عبد الله القصيمي.. قصة تحولات فكرية عاصفة

هاجمه اليمينيون واليساريون على حد سواء وظل دائمًا صديقًا للجميع

عبد الله القصيمي (يمين الصورة) مع المؤلف إبراهيم عبد الرحمن، وغلاف الكتاب
عبد الله القصيمي (يمين الصورة) مع المؤلف إبراهيم عبد الرحمن، وغلاف الكتاب
TT

عبد الله القصيمي.. قصة تحولات فكرية عاصفة

عبد الله القصيمي (يمين الصورة) مع المؤلف إبراهيم عبد الرحمن، وغلاف الكتاب
عبد الله القصيمي (يمين الصورة) مع المؤلف إبراهيم عبد الرحمن، وغلاف الكتاب

يقدم الكاتب المصري إبراهيم عبد الرحمن، قصته الطويلة والمثيرة مع المفكر السعودي الراحل عبد الله القصيمي، منذ أن تعرف إليه وهو طالب في المرحلة الثانوية في مدينة حلوان المصرية، إلى أن واراه الثرى ونشر خبر نعيه في صحيفة «الأهرام» القاهرية، وذلك في كتابه الجديد «خمسون عاما مع عبد الله القصيمي»، الذي صدر عن دار «جداول» للنشر والترجمة والتوزيع في بيروت، وعرض الكتاب في معرض الرياض الدولي للكتاب الذي يختتم فعالياته الجمعة 13 مارس (آذار) الحالي.
يروي المؤلف تفاصيل مهمة على مدى خمسين عاما مع القصيمي، منذ لحظة اللقاء الأول، مرورا بأحداث ومواقف في حياة المفكر الراحل ومسيرته لم تعرف من قبل، وكذلك نشاطه الفكري والثقافي في القاهرة، ثم في بيروت، وقرارات إبعاده من القاهرة أولا، ثم بيروت ثانيا، موضحا أسبابها وتداعياتها، معرجا على أبرز ضيوف ندوته الأسبوعية وكيف كانت تدار تلك الندوة، كما تتبع المؤلف تاريخيا مسار إصدارات ومؤلفات عبد الله القصيمي في تحولاته الفكرية التي يرى أنها 3: السلفية، ثم التجديدية، ثم التحرر والتمرد، وهي مؤلفات بلغت 22 كتابا، بكل ما شاب تأليفها وطباعتها من ظروف وملابسات وحيل للتغلب على نقل بعض مخطوطاتها من القاهرة إلى بيروت، وأخيرا باريس.
ولم يغفل المؤلف الإحباط الذي عاشه القصيمي بعد تراجع توزيع كتبه في الوطن العربي بسبب منعها، وهو إحباط لازمه حتى وفاته، ووصف المؤلف، الذي لازم القصيمي، سنوات طويلة ونشأت بينهما علاقة ود ومحبة، لدرجة أن القصيمي أوصاه بجمع كتبه والكتابة عنها خشية ضياعها.
ومن المعروف أن القصيمي عاش حياته كلها مناضلا صلبا، ومدافعا عنيدا من أجل الأفكار والمبادئ التي آمن بها، والتي قادت لتعرضه لـ3 محاولات اغتيال نجا منها، بالإضافة إلى إصدار كتب خصصت للهجوم عليه، كما هاجمه اليمينيون باعتباره يساريا، وهاجمه اليساريون باعتباره غير ملتزم، ولكنه ظل دائما صديقا للجميع.
منذ مراهقته، ناضل القصيمي ضد البدع والخرافات التي تفسد الدين والحياة. ومع تطور الوعي عنده بحقائق الحياة التي تفتحت أمام عينيه، أخذ يبحث في أسباب تخلف العالم العربي والإسلامي، وكيف يمكن تجاوز هذه الأسباب والعبور من هذا التخلف. وفي طور النضج الفكري والأخلاقي والشعوري، أخذ يناضل من أجل الإنسان في كل مكان، متأملا في قضاياه وهمومه وتحدياته واحتياجاته، ووجوده ذاته.
كان القصيمي ثائرا من طراز فريد، متمردا على أعلى مستوى، بأفكار ورؤى ثورية جريئة تحدت كل المسلمات في مختلف مناحي الحياة، في الدين وفي الفلسفة وفي الاجتماع وفي الفكر وفي السياسة، ولعل أفكاره السياسية هي التي دعت إلى تحجيم دوره وقصر ما يكتب عنه لدى البعض على الجانب الديني وحده، كما أن أفكاره الدينية دعت إلى قصر ما يكتب عنه لدى البعض الآخر على الجانب السياسي وحده.
ويعد القصيمي أول من تنبأ بتوغل الإرهاب في البلاد العربية، فقد كتب في كتابه «هذي هي الأغلال» الذي صدر عام 1946: «إن أعاصير رجعية مجنونة لتهب في هذه الآونة الأخيرة على مصر التي رضيناها لنا زعيمة، وإنها لتترنح تحتها، ولا ندري أتثبت أم تتهاوى تحت ضرباتها الوجيعة، لست أحاول هنا وقف العاصفة، فهي لن تقف. ولكنها ستنكسر على الشواطئ الصخرية، ستذهب مرتها في انطلاقتها في هذا الفضاء الرحيب، وفي دورانها حول نفسها، وحينئذ نرجوا أن توجد العوامل التي تمنع هبوبها من جديد، أو لا توجد العوامل التي تجعلها تعصف مرة أخرى».
