معرض الدار البيضاء للكتاب يواصل رحلة التحفيز على القراءة

إقبال على الكتاب الديني واحتفاء بإبداعات رجال الأمن.. وتوقيع آخر الإصدارات

حضور غفير للأطفال منح معرض الكتاب نكهة خاصة وفتح باب الأمل على غد قراءة أفضل (تصوير: محمد أمحيمدات)
حضور غفير للأطفال منح معرض الكتاب نكهة خاصة وفتح باب الأمل على غد قراءة أفضل (تصوير: محمد أمحيمدات)
TT

معرض الدار البيضاء للكتاب يواصل رحلة التحفيز على القراءة

حضور غفير للأطفال منح معرض الكتاب نكهة خاصة وفتح باب الأمل على غد قراءة أفضل (تصوير: محمد أمحيمدات)
حضور غفير للأطفال منح معرض الكتاب نكهة خاصة وفتح باب الأمل على غد قراءة أفضل (تصوير: محمد أمحيمدات)

لم تخرج دورة هذه السنة من المعرض الدولي للنشر والكتاب بالدّار البيضاء عن سعي تواصل على مدى الدورات العشرين السابقة، لـ«تقوية المكانة الثقافية للمغرب كأرض للحوار والتلاقح الحضاريين» و«إخصاب الإنتاجية الفكرية الوطنية»، بشكل يجعل التظاهرة «فعالية سنوية للكتاب الموجه إلى الطفل واليافع، وموعدا منتظما مكرسا للتحفيز على القراءة التي تعتبر رافعة أساسية ومرتكزا متينا للتنمية الثقافية المستدامة»، كما قال محمد الأمين الصبيحي، وزير الثقافة.
ولأنها خاصة بالنشر والكتاب، فقد كان طبيعيا أن تجعل التظاهرة من الناشرين والكتاب محركا للبرنامج العام الذي روعي فيه أن ينفتح على مختلف الاختيارات والحساسيات، بشكل يعكس تنوع وتعدد الممارسة الثقافية وتباين القناعات الفكرية للمبدعين، ويلبي انتظارات واختيارات القراء.
وسجل عدد من المهتمين بالفعل الثقافي بالمغرب أن التظاهرة، التي اختتمت أمس (الأحد)، والتي توقع لها منظموها أن تتجاوز رقم 300 ألف زائر بعد أن تواصلت على مدى 11 يوما، إقبالا على الكتاب الديني واهتماما بالأطفال، بشكل خاص، وتميزا على صعيد مواضيع الندوات والأنشطة المبرمجة ونوعية وتنوع المتدخلين، الشيء الذي منح هذا الموعد الثقافي السنوي قدرة على ملامسة أهم الانشغالات الفكرية الراهنة، وطنيا ودوليا.
وفسر البعض الإقبال الكبير لرواد المعرض على الكتب الدينية بالهوية الإسلامية للمغاربة، في وقت راهن فيه المنظمون على الطفولة للرفع من المقروئية، مستقبلا؛ فيما لم يكن الاحتفاء الكبير بالضيف الفلسطيني شيئا مفاجئا أو مستغربا، نظرا للمكانة الخاصة التي ظل يوليها الشعب المغربي للقضية الفلسطينية.
التظاهرة، التي أريد لها أن تحتفي بالنشر والكتاب، توزعت محاورها عناوين أخرجت الكتاب من خاصيته الإبداعية نحو مضمون ينفتح على انشغالات تجمع الأدبي بالسياسي والاجتماعي، فيما تحتفي بالكتاب، من قبيل «تجارب في الكتابة»، و«ساعة مع كاتب»، و«ذاكرة»، و«أصوات جديدة في الكتابة»، و«لحظة شعرية»، و«تقديم كتب». من بين هذه الفقرات شكلت «ساعة مع كاتب» فرصة للقاء المباشر مع كتاب ومبدعين مغاربة وعرب وأجانب، للاقتراب أكثر من عوالمهم وانشغالاتهم وهواجسهم، عبر نقاش مباشر، تناول مواضيع وقضايا مرتبطة بفعل الكتابة وتفاعلات الحياة. ومن بين «الساعات»، التي عرفت حضورا نوعيا ونقاشا مهما، شكل اللقاء مع عبد اللطيف اللعبي فرصة للاستماع إلى أفكار هذا المبدع الذي راكم كثيرا من التجارب ورصيدا من الكتابات المتميزة، موزعة على أكثر من جنس أدبي.
