لعنة الوثائق الأميركية

من «كوكا كولا».. إلى ويكيليكس فهيلاري كلينتون.. قصص وحكايات

لعنة الوثائق الأميركية
TT

لعنة الوثائق الأميركية

لعنة الوثائق الأميركية

يوم السبت الماضي، لم يدافع الرئيس باراك أوباما عن غريمته هيلاري كلينتون، وزيرة خارجيته السابقة، التي ورطت نفسها في فضيحة يمكن أن تكون جريمة قانونية، تقودها إلى السجن، وليس إلى البيت الأبيض، حلمها من قبل أن يدخله أوباما. لم يدافع عنها أوباما، بل تندر عليها.
في العشاء السنوي في نادي «غريدايورن» (وتعني الكلمة «شواية»)، حيث يتناول صحافيون كبار العشاء مع مسؤولين كبار، يتهكمون، و«يشوون»، بعضهم بعضا، قال أوباما: «قرأت في الصحف أن هيلاري كلينتون عندها (مشغل) إنترنت (سيرفر) في منزلها. كنت أعتقد أنني أنا الرئيس الذي يستعمل أحدث تكنولوجيا الإنترنت. لكن، الآن تأكدت أنني متأخر جدا في هذا المجال».
وقال إنه صار يجيد تكنولوجيا «سيلفي» (التقاط صورة ذاتية بالتليفون). وفي إشارة غير مباشرة إلى كلينتون، قال «ليحذر الرئيس (الرئيسة) بعدي في البيت الأبيض من التقاط صور مهزوزة. ستكون هذه فضيحة أسوأ من إرسال خطاب إلى إيران». قصد، أيضا، السيناتور الجمهوري توم كوتون الذي قاد حملة إرسال خطاب تحذير من 47 من أعضاء الكونغرس إلى إيران ألا توقع اتفاقية القنبلة النووية مع أوباما.
ربما منذ أول وثيقة سرية أميركية احتفظت بها الحكومة الأميركية (مراسلات بين الرئيس الأول جورج واشنطن والملك جورج الثالث، ملك بريطانيا)، لم تتعرض الوثائق الحكومية الأميركية السرية لكوارث (لعنات؟) مثلما حدث خلال العشر سنوات الأخيرة: تسريب الوثائق العسكرية السرية الأميركية عن غزو واحتلال العراق. تسريب وثائق الخارجية الأميركية السرية، إلى ويكيليكس.. والآن، رفض هيلاري كلينتون، وزيرة الخارجية السابقة، الاحتفاظ بوثائق الوزارة السرية في بريد الوزارة الإلكتروني، والاحتفاظ بها في بريدها الخاص، لمدة 4 سنوات.

وثائق كوكا كولا
طبعا، توجد وثائق حكومية ووثائق غير حكومية. وإن تفاوتت واختلفت اللعنات.. ومن أشهر الوثائق الخاصة في الولايات المتحدة «وثائق كوكا كولا»، التابعة لمتحف كوكا كولا، في أتلانتا (ولاية جورجيا). ويظل أهم سر في هذه الوثائق هو طريقة صناعة مشروب «كوكا كولا». منذ عام 1936، صارت كل وثائق الحكومة الأميركية تجمع في «دار الوثائق الوطنية» في واشنطن العاصمة. حتى الآن، توجد فيها أكثر من 10 مليارات وثيقة (سرية وغير سرية). وفي عصر الإنترنت، صارت دار الوثائق تجمع الوثائق الإلكترونية (مليون وثيقة حتى الآن). وبالنسبة لوثائق وزارة الخارجية، صارت إلكترونية منذ 15 عاما.
في الأسبوع الماضي، راجع ستيف كونتورو، كاتب عمود «بلويتكوفاكتز» (حقائق سياسية) في صحيفة «تامبا نيوز» (ولاية فلوريدا) وزراء الخارجية الأميركية خلال العشرين عاما الماضية الذين احتفظوا بوثائق إلكترونية في حسابهم الخاص. ووجد الآتي:
أولا: مادلين أولبرايت (1997-2001): لم تكن عندها وثائق حكومية إلكترونية لأن الإنترنت كان في بداية دخوله الوزارات والمصالح الحكومية. ثانيا: كولين باول (2001-2005): كانت أغلبية وثائقه ورقية. وكان عنده حساب إلكتروني خاص، وضع فيه بعض الوثائق الحكومية. ثم أعادها إلى الخارجية.
ثالثا: سوزان رايس (2005-2009): لم تستعمل البريد الإلكتروني في أعمال حكومية.
رابعا: هيلاري كلينتون (2009-2013): لم تستعمل البريد الإلكتروني التابع لوزارة الخارجية أبدا. وخلال 4 سنوات وضعت كل الوثائق الحكومية في بريدها الخاص. وهذا هو سبب الضجة الحالية. إذا كان باول وضع «عددا قليلا» من الوثائق الرسمية في بريده الخاص، وقال إنه أعادها «كلها»، فقد وضعت كلينتون «كل» الوثائق الرسمية في بريدها الخاص. وقالت إنها أعادت (55 ألف وثيقة).

وثائق كولين باول
لأن كلينتون ديمقراطية، هب الجمهوريون ضدها. بدأ ديمقراطيون يبحثون في الدفاتر.. ثم تساءلوا عن كولين باول الجمهوري. في الأسبوع الماضي، ظهر باول في تلفزيون «إيه بي سي»، وسأله مقدم البرنامج «هل أعدت كل وثائق وزارة الخارجية التي كانت في بريدك الخاص؟» أجاب: «ليست عندي وثائق للخارجية الأميركية لأعيدها.. أعدتها كلها». وسأله مقدم البرنامج: «هل تحتفظ بأي وثيقة رسمية؟»، أجاب: «ليست عندي آلاف الوثائق».
صار واضحا أن أجوبة باول ليست مقنعة. وفي اليوم التالي، سأل صحافيون ماري هارف، المتحدثة باسم الخارجية الأميركية عن وثائق باول. وأجابت: «قال لنا باول إنه يفتش الآن في بريده عن أي وثيقة رسمية». طبعا، إجابة المتحدثة باسم الخارجية ليست مقنعة، مثلما أن إجابة وزير الخارجية الأسبق ليست مقنعة. لهذا، هب ديمقراطيون يقولون إن كلينتون (الديمقراطية) فعلت ما فعل باول (الجمهوري). بل قال ديمقراطيون إن باول أخفى وثائق لها صلة بيوم ذهب إلى مجلس الأمن ورفع أنبوبة فيها سائل. وقال إن الرئيس العراقي صدام حسين يقدر على أن يقتل الملايين بأسلحة الدمار الشامل التي يملكها. كان ذلك يوم 5-2-2003، قبل شهر من غزو العراق.
لهذا، ردا على طلب الجمهوريين في الكونغرس «كل» وثائق الخارجية من هيلاري كلينتون، يتوقع أن يطلب الديمقراطيون في الكونغرس من باول «كل» وثائق الخارجية.
من بين هؤلاء الديمقراطيين السيناتور تشارلز شومر (ديمقراطي من ولاية نيويورك). في الأسبوع الماضي، وقف داخل قاعة مجلس الشيوخ، وقال: «هيلاري كلينتون هي الوحيدة التي أعادت كل الوثائق الرسمية». طبعا، ليس هذا صحيحا. لكن، في جو الاتهامات، والمناورات، والمؤامرات، في واشنطن العاصمة، يصير الخط الفاصل بين الصحيح والخطأ غامضا.

وثائق كلينتون
لكن، ليس هناك غموض في أن هيلاري كلينتون احتفظت بكل وثائق الخارجية لمدة 4 أعوام في بريدها الخاص. وفي مؤتمرها الصحافي اعترفت بذلك. بدأت الفضيحة في بداية هذا الشهر، عندما كشفتها صحيفة «نيويورك تايمز». لكن، صمتت كلينتون 10 أيام قبل أن تعقد مؤتمرا صحافيا عن الفضيحة. خلال فترة صمتها، وفي مناورة سياسية (دراسة الاتهامات قبل التسرع في الرد عليها) أمرت نيك ميريل، المتحدث باسم حملتها الانتخابية، إصدار بيان مقتضب ينفي الاتهامات (لم تنجح المناورة لأن معارضيها قالوا إنها صمتت لتبحث عن «حيلة أخرى»). وحسب وكالة «أسوشييتد برس» استخدمت كلينتون حسابا شخصيا مسجلا لمنزلها في ضاحية شاباكوا، في ولاية نيويورك. ويتبع الحساب لمؤسسة كلينتون، والحساب هو: «إتش آر (هيلاري رودام) 22 آت كلينتون ميل دوت كوم».
يرتبط هذا الحساب مع حساب زوجها بيل كلينتون في نفس مؤسسة كلينتون. وأيضا، مع الحساب الثاني لزوجها «بريزيدانت (الرئيس) كلينتون دوت كوم». وأيضا، مع حساب ثالث «دبليو جي سي أوفيس (مكتب وليام جفرسون كلينتون) دوت كوم». وقالت صحيفة «واشنطن بوست»، اعتمادا على مصادر في الخارجية الأميركية، إن كلينتون أعادت 55 ألف وثيقة حكومية، لكن يعتقد أنها لم تعد 50 ألف وثيقة أخرى. وكانت مواقع في الإنترنت قالت، قبل ذلك، إن كلينتون مسحت 50 ألف وثيقة، أو 100 ألف، أو ..
ولم ينتظر قادة الحزب الجمهوري حتى غروب الشمس ليشنوا هجمات عنيفة على كلينتون.
قال تري غودي (جمهوري، ولاية ساوث كارولينا): «لا يحتاج أي شخص لشهادة في القانون ليقول إن كلينتون خرقت القانون. وخرقت التقاليد. بل خرقت القيم الأخلاقية». وقال غودي إنه طلب من وزارة الخارجية كل وثيقة خلال الأربع سنوات التي كانت كلينتون خلالها وزيرة. وإنه سيستدعي كلينتون للشهادة أمام لجنته في مجلس النواب.
هذه هي اللجنة الخاصة التي كان الجمهوريون في مجلس النواب أسسوها قبل عامين للتحقيق في الهجوم الإرهابي على القنصلية الأميركية في بنغازي، في ليبيا، حيث قتل السفير الأميركي في ليبيا، ودبلوماسيون أميركيون آخرون
وقال جيب بوش، الحاكم السابق لولاية فلوريدا، والذي يتوقع أن يترشح باسم الحزب الجمهوري لرئاسة الجمهورية (ضد كلينتون، إذا لم تتفاقم الفضيحة): «هذا شيء يدعو للاستغراب. لماذا فعلت ذلك؟ وهل فكرت قبل أن تفعله، وخلال فعلها له؟»
وقالت د. جنيفر لوليس، أستاذة القانون في الجامعة الأميركية في واشنطن العاصمة: «ليس هذا غريبا لمن تابع سنوات الرئيس كلينتون الثماني في البيت الأبيض، ومعه زوجته السيدة الأولى في ذلك الوقت. رغم إنجازات كلينتون الداخلية والخارجية، كان هناك جو من عدم الوضوح، وعدم الثقة في معاملاتهما مع الناس، هو وزوجته. كان هناك جو خوف من شيء ما، جو توقع انتقادات، والاستعداد للدفاع ضدها».

البيت الأبيض لا يدافع
حسب قانون الوثائق الفيدرالية، يجب الاحتفاظ بجميع رسائل البريد الإلكتروني الرسمية. ولا تقبل النسخ الورقية من الرسائل الإلكترونية كوثائق رسمية وفقا للقانون. ورغم وجود استثناءات للمواد السرية، يجب الاحتفاظ بالمستندات ورقيا حتى يطلع عليها الصحافيون ولجان الكونغرس والمؤرخون عندما يحين وقت عرضها للجمهور.. وقال مسؤولون عن هيئات رقابة حكومية، ومسؤولون سابقون في إدارة الوثائق والأرشيفات، إن استخدام كلينتون للبريد الشخصي لأغراض حكومية خرق خطير للقانون. وإن البريد الشخصي أكثر عرضة للاختراق من قبل القراصنة.
رغم كل هذه الانتقادات، خاصة من قادة في الحزب الجمهوري قالوا إن ترشيح كلينتون لرئاسة الجمهورية صار غير مضمون، لم يهب البيت الأبيض للدفاع عن كلينتون. وهكذا، بدأت مرحلة جديدة من علاقة كلينتون المتأرجحة مع أوباما، منذ أن نافسته في انتخابات رئاسة الجمهورية عام 2008.
قال جوش ايرنست، المتحدث باسم البيت الأبيض، دون أن يدافع عن كلينتون: «حسب معلوماتنا، لم يكن لوزيرة الخارجية السابقة حساب في وزارة الخارجية. واستعملت حسابا خاصا بها. حسب القانون الذي ينطبق على كل المراسلات الحكومية، يمكن أن يحدث هذا بشرط أن تتحول كل محتويات هذه الحسابات الشخصية إلى قسم الأرشيف في كل وزارة، أو مصلحة حكومية».
وأضاف: «منذ أول يوم في إدارة الرئيس أوباما، أرسلت أوامر واضحة ومحددة بأن كل من يعمل فيها يجب أن يستخدم الحساب الرسمي للجهة التي يعمل فيها. لكن، إذا رأى مسؤول أن يستعمل حسابا خاصا، يجب أن تتحول محتوياته إلى قسم الأرشيف، كما ينص قانون الأرشيف والوثائق الأميركي».
فاكت جيك
يتابع موقع «فاكت جيك» (مراجعة الحقيقة) تصريحات كبار السياسيين والمسؤولين، ويدقق في صحتها. هذه تدقيقات من تصريحات كلينتون:
قالت: «كان سهلا أن أحمل تليفونا واحدا، وأستعمل حسابا واحدا». لكن لم تقل إن جيشا من المساعدين والمرافقين كان يمكن أن يفعل ذلك. قالت: «سمحت لي وزارة الخارجية استعمال حسابي الخاص للأعمال الرسمية».
لكن لم تقل من في الوزارة سمح لها، وهي الوزيرة.
قالت: «أرسلت جزءا كبيرا من بريدي إلى المسؤولين في الخارجية الذين أتعامل معهم، وكانوا يحفظونها في كومبيوترات الوزارة». لكن قبل أسبوعين، قالت جين بساكي، المتحدثة باسم الخارجية، إن حفظ البريد لم يكن أوتوماتيكيا إلا بعد بداية هذا العام. وقبل ذلك، لم يكن هناك مقياس عن حفظ البريد، أو عدم حفظه. قالت: «بعد أن تركت وزارة الخارجية، اتصلوا بي، وطلبوا البريد الذي له صلة بالعمل الرسمي. وفي الحال، أرسلت لهم ما يعادل 55 ألف صفحة مكتوبة». لكن: لم تقل إن الخارجية طلبت منها ذلك بعد 3 أعوام من عملها وزيرة للخارجية. عندما طلبت لجنة في الكونغرس البريد الذي له صلة بالهجوم الإرهابي على القنصلية الأميركية في بنغازي (عام 2013).
قالت: «بعد أن أرسلت كل البريد الرسمي إلى الخارجية، قررت مسح بريدي الخاص. عن أشياء مثل: زواج ابنتي ووفاة والدتي، وحصص اليوغا التي كنت أذهب إليها».
لكن لم تقل ماذا كان مقياس «الرسمي» و«الخاص». قالت: «طلبت من الخارجية نشر كل البريد الرسمي الذي أرسلته. حتى يراه الشعب الأميركي، وحتى يتأكد من العمل الذي قمت به، وأفتخر به، كوزيرة للخارجية». لكن، حسب قانون الوثائق، لا تنشر الوثائق السرية إلا بعد 30 عاما. لماذا تريد نشر وثائقها الآن؟ ولماذا الحديث عن «الفخر»؟
قالت: «في النهاية، أعلن أنني التزمت بكل القوانين المطلوبة هنا».
لكن: صار واضحا أن هذا ليس صحيحا. ويبدو أن العاملين في الوزارة هم الذين التزموا بالقوانين الذي وزعتها هي عليهم، والتي تقول: «لا تستعملوا بريدكم الخاص لعمل الوزارة». وأخيرا، تبدو هذه فضيحة سياسية، وتاريخية، وقانونية. يبدو أن جزءا ليس قليلا من وثائق 4 أعوام لوزيرة الخارجية الأميركية زورت، أو اختفت، أو مسحت، سواء صارت هيلاري كلينتون رئيسة للجمهورية، أم لم تصر.

* فضائح بيل وهيلاري

- ترافيل غيت: نقل أصدقاء ومتبرعين سياسيين بالطائرة الرئاسية.
- هوايتوتر: استثمارات مشبوهة؛ شراء قطعة أرض في ولاية أركنسا.
- كاتيل غيت: استثمارات مشبوهة في بورصة المحاصيل والحيوانات في شيكاغو.
- جنيفر فلاورز: مغنية نادي ليلي، صديقة بيل عندما كان حاكم ولاية أركنسا.
- فنس فوستر: صديق ومستشار في البيت الأبيض، انتحر مع إشاعة علاقة جنسية مع هيلاري.
- بولا جونز: سكرتيرة وصديقة بيل عندما كان حاكما لولاية أركنسا.
- جوانيتا برودريك: صديقة بولا جونز، وأيضا بيل.
- غرفة لنكولن في البيت الأبيض: «للإيجار» لدافعي تبرعات سياسية.
- المعبد البوذي: علاقة مشبوهة وتبرعات سياسية من مهاجرين من الصين.
- ويب هابل: وزير العدل، اضطر لأن يستقيل بسبب فضيحة سياسية.
- كينيث ستار: المحقق الفيدرالي الذي قاضى كلينتون لأنه كذب عن علاقات جنسية.
- مونيكا لوينسكي: سكرتيرة البيت الأبيض بطلة علاقة جنسية مع بيل.
- إلينور روزفلت: قالت هيلاري إنها تتكلم معها في غرفتها في البيت الأبيض.
- العفو الرئاسي: في آخر يوم رئيسا، أعفى عن أصدقاء أدينوا.
- جيفري ابستين: في بداية هذا العام. رفعت قاصر قضية اغتصاب ضده، وقالت إن بيل كلينتون كان يعرف. وإن الأمير البريطاني أندرو كان هناك أيضا (نفى الأمير).



الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
TT

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)

شأن معظم دول المنطقة والإقليم، تسببت الأزمة السورية المتصاعدة في تراجع الاهتمام الرسمي والشعبي العراقي بالحرب التي تشنّها إسرائيل على غزة ولبنان، بعد أن كانت تحظى بأولوية قصوى، خصوصاً بعد التهديدات الإسرائيلية بتوجيه ضربات عسكرية ضد الفصائل المسلحة العراقية التي استهدفتها بأكثر من 200 هجمة صاروخية خلال الأشهر الماضية. وأظهر رئيس الوزراء محمد شيّاع السوداني، موقفاً داعماً للحكومة السورية في ظروفها الحالية منذ اليوم الأول للهجوم الذي شنَّته الفصائل السورية المسلحة وتمكّنت من السيطرة على محافظة حلب ومدن أخرى، إذ أجرى اتصالاً بالرئيس السوري بشار الأسد وكذلك الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، وأكد دعمه لدمشق.

أعلن رئيس الحكومة العراقي محمد شيّاع السوداني، يوم الثلاثاء الماضي، موقفاً أكثر وضوحاً بالنسبة لدعم نظام دمشق، وذلك خلال اتصال - مماثل لاتصاليه مع القيادتين السورية والإيرانية - أجراه مع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان.

ومما قاله السوداني إن «العراق لن يقف متفرجاً على التداعيات الخطيرة الحاصلة في سوريا، خصوصاً عمليات التطهير العرقي للمكوّنات والمذاهب هناك»، طبقاً لبيان حكومي.

كذلك شدّد الزعيم العراقي على أنه سبق لبلاده أن «تضرّرت من الإرهاب ونتائج سيطرة التنظيمات المتطرّفة على مناطق في سوريا، ولن يُسمَح بتكرار ذلك»، مؤكداً «أهمية احترام وحدة سوريا وسيادتها، وأن العراق سيبذل كل الجهود من أجل الحفاظ على أمنه وأمن سوريا».

محمد شياع السوداني (آ ف ب)

السوداني كان قد انهمك بسلسلة اتصالات خلال الأيام القليلة الماضية مع عدد من قادة الدول، بخصوص الوضع في سوريا؛ من «أجل دعم الاستقرار في المنطقة، وعدم حصول أي تداعيات فيها، خصوصاً مع ما تشهده من حرب إجرامية صهيونية مستمرة منذ أكثر من عام» بحسب بيان حكومي.

وأظهرت قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية موقفاً مماثلاً وداعماً لحكومة السوداني في مواقفها حيال سوريا، لكنها أعربت خلال اجتماع، الثلاثاء الماضي أيضاً، عن قلقها جراء الأوضاع في سوريا بعد «احتلال الإرهابيين مناطق مهمة» طبقاً لبيان صدر عن الاجتماع. وعدّت «أمن سوريا امتداداً للأمن القومي العراقي للجوار الجغرافي بين البلدين، والامتدادات المختلفة لذلك الجوار».

الحدود المشتركة مؤمّنة

للعلم، مع الشرارة الأولى لاندلاع الأزمة السورية، اتخذت السلطات العراقية على المستوى الأمني إجراءات عديدة «لتأمين» حدودها الممتدة لأكثر من 600 كيلومتر مع سوريا. وصدرت بيانات كثيرة حول جاهزية القوات العراقية وقدرتها على التصدّي لأي محاولة توغّل داخل الأراضي العراقية من قبل الفصائل المسلحة من الجانب السوري، مثلما حدث صيف عام 2014، حين تمكَّنت تلك الجماعات من كسر الحدود المشتركة والسيطرة على مساحات واسعة من العراق.

اللواء يحيى رسول، الناطق باسم القائد العام للقوات المسلحة العراقية، أوضح (الثلاثاء) أبرز الإجراءات المُتَّخذة لتحصين الحدود مع سوريا. وقال في تصريحات صحافية إن «الحدود مؤمَنة ومُحكمة بشكل كبير من تحكيمات وتحصينات، وهناك وجود لقوات الحدود على خط الصفر الذي يربطنا مع الجارة سوريا مدعومة بالأسلحة الساندة والجهد الفني، المتمثل بالكاميرات الحرارية وأبراج المراقبة المحصّنة». وأضاف رسول: «لا خوف على الحدود العراقية، فهي مؤمّنة ومحكمة ومحصّنة، وأبطالنا منتشرون على طولها»، مشيراً إلى أنه «تم تعزيز الحدود بقطاعات من الألوية المدرعة وهي موجودة أيضاً عند الحدود».

أيضاً، وصل وفد أمني برئاسة الفريق أول قوات خاصة الركن عبد الأمير رشيد يارالله، رئيس أركان الجيش، يوم الأربعاء، إلى الشريط الحدودي العراقي - السوري. وذكر بيان عسكري أن «هدف الزيارة جاء لمتابعة انتشار القطعات الأمنية وانفتاح خطوط الصد».

غموض في الموقف

إلا أنه حتى مع المواقف الحكومية الداعمة لدمشق في أزمتها الراهنة، يبدو جلياً «الالتباس» بالنسبة لكثرة من المراقبين، وبالأخص لجهة شكل ذلك الدعم وطبيعته، وما إذا كانت السلطات الحكومية العراقية ستنخرط بقوة لمساعدة نظام الأسد عسكرياً، أم أنها ستبقى عند منطقة الدعم السياسي والدبلوماسي، تاركة أمر الانخراط والمساعدة الميدانية للفصائل المسلحة.

وهنا يلاحظ إياد العنبر، أستاذ العلوم السياسية في جامعة بغداد، وجود «التباس واضح حيال الموقف من الحدث السوري، وهذا الالتباس نختبره منذ سنوات، وليس هناك تمييز واضح بين العراق الرسمي وغير الرسمي». وتابع العنبر لـ«الشرق الأوسط» أن «مستويات تفعيل المساهمة العراقية في الحرب غير واضحة، وإذا ما قررت الحكومة البقاء على المستوى الدبلوماسي بالنسبة لقضة دعم سوريا، أم أن هناك مشاركة عسكرية».

غير أن إحسان الشمري، أستاذ الدراسات الاستراتيجية والدولية في جامعة بغداد، يعتقد بأن «العراق الرسمي عبَر عتبة التردّد، وبات منخرطاً في الأزمة السورية». وفي لقاء مع «الشرق الأوسط» بنى الشمري فرضيته على مجمل المواقف الرسمية التي صدرت عن رئيس الوزراء، والناطق الرسمي، وزعماء «الإطار التنسيقي»، وشرح قائلاً إن «هذه المواقف بمجملها كسرت مبدأ الحياد وعدم التدخل في شؤون الدول الأخرى الذي يتمسّك به العراق، إلى جانب كونها انخراطاً رسمياً عراقياً بالأزمة السورية».

نتنياهو غير مضمون

ولكن، بعيداً عن الانشغال الراهن بالأزمة السورية، ما زالت التهديدات الإسرائيلية بين أهم القضايا التي تشغل الرأي العام ببعدَيه السياسي والشعبي. وحتى مع الترحيب العراقي بقرار وقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حزب الله»، ما زالت مخاوف البلاد من ضربة إسرائيلية محتملة قائمةً.

ولقد قال الناطق باسم الحكومة باسم العوادي، الأربعاء قبل الماضي، في تصريحات صحافية، إنه «مع عملية وقف إطلاق النار في لبنان، نحن أنهينا الجزء الأسهل، فالمعركة انتهت والحرب لم تنتهِ، فالأصعب أنك ستدخل بالمخططات غير المعلومة. ونحن (العراق) واقعون في المنطقة الحرام، لكن السياسة العقلانية المتوازنة استطاعت أن تجنبنا الضرر».

وأجاب، من ثم، عن طبيعة الرد العراقي إذا ما هاجمت إسرائيل أراضيه، بالقول: «إلى حد أيام قليلة كانت تأتي نتائج جيدة من المعادلات التي اشتغل عليها رئيس الوزراء، لكن رغم ذلك فلا أحد يضمن ما الذي يدور في بال حكومة نتنياهو، وما هو القادم مع الإدارة الأميركية الجديدة، وكيف سيتصرف نتنياهو».

وتابع العوادي، أن «الإسرائيليين عملوا على تفكيك الساحات، وتوجيه ضربات إلى اليمن وسوريا، لكن الطرف العراقي هو الوحيد الذي لم يستطيعوا الوصول إليه بفضل المعادلة... وقد يكونون وضعونا للحظات الأخيرة أو الأيام الأخيرة بنوع ما، وهذا وارد جداً، وتتعامل الحكومة العراقية مع ذلك».

شبح هجوم إسرائيلي

وحقاً، لا يزال شبح هجوم إسرائيلي واسع يخيم على بغداد، إذ تناقلت أوساط حزبية تحذيرات جدية من شنِّ ضربات جوية على العراق. وفي وقت سابق، قال مصدر مقرّب من قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، لـ«الشرق الأوسط»، إنَّ «مخاوف الأحزاب الشيعية من جدية التهديد دفعتها إلى مطالبة رئيس الحكومة للقيام بما يلزم لمنع الهجمات». وأكَّد المصدر أنَّ «فصائل عراقية مسلّحة لجأت أخيراً إلى التحرك في أجواء من التكتم والسرية، وقد جرى بشكل مؤكد إبدال معظم المواقع العسكرية التابعة لها».

وفي سياق متصل، تتحدَّث مصادر صحافية عمَّا وصفتها بـ«التقديرات الحكومية» التي تشير إلى إمكانية تعرّض البلاد لـ«300 هجوم إسرائيلي». وفي مطلع الأسبوع الماضي، شدَّدت وزارة الخارجية العراقية، في رسالة إلى مجلس الأمن، على أهمية «تدخل المجتمع الدولي لوقف هذه السلوكيات العدوانية لإسرائيل».

كما أنَّه حيال التهديدات الجدية والخشية الحقيقية من عمل عسكري إسرائيل ضد البلاد، اهتدت بعض الشخصيات والأجواء المقرّبة من الحكومة والفصائل إلى «رمي الكرة» في الملعب الأميركي، مستندين بذلك إلى اتفاقية «الإطار الاستراتيجي» المُوقَّعة منذ عام 2011، بين بغداد وواشنطن، وهو العام الذي خرجت فيه القوات الأميركية من العراق.

التهديدات الإسرائيلية من أهم القضايا التي تشغل الرأي العام العراقي

هادي العامري (رووداو)

العامري يلوم واشنطن

أيضاً، وجد هادي العامري، زعيم منظمة «بدر»، بنهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، الفرصة ليحمّل واشنطن مسؤولية حماية الأجواء العراقية، بعدما شنَّت إسرائيل هجوماً عسكرياً ضد إيران، مستخدمةً الأجواء العراقية في هجماتها. ويومذاك، حمّل العامري الجانب الأميركي «المسؤولية الكاملة» على انتهاك إسرائيل سيادة الأجواء العراقية في طريقها لضرب إيران. وقال، إن «الجانب الأميركي أثبت مجدّداً إصراره على الهيمنة على الأجواء العراقية، وعمله بالضد من مصالح العراق وشعبه وسيادته، بل سعيه لخدمة الكيان الصهيوني وإمداده بكل ما يحتاج إليه لممارسة أساليبه العدوانية، وتهديده للسلام والاستقرار في المنطقة».

وأضاف العامري: «لهذا باتت الحاجة ماسة أكثر من أي وقت مضى لإنهاء الوجود العسكري الأميركي في العراق بأشكاله كافة». وللعلم، فإن منظمة «بدر» - التي يقودها العامري - وردت ضمن لائحة المنظمات التي اتهمتها إسرائيل بشنِّ هجمات ضدها خلال الشكوى التي قدمتها إلى مجلس الأمن في 18 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.

وبناءً على تصريحات العامري السالفة، وتصريحات أخرى لشخصيات مقرّبة من الفصائل المسلحة وقوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، تبلورت خلال الأسبوع الأخير، قناعة داخل أوساط هذه القوى مفادها، بأن واشنطن «ملزمة وبشكل مباشر بحماية الأجواء العراقية» من أي هجوم محتمل من إسرائيل أو غيرها، أخذاً في الاعتبار الاتفاقية الاستراتيجية الموقعة و«سيطرتها على الأجواء العراقية».

وبالتوازي، سبق أن حمّل فادي الشمري، المستشار السياسي لرئيس الوزراء، الولايات المتحدة، أيضاً وفقاً لـ«اتفاقية الإطار الاستراتيجي والاتفاقية الأمنية»، مسؤولية «الردع، والرد على أي هجمات خارجية تمسّ الأمن الداخلي العراقي».