ويرى المؤلف إبراهيم عبد الرحمن أن القصيمي ليس فيلسوفا بالمعنى الأكاديمي للكلمة، فهو ليس صاحب نظرية فلسفية متكاملة متناسقة جامعة، بحيث تجد فيها جوابا أو حلا نظريا للمشكلات التي تطرحها الفلسفة عادة، ولكنه مفكر يعالج مشكلات فلسفية وفكرية وإنسانية وأخلاقية ونفسية واجتماعية معالجة تتسم بالطرافة والجرأة المتناهية، إلى جانب العمق والأصالة والجدية.
أما السمات الرئيسية لفكر القصيمي، فيورد المؤلف قول الدكتور أحمد السباعي: «إنه فكر محدق، ثائر، رافض، محتج، مشترط.. محدق في كينونة الإنسان والكون والوجود. ثائر ومتمرد على كل قيد يغل الفكر عن الانطلاق. رافض لكل المذاهب والعقائد والعادات والتقاليد التي تلقن. محتج على الشرور والعذابات التي تملأ عالمنا. مشترط على الإنسان الحاكم والمحكوم، كما أنه مشترط لهم. وتتجلى أهمية هذه السمات في تلك الجرأة المتناهية التي قلما تجد مثيلا لها في الفكر الإنساني قديمه وحديثه».
ويورد السباعي في كتابه «فكر عبد الله القصيمي» قوله عن نفسه: «أنا احتجاج، أنا رفض دائم، أنا لست مذهبا، لست معلما، لست صانع قيود، لست حامل قيود، أنا أرفض الطغيان والقيود، أنا أنقدها».
كما يشترط على الكاتب ما يلي: «المفروض، بل المطلوب من الكاتب أن يحول القراء إلى تساؤلات شاملة حادة، وإلى غضب عقلي وفكري ونفسي وأخلاقي وإنساني، وإلى بحث عن الحلول ومطالبة بها ومحاولة لإيجادها وإصرار على البحث عنها والتفكير فيها».
ويعتبر المؤلف أنه إلى جانب الفكر العميق عند القصيمي فهو صاحب حس مرهف. كان ضعيفا إنسانيا إلى حد لا يصدق أمام آلام الآخرين ومعاناتهم، كان يتعذب بأفكاره، كما يتعذب بآلامه وآلام الآخرين. وكانت عذابات الإنسان، في أي مكان، هي عذاباته الشخصية. ولذلك فكان صرخة احتجاج على قبح العالم ودماماته. وكان عزاؤه أن يقرأ لجبران خليل جبران، أو يستمع إلى فيروز، أو يقرأ شعر نزار قباني الذي كان معجبا بموسيقاه. كان يكتب لي، ولأصدقائه الآخرين: «كم أنا محتاج إلى العواطف الإنسانية الصادقة، لهذا كم أنا محتاج إلى صداقتكم. لهذا كم أتعذب عندما أفقدكم ولو بالسماع، فكيف بالرؤية؟». أو يتحدث إلينا بالهاتف قائلا: «كلموني أبدا.. كي تخففوا الألما واستجيبوا للدعا.. لا تكونوا كالسما».
وحرص الراحل القصيمي على حراسة كتبه من الضياع، قائلا للمؤلف: «رغبتي صادقة وحارة في أن تكون لديكم مجموعة كاملة من كتبي. آملا في حراستها من الضياع المحتمل جدا أو المحتوم. فقد أذهب في أي لحظة، وقد تذهب - أيضا - هذه الكتب. ولكن لماذا هذه الرغبة؟ أي الرغبة في ألا تضيع أو تفقد أو تختفي أو تموت! إني لا أعرف تفسيرها أو منطقها أليس كل شيء في هذا الوجود بلا تفسير أو منطق مهما تراكمت التفاسير والأحاديث عن منطق كل شيء؟ إن منطق كل شيء فقده لكل منطق.. لأي منطق! وكيف الحصول عليها كاملة؟ ألستم قادرين على ذلك؟!».
ويتساءل المؤلف في حديثه عن أيام القصيمي الأخيرة، بقوله: «لم يهزم القصيمي المرض، رغم قسوته، ولكن هزمته مؤامرات الصمت التي حيكت حول أفكاره وكتبه. فهل مات مهزوما مقهورا؟ أم نحن الذين عشنا بعده مهزومين مقهورين؟».
بعد وفاة القصيمي، تنازل أبناؤه عن مكتبته الخاصة، لمكتبة الملك فهد الوطنية بالعاصمة السعودية الرياض، التي أفردت لها ركنا خاصا لعرض هذه المكتبة المليئة بكتب التراث القيمة الدينية والعلمية والتاريخية والفقهية، فيما كانت إصداراته خلال حياته 22 كتابا، تقع في 6672 صفحة، ألفها الراحل في كل من القاهرة وبيروت وباريس.



فتاة العبّاسية في أحلام نجيب محفوظ

نجيب محفوظ
نجيب محفوظ
TT

فتاة العبّاسية في أحلام نجيب محفوظ

نجيب محفوظ
نجيب محفوظ

كان في حياة نجيب محفوظ قصة حب غريبة الشأن. قصة حب صامت ومن طرف واحد. حب عابدٍ مُتَوَلِّهٍ، خاشعٍ يرفع القرابين لإله لا يعلم حتى بوجوده. كمثل امتناننا للشمس كل صباح وهي لا تدري بوجودنا ولا نحن نتوقع منها ذلك. إلا أن الغرابة لا تتوقف عند هذا الحد. فهذا الحب الذي خبره محفوظ وهو صبي على عتبات المراهقة بقي معه طوال عمره المديد، وكان له أثر بليغ في قصصه ورواياته في كل مراحله الإبداعية، وحتى النهاية، حيث تتجلى تلك المحبوبة التي أسميها بـ«فتاة العباسية» تجلياً عظيماً في آخر أعماله إطلاقاً: «أحلام فترة النقاهة».

كان محفوظ يتحدَّث حديثاً مباشراً وإن كان نادراً عن تلك الفتاة ما بين الفينة والفينة، أذكر منه على سبيل التخصيص ما قاله في أحاديث سيرته الشخصية إلى رجاء النقاش والتي نُشرت بعنوان «نجيب محفوظ: صفحات من مذكراته وأضواء جديدة على أدبه وحياته» (1998). ها هو يحكي القصة في اختصار: «في العباسية عشت أول قصة حب حقيقية في حياتي، وهي قصة غريبة ما زلت أشعر بالدهشة لغرابتها كلما مرت بذهني، وكنت أيامها على أعتاب مرحلة المراهقة (...) كنت ألعب كرة القدم في الشارع مع أصدقائي، وكان بيتها يطل على المكان الذي نلعب فيه. وأثناء اللعب شدني وجه ساحر لفتاة تطل من الشرفة. كنت في الثالثة عشرة من عمري، أما هي فكانت في العشرين، فتاة جميلة من أسرة معروفة في العباسية. رأيت وجهاً أشبه بلوحة (الجيوكاندا) التي تجذب الناظر إليها من اللحظة الأولى. ربما جذبني إليها بالإضافة إلى جمالها أنها كانت مختلفة عن كل البنات اللاتي عرفتهن قبلها. لم تكن فتاة تقليدية مثل بنات العباسية، بل كانت تميل إلى الطابع الأوروبي في مظهرها وتحركاتها، وهو طابع لم يكن مألوفا آنذاك... ظل حبي قائماً لهذه الفتاة الجميلة من بعيد ومن طرف واحد، ولم أجرؤ على محادثتها أو لفت انتباهها إلى حبي الصامت، واكتفيت منها بمجرد النظر (...) استمر الحب الصامت لمدة عام كامل. وكم كان حزني شديداً عندما تزوجت فتاتي وانتقلت إلى بيتها الجديد. كنت أعلم أن ارتباطي بها شبه مستحيل، رغم ذلك همت بها حباً (...) وصدمت لزواجها بشدة. انقطعت عني أخبارها، ومضت الأيام (...) إلا أن حبي لها لم يهدأ أبداً، وظلت آثاره عالقة بقلبي وذاكرتي (...) ولقد صورت قصتي مع تلك الفتاة في رواية (قصر الشوق) مع تعديلات تتفق مع الإطار العام الذي وضعته للرواية». (ص105 - 106).

كانت «قصر الشوق»، ثاني أجزاء «الثلاثية»، هي العمل الأكبر الذي تجلت فيه قصة الحب تلك وتجسدت فتاة العباسية في شخصية «عايدة شداد» وتجسد حب محفوظ لها في افتتان كمال عبد الجواد ابن التاجر البسيط بعايدة ابنة الباشا، قاطنة القصور. لكن حضور فتاة العباسية ملحوظ لمن يتقصَّاه في أعمال محفوظ منذ مجموعته القصصية الأولى «همس الجنون» في باكورة حياته فصاعداً، وقد رصدت ذلك في أحد فصول كتابي «استنطاق النص» (2006). أما آخر تجليات فتاة العباسية فكانت في آخر مراحل حياته، فالفتاة التي طاردت وعيه الظاهر طوال عمره، انتقلت إلى مطاردة وعيه الباطن أيضاً في الختام، كما نرى في «أحلام فترة النقاهة» الذي نُشر سنة 2005 قبيل رحيله. وقد أحصيتُ في كتاب الأحلام هذا وحده (ناهيك عن القسم الثاني منه الذي نُشر لاحقاً بعنوان «الأحلام الأخيرة» في 2015 بعد أن اكتشفت أسرته المزيد من نصوص الأحلام) - أحصيت 16 نصاً من مجموع 239. سأقتصر هنا على ثلاثة منها مع محاولة لتفسيرها.

ها هو نص الحلم رقم 18: «تمَّ مجلسنا على الجانبين في القارب البخاري. بدا كل واحد وحده لا علاقة له بالآخرين. وجاء الملَّاح ودار الموتور. الملَّاح فتاة جميلة ارتعش لمرآها قلبي. أطلَّت من النافذة وأنا واقف تحت الشجرة، وكان الوقت بين الصبا ومطلع الشباب. وركَّزتُ عينَي في رأسها النبيل وهي تمرق بنا في النهر. وتتناغم خفقات قلبي مع دفقات النسيم. وفكَّرتُ أن أسير إليها لأرى كيف يكون استقبالها لي. لكني وجدت نفسي في شارعٍ شعبي لعله الغورية، وهو مكتظٌّ بالخلق في مولد الحسين، ولمحتها تشق طريقها بصعوبة عند أحد المنعطفات، فصممت على اللحاق بها. وحيَّا فريق من المنشدين الحسين الشهيد. وسرعان ما رجعتُ إلى مجلسي في القارب، وكان قد توغَّل في النهر شوطاً طويلاً. ونظرت إلى مكان القيادة فرأيتُ ملَّاحاً عجوزاً متجهِّم الوجه، ونظرتُ حولي لأسأل عن الجميلة الغائبة، ولكني لم أرَ إلا مقاعد خالية».

يستدعي هذا الحلم فتاة العباسية. تلك الفتاة التي كانت تطل من النافذة حيناً بينما يتأملها الفتى محفوظ المشدوه بجمالها من الطريق، أو التي تمر في عربة تجرها الخيل فيراها في نافذتها. أظن الرحلة في القارب هنا هي رحلة الحياة وكون الفتاة هي الملّاح في تلك الرحلة إشارة إلى كونها كانت منارة هادية للكاتب في حياته الإبداعية. تَحوُّل المشهد من القارب البخاري إلى شارع مكتظ، ليس مما يُستغرب في الأحلام لكن الفتاة تبقى مبتغاه. يقتفي أثرها حتى تختفي منه في الزحام، كما اختفت فتاة العباسية من حياته في صدر شبابه. كما أن الإشارة لمولد الحسين والمنشدين الذين يتغنون بمأساته وشهادته لعلها لا تخلو من إلماع إلى «استشهاد» الراوي في هذا الحب العصيّ. وعلى عادة الأحلام في تنقل مسارح الأحداث يعود المشهد من حي الحسين إلى القارب. وأظنه هذه المرة هو قارب الموت الذي يحمل الموتى إلى العالم السفلي كما في الأساطير القديمة. فالمقاعد التي كانت مشغولة في البداية صارت كلها خالية إلا من الراوي الذي يبدو أن دوره قد حان. كما أن الملاح لم يعد الفتاة الفاتنة وإنما عجوز متجهم الوجه يُذكّر بـ«شارون» ملّاح الأساطير الإغريقية الذي كان ينقل أرواح الموتى في قاربه إلى مملكة «هاديز» رب العالم السفلي. انقضت رحلة الحياة إذن، وها هو الراوي يشق طريقه إلى عالم الأموات حاملاً معه شوقه الدائم إلى الفتاة الجميلة التي لم تكن له في أي وقت من الأوقات، ولا حتى في الأحلام.

ننتقل الآن إلى الحلم رقم 83: «رأيت الكارِتَّة مقبلة حاملة فاتنة درب قرمز، ويجرها جواد مجنَّح. اتخذت مجلسي فيما وراءها، وفرَد الجواد جناحَيه فبدأت ترتفع حتى علونا الأسطح والمآذن، وفي ثوانٍ وصلنا قمة الهرم الأكبر، وأخذنا في عبوره على ارتفاع ذراع، فجازفتُ وقفزتُ إلى قمته وعيناي لا تتحوَّلان عن الفاتنة وهي تعلو وتصعد، والليل يهبط والظلام يسود، حتى استقرَّت كوكباً مضيئاً».

هذا النص الغنائي الرهيف هو نموذج آخر للحنين لفاتنة الصبي المراهق محفوظ. فتاة العباسية التي كان يلمحها أحيانا تمرّ في «كارتّة» تجرها الخيل فلم تفارق خياله الغض مدى العمر. في هذا الحلم ينقلها محفوظ من العباسية حيث عرفها بعد أن انتقلت أسرته إلى العباسية في سن الثانية عشرة - ينقلها إلى درب قرمز في الجمالية حيث وُلد وعاش صباه الأول. وهي نقلة بارعة لا يقدر عليها سوى الأحلام، وكأنه يعود بها إلى السنوات الاثنتي عشرة من حياته التي خلت منها لكي تضفي عليها الشرعية وتضمها إلى بقية عمره التي قضاها في التعبُّد إليها. في هذا «الحلم» ينضم لها في عربتها، وهو ما لم يتسنَّ له في «العِلْم». كما أن حصان العربة في الواقع يترقَّى إلى جواد مجنَّح في الحلم، ولا غرابة في ذلك فالجميلة كانت دائماً مثالاً شاهقاً بعيد المنال بالنسبة له. وحتى في الحلم تبقى كذلك، فهي وإن سمحتْ له بالركوب معها، فإنه يكون «وراءها» وليس إلى جانبها. وحتى في الحلم هو يدرك تماماً أنه غير مؤهل للمضي معها في رحلتها، ولذلك يتحين الفرصة قافزاً من العربة إلى قمة الهرم الأكبر قبل أن تواصل العربة شق طريقها إلى مَراقٍ ليس هو أهلاً لها. حتى في الحلم تحتل فتاة العباسية مكانها نجماً مضيئاً بين النجوم ويبقى هو على الأرض يتطلع إليها في السماء. تماماً كما بقي يفعل طوال حياته.

نختم بالحلم رقم 84: «رأيتني في شارع الحب كما اعتدت أن أسميه في الشباب الأول. ورأيتني أهيم بين القصور والحدائق وعبير الزهور، ولكن أين قصر معبودتي؟ لم يبقَ منه أثر، وحل محله جامع جليل الأبعاد، رائع المعمار، ذو مئذنة هي غاية الطول والرشاقة. ودُهشت، وبينما أنا غارق في دهشتي انطلق الأذان داعياً إلى صلاة المغرب، دون تردُّد دخلت الجامع، وصلَّيت مع المصلِّين، ولمَّا ختمت الصلاة تباطأت كأنما لا أرغب في مغادرة المكان؛ لذلك كنت آخر الراحلين إلى الباب، وهناك اكتشفت أن حذائي قد فُقد، وأن علي أن أجد لنفسي مخرجاً».

هذا الحلم وثيق الصلة بسابقه رقم 83. المعبودة هنا هي المعبودة هناك. إلا أنه هنا يخلط بين واقع حياته الأولى وبين تجليات المعبودة في إنتاجه الأدبي. فالمعبودة الواقعية كانت عابرة في «كارتّة» أما المعبودة المطوَّرة فنياً فهي عايدة شداد، معبودة كمال عبد الجواد في «قصر الشوق»، والتي كانت من عائلة أرستقراطية من ساكني القصور. نعرف غرام محفوظ بتحولات الزمن، ومن هنا تحول القصر إلى جامع في الحلم. ولنلاحظ أن القصر لا يتحول إلى أي جامع، بل هو جامع من طبقة القصور، فهو «جليل الأبعاد»، «رائع المعمار» وله «مئذنة شاهقة». فهو مكان عبادة يليق بالمعبودة في تحوله الجديد كما في سابق عهده. وإسراع الراوي إلى دخول الجامع لدى سماعه الأذان هو فعل عبادة نحو المعبود القديم ساكن القصر بمقدار ما قد يكون فعل عبادة لرب الجامع. وإطالة المكث في الجامع حتى أن الراوي كان آخر المغادرين هو من رغبة التمسح بالموضع الذي كان سابقاً مقام المعبودة. إلا أنَّ الحلم ينتهي بمفاجأة هزلية حين يجد الراوي أن حذاءه قد سُرق عندما يقرر مغادرة الجامع. هذه نهاية واقعية عابثة لحلم مُغرِق في الرومانسية. ولعلها سخرية محفوظية ذاتية. فكما أن فتاة العباسية التي طاردت صورتها خياله طوال حياته كانت أشبه بالوهم، وكما أن كمال لم يعنِ يوماً شيئاً لمعبودته عايدة شداد، بل كان موضع سخريتها ووسيلة امتطتها لإثارة مشاعر الغيرة في مَن كانت تريده حقاً، كذلك قصر المعبودة وجامعها الشاهق وتعبُّده القديم المجدد عبر القصور والمساجد لا يتمخض إلا عن حذاء مسروق وعابد عاري القدمين لا يعرف كيف يدبر رحلة العودة من المحراب.