عشقه للموسيقى العربية وتقاسيمها يدفعه ليمسك بفرشاته في حالة من التجلي، محلقا ما بين تخوم الفن التشكيلي وعوالمه اللونية والسلالم الموسيقية، وما بين الاثنين تولد لوحات تنطق بأروع الألحان، تزاوج بين كلمات أشهر الأغاني المصرية التراثية مثل «جفنه علم الغزل» للموسيقار محمد عبد الوهاب، ورائعة كوكب الشرق أم كلثوم «الأطلال».
في معرضه الحالي يأخذنا الفنان التشكيلي المصري حلمي التوني، ما بين 44 لوحة زيتية تحتضنها قاعة «بيكاسو» بالزمالك، تنقلنا ما بين ألحانها الطربية البارزة في خلفية اللوحات تشدو بالكلمات المخطوطة بعناية، تجاور الشخصيات وتحاكيها، وكأنها دعوة لزمن الفن الجميل ومصر في عصرها الذهبي وألقها الفني.
وفي أحد أركان المعرض، تتناص لوحة لـ3 نساء مصريات مع لوحة الفنان الكبير محمود سعيد الشهيرة «بنات بحري» مستوحية رمزية «الملاية اللف» و«اليشمك» على إيقاع أغنية «تلات سلامات». بشكل عام، يحتفي التوني في معرضه بالمرأة المصرية مبرزا تفاصيلها الساحرة محكما العلاقات التشكيلية ما بين التفاصيل (المكلحة والكردان والخلخال)، والصيغة (الأغاني الشعبية المخطوطة بجانبها)، التي تنصهر فتبدو جلية مدلولاتها البصرية.
منذ أول معرض له عام 1975 عقب عودته من رحلة عمل ببيروت لمدة 3 سنوات، يعترف التوني دائما بأنه مصاب بداء «الطرب»، وخصوصا أغاني المطرب الشعبي الراحل محمد عبد المطلب، تلك الأغاني الطربية التي تصل بالمستمع لحد «السلطنة»، هكذا أخذ التوني على عاتقه أن تحمل لوحاته بتدريجاتها اللونية رسالة مفعمة بالبهجة و«السلطنة البصرية». وهو ما يتجلى في لوحة «الأطلال» للسيدة أم كلثوم، ولوحة «أوعى تكلمني بابا جاي ورايا».
خلق التوني تياره الفني الخاص، وإن كان متكئا على الاتجاه التعبيري، حيث تفصح الأشكال والأحجام والألوان والظلال عن المشاعر الفنية المعتملة داخل الفنان، وينقلها عبر قوالب وأيقونات ورموز تظهر في لوحاته. أما بالنسبة للألوان، فهو يتشابه مع هنري ماتيس في بساطة استخدام الألوان، فغالبية الألوان غير مخلوطة، ألوان صريحة واضحة معبرة بقوة.
وينطلق التوني من التعبيرية باتجاه النزعة الرومانسية حيث يلعب التوني على تيمة التناغم بين الألحان المطبوعة في ذاكرة المتلقي والرموز الفولكلورية الضاربة في جذور التراث الشعبي المصري، مثل: «القلل، والمشربيات، والأزياء الشعبية المصرية كالجلباب والمنديل أبو أويه»، فتفتح شهية ذهن المتلقي لحالة نوستالجية تجبره على التأمل والشرود في الماضي، متسائلا: لماذا اختفت رموزنا وتراثنا الشعبي؟
يميل التوني إلى الذهاب بتعبيرية لوحاته إلى الفن الشعبي حيث يعبر عن مكنون نفسه بالكلمات إلى جانب ضربات الفرشاة المستعرة، عاكسا خطوطا إيقاعية متناغمة تكشف لنا عن اشتياقه وولعه بالتراث المصري الذي وارته العولمة وسحقته، ونفخ فيه الفنان الروح من جديد.
يظهر الجانب التعبيري بوضوح في تجسيده لشخصيات مصرية شهيرة، ويتجلى ذلك في اللوحتين اللتين تظهر فيهما «أم كلثوم»، فكانت ضربات الفرشاة بإيقاعات لونية محسوبة، وجعل وجهها هو مركز الضوء باللون الأبيض، متعمدا إظهار ملامحها وتحديدها باللون الأسود، بينما ترتدي في اللوحتين اللون البنفسجي الذي هو خليط بين الضوئين؛ الأحمر والأزرق، عاكسا الكيان الشكلي الكلي لها لكي يكون مرادفا للجدية والصرامة. وتبدو في أم كلثوم في لوحة «الأطلال» واقفة في جلال، بردائها البنفسجي وقد كسر قتامة اللون بالوشاح الأخضر حاملا رمز الملكية المصرية، واستكمل اللوحة بكلمات من قصيدة الأطلال «واثق الخطوة يمشي ملكا.. ظالم الحسن شديد الكبرياء»، أما اللوحة الأخرى، التي خط فيها كلمات أغنية «حبيب قلبي وافاني في ميعاده»، فأضاف عليها رموزا تشي بالبهجة كالهدهد والزهور.
يستخدم التوني تقنية البعد الثالث بوجوه شاخصة إلى الفراغ بنظرة مبهمة لكنها تأخذك إلى عالمها. في كل لوحة يصدح التوني بألحانه عبر فرشاته التي تلمس مضمون الأغنية بإيحاءات تعبيرية، داعيا متلقيه إلى البهجة والتفاؤل في ظل حالة التشاؤم التي تعم في أنحاء العالم.
يعتبر التوني من أبرز الفنانين في العالم العربي في مجال تصميم الكتب والمجلات، وهو حاليا المخرج الفني لمجلة وجهة نظر الثقافية، وهو فنان تشكيلي متخصص في التصوير الزيتي والتصميم، ولد بمحافظة بني سويف بمصر في 30 أبريل (نيسان) عام 1934، وحصل على بكالوريوس كلية الفنون الجميلة تخصص ديكور مسرحي عام 1958 ودرس فنون الزخرفة والديكور، وأقام كثيرا من المعارض سواء محلية أو دولية، ويقتني لوحاته كثيرون في مختلف دول العالم، كما أن متحف الفن المصري الحديث بالقاهرة يقتني عددا من لوحاته القيمة.
حضر افتتاح معرضه الحالي نخبة من المثقفين والفنانين التشكيليين المصريين وكان على رأس الحضور: الفنان التشكيلي الكبير مصطفى الرزاز، والفنان أشرف رضا، والمهندس والناشر الكبير إبراهيم المعلم، وزوجته أميرة أبو المجد، ود. محمد أبو الغار، والناقد الفني طارق الشناوي، ويمتد المعرض حتى يوم 17 المقبل.
«المغنى حياة الروح».. معرض لحلمي التوني تراه وتسمعه
44 تحفة فنية تحتفي بالتراث المصري وتمزج بين «السلطنة» الطربية والبصرية
«المغنى حياة الروح».. معرض لحلمي التوني تراه وتسمعه
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة