنا».
وينهي كلامه ضاحكا «كان هذا المقهى حديقتي السرية ولكن مع تناول وسائل الإعلام قصتي معه لم يعد في مقدوري التعامل معه على هذا الأساس. هو اليوم أشبه بالحديقة التي تزين منزلي الافتراضي. ويعرف الأصدقاء أنني إذا لم أجب على هاتفي أنهم سيجدونني هنا. ولهذا السبب صارت قصتي مكشوفة».
أما مدير قسم التواصل الاجتماعي في محطة «الجديد» التلفزيونية في بيروت الشاب إبراهيم دسوقي، 36 عاما، فيرتاد هذا المقهى منذ أكثر من 7 أعوام. بالنسبة إليه المسألة بسيطة «هو المكان الوحيد الذي أجد فيه لمسات من الأصالة. هو مكان حقيقي من حيث إطلالته البسيطة والناس الذين يعيشون طبيعتهم فيه».
ويروي لـ«رويترز» أن «أهلي هم من عرفوني إلى المقهى وأنا في سن صغيرة. كنا خلال فترة الحرب الأهلية في لبنان نتعامل مع الكورنيش البحري وهذا المقهى وكأنهما فسحة الحرية التي نحتاج إليها في زمن الأيام الصعبة. وبعد انقطاع طويل عن مقهى الروضة عدت إليه في السنوات الخيرة وأنا اليوم ارتاده في مختلف ساعات النهار. أحيانا أهرب من المكتب ومعي الحاسوب الشخصي وأعمل هنا. هذا الصباح على سبيل المثال احتسيت قهوتي أمام البحر عند السادسة وصادفت الشاعر والإعلامي زاهي وهبي ولحقه الشاعر شوقي بزيع».
وغالبا ما يتوجه دسوقي إلى المقهى بعد انتهاء دوام العمل «أي السابعة مساء. أشرب النرجيلة وأقرأ الكتب. يمكن أن أجلس ساعات طويلة من دون التنبه إلى الوقت. المطبخ التابع للمقهى يقفل أبوابه عند 11.00 مساء. ولكن المقهى يسمح للزوار بالبقاء في فسحته حتى ساعات الفجر الأولى. منهم من يجلس أمام البحر ساعات وساعات».
ويستطرد قائلا «الأصدقاء يعرفون أنني أرتاد مقهى الروضة باستمرار ولهذا السبب منهم من يزورني هناك. أحيانا نلعب طاولة النرد. ومنهم من يلعب الورق».
ولكن مع تسلم الإدارة الجديدة هذا المقهى التاريخي منعت تقديم الكحول مما أغضب كثر كانوا يجدون متعة في احتساء «كباية بيرة» أمام البحر. وعلى قول صحافي رفض نشر اسمه «أحيانا كنت أعمل في المقهى لساعات طويلة كما كنت أدعو الأصدقاء هناك لنأكل السمك مع كوب من العرق أمام البحر. ولكنني اليوم لم أعد أجد سعادتي في المقهى لا سيما وأنهم ردموا البحر لمسافة كبيرة وامتنعوا عن تقديم الكحول. المديرة المسؤولة عن المقهى لطيفة جدا وهي تدور على الطاولات لتتأكد من أن الجميع مرتاح وغالبا ما نعبر لها عن الاستياء الذي نشعر به حيال منع تقديم الكحول».
وعلى قول أديب وصحافي سبعيني عريق طلب عدم نشر اسمه فإن لقاء الأصدقاء المتقاعدين في المقهى منذ أكثر من 20 عاما بغية لعب الورق من الطقوس «الأساسية في حياتنا. لكل منا تاريخه الطويل في وظيفته. تميزنا في حياتنا العملية والشخصية. لا نتحاور في السياسة. قد تناولنا بعض كتب أو فكرة تروقنا. ولكن الحقيقة أننا نلتهي بالورق. أهمية المقهى أنه يسمح لنا فرصة تمضية ساعات قليلة بأقل ما يمكن من ضرر أو إزعاج ووجع الرأس».
ويقول: «نحن قادمون من مختلف المجالات وأمضينا حياتنا في العمل الدؤوب ولكن في المقهى نصب اهتمامنا على الورق وعلى الاستراتيجيات التي يقوم بها اللاعب الآخر. ورقة واحدة تبدل ما نصفه نحن اللعيبة بالتاريخ. نحن الذين أعطينا الزمن الكثير الكثير ولم نأخذ من الأيام سوى متعة اللقاء في المقهى حول الورق».
الفن والأدب والتاريخ والأصدقاء.. على موعد في مقهى «الروضة» ببيروت
كل من يرتاده يعيش قصته الشخصية ويستهل نهاره بفنجان قهوة أو كوب شاي
الفن والأدب والتاريخ والأصدقاء.. على موعد في مقهى «الروضة» ببيروت
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة