تعمل فانيسا بالوما، المغربية اليهودية، منذ 2007، على تجميع وترتيب مئات التسجيلات في أرشيف صوتي فريد من نوعه في المغرب والعالم العربي بغرض صون الذاكرة وتعريف شباب اليوم بتاريخ مشترك جمع المغاربة باختلاف انتماءاتهم وعقائدهم.
وداخل مكتبها الصغير وسط مدينة الدار البيضاء العاصمة الاقتصادية للمغرب، حيث ما زال يقطن أكبر عدد من المغاربة اليهود، تواصل فانيسا بالوما الباز استكمال ترتيب ما جمعته من تسجيلات صوتية جديدة.
وتتأسف فانيسا في حديثها لوكالة الصحافة الفرنسية لـ«وجود عدد كبير من المغاربة المسلمين الشباب الذين لا يعرفون اليهود ولم يسمعوا يوما بالموسيقى اليهودية العربية». وهي تأمل أن يسهم مشروعها في استعادة الذاكرة المشتركة وتعريف الأجيال الصاعدة بها.
وانطلقت فكرة تجميع هذه التسجيلات بشكل جدي سنة 2008، كما تشرح فانيسا لوكالة الصحافة الفرنسية. وكانت قد جمعت منذ 2007 عددا من التسجيلات في بحث أكاديمي في إطار منحة أميركية. وتطور المشروع في 2011 ليصبح مشروع «خويا: الأرشيف الصوتي للمغرب اليهودي».
وتعني كلمة «خويا» بالدارجة المغربية «أخي» بالعربية. أما بالإسبانية فتعني «الجوهرة». واختيار هذا الاسم للأرشيف، حسب فانيسا، يعني أن اليهود إخوة مع المغاربة في تقاليدهم وأعرافهم ومن الجيد تعاونهم لجمع الذاكرة المشتركة التي تشكل جوهرة الثقافة اليهودية المغربية.
وتنقسم هذه الأرشيفات إلى قسمين رئيسين، كما توضح فانيسا، أولهما يضم التسجيلات الموسيقية التجارية، وكذلك التسجيلات الميدانية الموسيقية التي قامت بها فانيسا ويهود آخرون، أما الثاني فيضم حكايات يرويها يهود، وكذلك مسلمون مغاربة عاشوا مع اليهود.
أرشيفات «خويا» ما زالت مشروعا غير مكتمل بالنسبة لفانيسا التي جمعت مئات الساعات من التسجيلات باعتبار أن الكثير من اليهود المغاربة المتفرقين بين إسرائيل وأوروبا وأميركا وكندا ودول أخرى يحتفظون بالكثير التسجيلات والصور والفيديوهات التي يمكنها إغناء الأرشيف.
وفانيسا بالوما الباز التي تقيم عائلاتها منذ خمسة أجيال في كولومبيا، تنحدر من مدينة تطوان شمال المغرب، حيث تشبع يهود هذه المنطقة بالثقافتين المغربية والإسبانية في الوقت نفسه، وهذا ما يظهر في أغانيها التي تؤديها خلال حفلاتها المنظمة في المغرب وخارجه.
ولم يكن من السهل على فانيسا كما تؤكد جمع كل ذلك الأرشيف بسبب تحفظ العائلات اليهودية، فهي تبذل الكثير من الجهد لإقناعها بتزويد هذا المشروع بالتسجيلات الصوتية العائلية التي تؤرخ للتقاليد بالصوت وكذلك الصورة.
وتحفظ اليهود المغاربة من هذا المشروع، نابع أولا من طبيعة التقاليد اليهودية التي لا تسمح لليهود بالاختلاط كثيرا مع غيرهم، بل تمنعهم من الزواج أو الارتباط بغير اليهود، وأيضا بسبب التخوف من موجة الكراهية المتصاعدة بين الديانتين اليهودية والإسلامية.
وفي إحدى الصور التي تحتفظ بها فانيسا بعناية يظهر مغنيان يهوديان وسط مجموعة مغنين مغاربة في حضرة السلطان محمد الخامس، داخل القصر الملكي في العاصمة الرباط.
ومحمد الخامس هو الملك المغربي المعروف بجملته الشهيرة «لا يوجد في المغرب يهود، يوجد مغاربة فقط».
وبالنسبة لفانيسا فإن هذه الصورة أكبر دليل على التعايش السلمي الذي طبع حياة المغاربة من أعلى الهرم إلى أسفله مع اليهود الذين كانوا جزءا لا يتجزأ من الثقافة المغربية، قبل أن يرحلوا بكثافة إلى إسرائيل، ورغم ذلك يعتبر المغرب أول بلد إسلامي يضم أكبر جالية يهودية بنحو 5 آلاف يهودي.
واعترف دستور 2011 في مقدمته لأول مرة بالمكون اليهودي كأحد مكونات الثقافة المغربية. وقد اعتبر «المملكة المغربية دولة إسلامية ذات سيادة كاملة (..)، وغنية بروافدها الأفريقية والأندلسية والعبرية والمتوسطية»، وهو تصدير نقش بلون ذهبي على الرخام وعلق في مدخل المتحف اليهودي في الدار البيضاء.
ويعتبر هذا المتحف التابع لـ«مؤسسة التراث اليهودي المغربي»، المؤسسة الوحيدة في المغرب والعالم العربي، التي حاولت صيانة 2500 سنة من التراث اليهودي المغربي، حيث أسسه الراحل شيمعون ليفي الكاتب والسياسي المغربي اليهودي الديانة، على أنقاض دار لليتامى اليهود، مع شخصيات يهودية أخرى.
وداخل أسوار هذا المتحف عرضت فانيسا بالوما الباز لأول مرة في شهر فبراير (شباط) مشروع «الأرشيف الصوتي للمغرب اليهودي» بحضور عدد من المهتمين والباحثين ووسائل الإعلام، وكذلك اليهود المغاربة، حيث من المنتظر أن يحتضن هذا المتحف المشروع ويجعله متاحا للعموم.
وتوضح زهور رحيحل، محافظة المتحف لوكالة الصحافة الفرنسية، أنه «ليس هناك اليوم أي دولة عربية تعمل على حفظ ذاكرتها اليهودية، لهذا وجب تحية المغاربة على مبادرتهم»، مضيفة أن المتحف منذ تأسيسه سنة 1996 عمل على جمع كل ما يرتبط بالثقافة اليهودية في خصوصيتها المغربية.
واليوم، إن لم تعد الثقافة اليهودية واقعا يوميا يرى في الشارع المغربي كما في الماضي، بسبب تناقص أعداد اليهود من 300 ألف قبيل الاستقلال (1956) إلى 5 آلاف اليوم، إلا أن زائر المتحف بإمكانه اكتشاف هذه الثقافة عبر أروقة متنوعة.
ويعرض المتحف صورا لأهم الأديرة اليهودية التي تم ترميمها في مدن شمال ووسط وجنوب المغرب، إضافة إلى محاريب خشبية خاصة بالصلاة اليهودية.
كما يضم أروقة للحلي والألبسة التقليدية ولفافات التوراة وأغطيتها القديمة المطرزة بالذهب، إلى جانب مختلف أدوات الصلاة اليهودية والحرف التقليدية وتقاليد الزواج والزينة اليهوديين.
وإضافة إلى المعروضات المادية، كما توضح رحيحل «يعمل المتحف اليهودي منذ تأسيسه منتصف التسعينات، على جمع شهادات اليهود الصوتية والمرئية بغرض إعادة بناء ذاكرة بدأت تندثر منذ انطلاق الهجرة المكثفة لليهود» نحو إسرائيل.
ويظل التحدي الكبير، كما تشرح فانيسا، هو تأسيس مكتبة وطنية مغربية، وليس لليهود فقط، لأنه في نظرها، جزء كبير من الثقافة الشفوية المغربية تندثر مع الزمن بسبب وفاة الأشخاص الذي يحملونها، وبالتالي وجب حفظها لأنها جزء مهم من الذاكرة الوطنية.