الرد الأميركي قاطع

في المقابل، تخلي واشنطن مسؤوليتها حيال هذا الأمر. ورداً على المزاعم العراقية المتعلقة بـ«الحماية الأميركية»، قالت ألينا رومانوسكي، السفيرة الأميركية في بغداد، صراحةً إن بلادها غير معنية بذلك. وأردفت رومانوسكي، خلال مقابلة تلفزيونية سابقة، أن التحالف الدولي دُعي إلى العراق لـ«محاربة (داعش) قبل 10 سنوات، وقد حققنا إنجازات على مستوى هزيمة هذا التنظيم، لكنه ما زال يمثل بعض التهديد، ودعوة الحكومة العراقية لنا تتعلق بهذا الجانب حصراً. أما اتفاقية الإطار الاستراتيجي فتلزمنا ببناء القدرات العسكرية العراقية، لكنها لا تتطرق لمسألة حماية الأجواء والدفاع بالنيابة». ونفت السفيرة أن تكون بلادها قد «فرضت سيطرتها على سماء العراق».

والاثنين قبل الماضي، قالت رومانوسكي، خلال لقاء «طاولة مستديرة» لعدد من وسائل الإعلام: «أود أن أكون واضحة جداً، ومنذ البداية، بأن الإسرائيليين وجّهوا تحذيرات ردع للميليشيات المدعومة إيرانياً والموجودة هنا في العراق، التي تعتدي على إسرائيل». وأضافت: «هذه الميليشيات هي التي بدأت الاعتداء على إسرائيل. ولأكون واضحة جداً في هذه النقطة، فإن الإسرائيليين حذّروا حكومة العراق بأن يوقف هذه الميليشيات عن اعتداءاتها المتكررة والمستمرة على إسرائيل... إن رسالتنا إلى حكومة العراق هي أن تسيطر على هذه الميليشيات المنفلتة، والتي لا تعتد بأوامر الحكومة وأوامر القائد العام للقوات المسلحة رئيس الوزراء. إن إسرائيل دولة لها سيادتها، وهي سترد على أي اعتداء من أي مكان ضدها».

جدعون ساعر (آ ف ب)

 

حقائق

قلق عراقي جدّي من التهديدات الإسرائيلية مع مطالبة واشنطن بالتدخّل

خلال الأسبوع قبل الماضي، بعث وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر رسالةً إلى مجلس الأمن تكلّم فيها عمّا أسماه بـ«حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها»، وحمّل فيها الحكومة العراقية المسؤولية عن الهجمات التي تشنها الفصائل العراقية عليها، داعياً مجلس الأمن للتحرك والتأكد من أن الحكومة العراقية تفي بالتزاماتها. ساعر اتّهم بالتحديد «عصائب أهل الحق» و«كتائب حزب الله» و«ألوية بدر» وحركة «النُّجباء» و«أنصار الله الأوفياء» و«كتائب سيد الشهداء»، بمهاجمة إسرائيل، ومعظم هذه الفصائل مشاركة في الحكومة العراقية الحالية ولها نفوذ كبير داخلها. هنا، تجدر الإشارة إلى أنه سبق لرئاسة الوزراء العراقية توجيه وزارة الخارجية لمتابعة ملف التهديدات الإسرائيلية في المحافل الأممية والدولية وأمام هيئات منظمة الأمم المتحدة، واتخاذ كل الخطوات اللازمة، وفق مبادئ القانون الدولي، لحفظ حقوق العراق وردع تهديدات إسرائيل العدوانية. كذلك طالبت رئاسة الوزراء بـ«دعوة جامعة الدول العربية إلى اتخاذ موقف حازم وموحّد ضد تهديدات سلطات الكيان المحتل، يتضمن إجراءات عملية تستند إلى وحدة المصير والدفاع المشترك». وهذا بجانب «مطالبة مجلس الأمن الدولي بالنظر في الشكاوى المقدمة من جمهورية العراق ضد سلطات الكيان المحتل، واتخاذ إجراءات رادعة تكفل تحقيق الاستقرار والسِّلم الإقليمي والدولي»، وباتخاذ الولايات المتحدة مع العراق، من خلال الحوارات الأمنية والعسكرية ضمن إطار القسم الثالث من «اتفاقية الإطار الاستراتيجي»، خطوات فعالة «لردع سلطات الكيان المحتل» مع دعوة «التحالف الدولي والدول الأعضاء فيه إلى كبح هذه التهديدات والحدّ من اتساع رقعة الحرب».