يصرّ اللعبي، الذي ولد بفاس عام 1942، وأشرف على إدارة مجلة «أنفاس» التي أسسها عام 1966، واعتقل في 1972 بسبب مواقفه السياسية اليسارية ولم يطلق سراحه إلا في 1980، على أن يرفع صوته، بين الحين والآخر، مثيرا الانتباه إلى خطر تراجع دور المثقف وتقلص مجال الفعل الثقافي، بعد ضمور الحقل الثقافي وتهميش المثقف وتراجع تأثيره وإشعاعه وفعاليته، وانسحاب المثقفين من القيادة الفكرية للبلاد، ولجوء بعضهم إلى توظيف فعالياتهم في مجالات لا تستفيد منها البلاد بالضرورة.
مع اللعبي تتأكد الحاجة إلى المثقف، لأخذ وجهة نظره بصدد مختلف القضايا التي تهم الشأن العام، خصوصا أن الواقع الذي يتم فيه الدفع بالرياضيين والسياسيين إلى الواجهة، يبقى، حسب رأيه، أشبه بصنع طاولة برجلين: لن تقوم لها قائمة، أبدا.
يشدد اللعبي على أن «الثقافة ليست ترفا»، ويلاحظ أن «الكتب ليست غالية في المغرب، خصوصا بالنسبة لمن يفضل شراء علبة سجائر أميركية، تعادل ثمن رواية أو ديوان شعر»، مشيرا إلى أن هناك أقلية صغيرة، فقط، في المغرب ما زالت تواصل وتواظب على القراءة.
في معرض الدار البيضاء كان اللعبي، الذي أكد حضوره في المشهد الثقافي المغربي والعربي والدولي وفاز بعدد من الجوائز الأدبية آخرها وأشهرها جائزة «غونكور» الفرنسية، وفيا لقناعاته واختياراته في الحياة وفي الأدب، فرأى أن الهجوم على صحيفة «شارلي إيبدو» الفرنسية ولد لحظة صعبة جدا للبشرية، سيكون لها تأثير كبير على المعنويات والمخيلات، مشددا على أن الرد يجب أن يكون عبر التمسك بأحلام الحرية والعدالة والمساواة، كما دعا إلى الحفاظ على العمق العربي للمغرب، مسجلا تراجع دور الرموز الثقافية في المغرب، الشيء الذي سيكون له، كما قال، انعكاس على المجتمع ككل، مؤكدا أن الجيل الحالي ما زال محتاجا لمثقفين من طراز الرموز السابقة.
وشكلت فقرة «تقديم كتب» مناسبة للاطلاع على جديد عالم النشر والكتاب، واللقاء المباشر مع الكتاب، واقتناء ما تقدمه دور النشر العارضة، سواء المغربية أو العربية أو الدولية، من إصدارات. ومن بين الكتب التي تم تقديمها كان هناك مؤلف «فلسطين.. ذاكرة مغربية»، الذي جاء متزامنا مع الاحتفاء بدولة فلسطين، كـ«ضيف شرف» في دورة هذه السنة، متضمنا قصائد وشهادات شعراء ومسرحيين ونقاد وإعلاميين ومفكرين مغاربة، عرب وغربيين. أما رواية «لماذا جئت إلى فرنسا يا أبي؟»، ليوسف شهاب، الأكاديمي الفرنسي من أصل مغربي، فقال كاتبها إن «الجرح الذي يحمل أسماء الهجرة والمنفى والرحيل عن الوطن يشكل تمزقا على مستوى الهوية وشعورا قويا بالذنب بشأن قدرة المهاجر على نقل الذاكرة والطابع المغربي والإسلامي والروابط المقدسة الذي تجمعه ببلد أسلافه المغرب»، مبرزا أن «الرواية تقفت آثار المهاجرين المغاربة الذين وصلوا إلى فرنسا في أربعينات القرن الماضي للمشاركة في تحريرها من الاحتلال النازي، فضلا عن موجات المهاجرين في عقود الستينات والسبعينات للمشاركة في تشييد البنيات التحتية الفرنسية ونهوضها الاقتصادي، فضلا عن هجرة الطلبة»، لينتهي إلى أن «السؤال الحقيقي المطروح بالرواية لا يتعلق بالدافع وراء الهجرة إلى فرنسا، وإنما بالدافع الذي وقف وراء مغادرة المغرب»، منتهيا إلى أن «الجواب على السؤالين لن يكون نفسه».
كما كان الجمهور على موعد مع «إسبانيا الأخرى»، لمحمد العربي المساري، الصحافي والدبلوماسي والوزير السابق، وهو الكتاب الذي استعرض فيه صاحبه «تطورات النظام السياسي في مرحلة ما بعد فرانكو ومسار الانتقال الديمقراطي الإسباني، ثم تدبير العلاقة مع الجار المغربي». ورأى الكاتب حسن أوريد أن كتاب المساري «يكتسي أهمية استثنائية من حيث تحليل أوضاع إسبانيا وطبيعة التوازنات السياسية في مرحلة حاسمة من تاريخها، من جهة، وتفكيك خلفيات السياسة الإسبانية تجاه المغرب»، ليخلص إلى أن «مجهودات فكرية وتأملية من جنس كتاب (إسبانيا الأخرى) تُسائل النخب في البلدين لتجاوز عقد التاريخ وعداواته، والتوجه إلى بناء المستقبل المشترك، من خلال تجاوز الأفكار المسبقة والقطع مع بعض المواقف الإسبانية الماضوية».
وشكلت الأروقة محركا أساسيا ضمن فعاليات التظاهرة. وقد عرف رواق فلسطين إقبالا كبيرا من طرف رواد المعرض. كما كان لافتا للانتباه أن يضع معرض رواق «دار أميركا»، في مدخله، مجسما كرتونيا للرئيس الأميركي باراك أوباما. وفيما تمحورت أنشطة رواق «مجلس الجالية المغربية بالخارج» حول موضوع «هجرة، تنوع، مواطنة: تحدي العيش المشترك»، عرض رواق «المديرية العامة للأمن الوطني» أهم إبداعات رجال الأمن، خاصة في الرواية والقصة والشعر والرسم.
ويضم سلك الأمن في المغرب عددا من المبدعين الذين أكدوا حضورهم وطنيا وعربيا، بينهم القاص والروائي لحسن باكور، الذي يشتغل بمراكش، والذي سبق أن فاز بـ«جائزة دبي الثقافية» و«جائزة الشارقة للإبداع» (مرتين)، عن أعماله القصصية والروائية، مراكما عددا من الإبداعات الجميلة، بينها «رجل الكراسي» و«شريط منعرج من الضوء» و«البرزخ».
ويحتفظ سعدي يوسف، الشاعر العراقي، الذي شارك في معرض الدار البيضاء، بذكرى جميلة مع لحسن باكور، حيث يذكر كيف أن أول مفاجأة حقيقية عاشها، حين هبطت به الطائرة في مطار مراكش في إحدى زياراته للمغرب، للمشاركة في لقاء ثقافي، كانت مع شرطي مغربي (يتعلق الأمر، هنا، بلحسن باكور): «سألني شرطي: أأنت فلان؟ أجبتُ: نعم. قال: أأنت الشاعر نفسه؟ أجبتُ: نعم. وهكذا، بدأ بيننا حديثٌ عن الشعر وأهله، وعن معارفَ مشترَكين»، قبل أن يضيف، ملخصا للحدث وللحديث، مستحضرا علاقة رجال الأمن بالمبدعين بشكل خاص، في بلده: «علاقةٌ مختلفةٌ، أكيدا، بين الشرطي والشعر».
يبقى لباكور رأيه في هذه «المفاجأة»، التي عاشها سعدي يوسف وهو يكتشف في شرطي مغربي شغفه بالأدب وصداقة الأدباء، حيث تساءل: «لماذا نتقبل أن يكون رجال ونساء التعليم، ورجال القانون والطب والهندسة، شعراء وروائيين، في حين يتم تناول علاقة رجال الشرطة والسلطة مع الإبداع بحساسية كبيرة، وكأننا ننكر ذلك عليهم؟!».
يتمنى باكور، في قرارة نفسه، أن تزول الحدود الوهمية التي يقيمها البعض بين الإبداع ومختلف المهن، لذلك يقول: «إذا كان لدى البعض اعتقاد بأن مهنة الشرطي ضد الكتابة الأدبية أو أنها نقيض لممارسة نشاط إبداعي من أي نوع، فهم مخطئون، بالتأكيد، وأنا أتحدث، هنا، من موقع التجربة».



علي بن تميم: لا بدّ من الريادة في التقنيات الرقمية والذكاء الاصطناعي

جانب من معرض أبوظبي الدولي للكتاب 2024
جانب من معرض أبوظبي الدولي للكتاب 2024
TT

علي بن تميم: لا بدّ من الريادة في التقنيات الرقمية والذكاء الاصطناعي

جانب من معرض أبوظبي الدولي للكتاب 2024
جانب من معرض أبوظبي الدولي للكتاب 2024

في حوار «الشرق الأوسط» مع الدكتور علي بن تميم، رئيس «مركز أبوظبي للغة العربية»، في هيئة الثقافة والسياحة في أبوظبي، الذي يتبع له مشروع «كلمة» للترجمة؛ أحد أكبر المشاريع الثقافية في العالم العربي، تحدّث عن التحديات التي تسوقها وسائل التواصل للهوية الثقافية للمجتمعات المحلية، لكنه دعا إلى الريادة في استخدام التقنيات الرقمية والذكاء الاصطناعي بوصفها سبيلاً للحفاظ على الهوية الثقافية وتعزيزها، وذلك عبر تغذية الفضاء الرقمي بالمنتجات الفكرية والأدبية الجادة والرصينة.

لاحظ الدكتور علي بن تميم، أن الوسائل الرقمية فرضت تغييرات في اهتمامات الشباب، وهي تحديات مدعومة بالفجوة في المحتوى الثقافي العربي الحقيقي على تلك الوسائل. وهنا نص الحوار:

> كيف ترون التحديات التي تواجهها الهوية الثقافية، وسط طوفان الثقافات السريعة التي تفرضها العولمة؟

- بالتأكيد فإن الثقافة التجارية السريعة، ومخرجات العولمة، التي قد تشكل فرصاً لتعزيز الهوية المتفردة، لها تأثيرات كبيرة وتفرض تحديات بالغة على المجتمعات، خصوصاً وسائل التواصل الاجتماعي وما تفرضه من تشويه للغة العربية، والمفردات والتراكيب وغيرها، وما تنشره من محتوى مجهول المنشأ خصوصاً في مجالات الأدب والشعر والسرد، وهو ما بات يشكل تهديداً وجودياً لقطاع النشر من خلال إمكانية الوصول وتفضيلات الشباب لتلك الوسائل، وعدم التزام الوسائل الرقمية بحقوق الملكية الفكرية، لا بل بالتلاعب بالمحتوى واجتزائه وتشويهه، والأخطاء الجسيمة في حق اللغة والهوية الثقافية والاجتماعية التي تمارسها بعض المنصات.

الدكتور علي بن تميم (رئيس مركز أبوظبي للغة العربية)

> كيف رصدتم الأثر غير الإيجابي للوسائل الرقمية؟

- من الملاحظ أن تلك الوسائل فرضت تغييرات في اهتمامات الشباب ونظرتهم ومحاكمتهم لمختلف الشؤون التي يعبرون بها في حياتهم، واللجوء إلى المعلومات المبتورة والابتعاد عن القراءات الطويلة والنصوص الأدبية والمعرفية الشاملة وغيرها التي تحقق غنى معرفياً حقيقياً.

وتأتي تلك التحديات مدعومة بالفجوة في المحتوى الثقافي العربي الحقيقي على تلك الوسائل، ما يعزز ضعف التفاعل مع الموروث الثقافي، حيث تفتقر العديد من المبادرات الثقافية التي تركز على الترويج للأصالة بصورة تتفاعل مع الأجيال الجديدة، إلى الوسائل الحديثة والتفاعلية التي تجعلها جذابة للأجيال الشابة. ويضاف إلى ذلك تأثير اختلاف طبيعة الأعمال وأسواق العمل، التي يتم فيها تسليع الثقافة لغايات تجارية.

> لكن الإمارات – كما بقية دول الخليج – قطعت شوطاً كبيراً في تمكين التقنيات الرقمية... فهل يأتي ذلك على حساب الهوية الثقافية؟

- صحيح، ينبغي النظر إلى أن ريادة الدولة في المجالات الرقمية والذكاء الاصطناعي تشكل بحد ذاتها عامل دعم للهوية الثقافية، إضافة إلى تأثير البيئة الاجتماعية ومخزونها القوي من الثقافة وغنى هويتها، والدور الإيجابي للمعرفة الرقمية في تعزيز تنافسية الدولة وريادة الأعمال، ووجود كفاءات متعددة للاستفادة منها في تعزيز المحتوى الثقافي والهوية الثقافية، على دراية كاملة بأساليب ووسائل انتشار تلك المنصات ووصول المحتوى إلى الجمهور المستهدف، وإمكانية استغلال ذلك في خلق محتوى ثقافي جديد موازٍ للمحتوى المضلل يمتلك كفاءة الوصول، والقدرة على مخاطبة الشباب بلغتهم الجديدة والعصرية والسليمة، لمواجهة المحتوى المضلل، إن جاز التعبير.

> ما استراتيجيتكم في مواجهة مثل هذه التحديات؟

- تساهم استراتيجية مركز أبوظبي للغة العربية، في تعزيز الهوية الثقافية الإماراتية والحفاظ عليها وسط تأثيرات العولمة. وتشكل المهرجانات الشاملة مثل مهرجان العين للكتاب ومهرجان الظفرة للكتاب ومعرض أبوظبي الدولي للكتاب، والجوائز الرائدة مثل جائزة الشيخ زايد للكتاب وجائزة سرد الذهب، وغيرها، بما تتضمنه من مبادرات متكاملة ثقافية واجتماعية وفنية ورياضية ومسابقات تنافسية، واحدة من وسائل لتعزيز جاذبية تلك المهرجانات والجوائز للجمهور، وتحفيزهم على المشاركة بها، من خلال دمج الموروث الثقافي بالوسائل العصرية.

كما يقوم مركز أبوظبي للغة العربية من خلال الشراكات الدولية بتعزيز نشر الثقافة الإماراتية وإبراز دورها الحضاري العالمي، ما يمنح مزيداً من الفخر والاعتزاز للشباب بهويتهم الثقافية ويحفزهم على التعرف عليها بصورة أوسع.

الترجمة والأصالة

> مع تزايد الترجمة بين اللغات، كيف يمكن ضمان أن تكون الأعمال المترجمة ناقلاً للأصالة الثقافية من مصادرها وليست مجرد (انتقاءات سطحية) لا تمثّل التراث الثقافي للشعوب أو للمبدعين؟

- يدرك مشروع «كلمة» للترجمة بمركز أبوظبي للغة العربية أهمية الترجمة ودورها البارز في دعم الثقافة بعدّها وسيلة أساسية لتعزيز التقارب، والتسامح بين الشعوب، انسجاماً مع توجهات دولة الإمارات ودورها في تعزيز تبني ثقافة التسامح بين الحضارات والشعوب. وقد أطلق المركز أربعة مشاريع رئيسية للترجمة حققت قفزة نوعية في مستوى الترجمة العربية، واعتماديتها ومستوى الموثوقية التي تحظى بها في الأوساط الأكاديمية ومؤسسات النشر العالمية، ما جعله شريكاً رئيسياً لكبرى مؤسسات وشركات ومراكز الأبحاث المعنية بالترجمة على مستوى العالم، على الرغم من التحديات الواسعة التي تجاوزها مشروع كلمة للترجمة، بسبب الطبيعة المكلفة لنشاط الترجمة والنشر، والأخطاء المتوقعة، وتحديات توافر المترجمين من أصحاب الكفاءة الذين يمكنهم نقل المعرفة بسياقها وروحيتها الأدبية والعلمية نفسها، مع الحفاظ على عناصر السرد والتشويق.

وفي هذا الإطار اعتمد المركز جملة من المعايير التي ساهمت بفاعلية في ريادة مشاريع النشر الخاصة به، التي تشمل اختيار الكتب، والمترجمين بالاعتماد على لجنة من المحكمين المشهود بخبرتهم في الأوساط الثقافية والعلمية والأكاديمية العالمية. كما عزز كفاءة المترجمين، والقدرة على إيجاد أصحاب الاختصاصات من ذوي الكفاءات عبر التعاون مع المؤسسات الأكاديمية في الدولة ومراكز الأبحاث العالمية، وتدريب مترجمين مواطنين بلغ عددهم اليوم نحو 20 مترجماً من أصحاب المهارات والمواهب في قطاع الترجمة، التي يحكمها الشغف والتطوير المستمر وحب القراءة، والقدرة على السرد.

> ماذا تحقق في هذا الصعيد؟

- ساهمت جهود المشروع في ترجمة أكثر من 1300 كتاب، وتوسيع اللغات لتشمل 24 لغة حتى اليوم، بالإضافة إلى الترجمة عن اللغتين التشيكية والسلوفاكية. كما شملت قائمة المترجمين أكثر من 800 مترجم، إضافة إلى تعاون نحو 300 آخرين مع مشاريع المركز، وانضمام 20 مواطناً من جيل الشباب والخريجين إلى القائمة، نحرص على توفير كل سبل الدعم والتحفيز لهم، لتشجيعهم على خوض غمار تجربة الترجمة تحت إشراف مترجمين محترفين.

وقد وفر تعدّد المشاريع التي يحتضنها المركز وخصوصيتها، نماذج خبرة متعددة وشاملة، ساهمت بشكل فعّال في تعزيز الكفاءة في قطاع الترجمة وصولاً إلى تحقيق السمعة الرائدة التي يحظى بها المركز في الأوساط العالمية حالياً، ومنها «مشروع إصدارات» الذي يعنى بالكتب التراثية والأدبية، وكتب الأطفال والرحالة، و«مشروع كلمة» الذي يمثل نقلة نوعية في تاريخ الترجمة العربية من خلال ترجمة نحو 100 كتاب سنوياً، منذ انطلاقته، من أرفع الإنتاجات المعرفية العالمية، إضافة إلى إطلاق «مشروع قلم»، وجميعها مبادرات رائدة تحظى بالاعتمادية والموثوقية العالمية، وتتبنى أرفع معايير حقوق النشر.

> كيف يوازن مشروع «كلمة» بين الحفاظ على التراث الثقافي ودعم الإبداع الحديث، هل ثمّة تعارض بينهما؟

- الموروث الثقافي والتاريخي يشكل ذاكرة وهوية المجتمعات، وهو نتاج عقول وجهود بشرية مستمرة، وتواصلٍ إنساني أسفر عن إرث فكري وإبداعي توارثته الأجيال، وهو مصدر ثري ومهم للإبداع في الفن والأدب.

ومن جهته، حرص مشروع كلمة على الاهتمام بترجمة كتب التراث العالمي، فقدم بادرة لترجمة سلسلة ثقافات الشعوب في 72 كتاباً تتضمن ترجمة لمئات الحكايات والقصص من التراث الشعبي والفلكلوري العالمي بهدف تعزيز العمق الثقافي الجامع بين مختلف الأعراق والجنسيات والثقافات.

وفي الإبداع الحديث ترجم العشرات من الروايات لكتاب عالميين، بالإضافة إلى ترجمة الشعر الأميركي الحديث، وكتب النقد والدراسات الأدبي والشعر الغربي.

ويسعى مركز أبوظبي للغة العربية عبر هذا المشروع إلى دمج نماذج الإبداع الحديث بالتراث الثقافي التي لا تشكّل أي تعارض في مضمونها، بل تحقّق تكاملية، وشمولية لتطوير الإبداع الثقافي وضمان مواكبته للتغيرات العصرية لتعزيز وصوله للمتلقين من دون إهمال العلوم ونشر جوانب المعرفة.

المعرفة والذكاء الاصطناعي

> هل نحن في سباق مع التقنيات الذكية للوصول إلى المعرفة مهما كلّف الثمن؟ كيف يمكن لحركة الترجمة أن تستفيد منها؟

- تشكل التقنيات الذكية بعداً أساسياً لانتشار المحتوى العربي الرائد والمتوازن في العصر الحالي، غير أنها لا تدخل ضمن اسم السباق وليست هدفاً في حد ذاتها، بل يتم استثمار إمكاناتها لتعزيز تحقيق الأهداف الاستراتيجية الثقافية ونشر اللغة العربية والثقافة العربية، ومواجهة التحديات التي يفرضها تجاهلها.

وتبرز أهمية استثمار الوسائل الذكية في تحديد وترسيخ احترام الملكية الفكرية، وإيجاد وسائل إلكترونية رقمية للحد من التعديات عليها.

وبالتأكيد، فإن استثمار المخرجات الذكية من شأنه تعزيز حركة الترجمة وتنوعها، وخلق تنافسية جديدة تعزز من ريادة القطاع.

رواد الثقافة قادرون على كشف «المسوخ» التي ينتجها الذكاء الاصطناعي

علي بن تميم

> هل هناك مخاوف من «مسوخ» ثقافية ينتجها الذكاء الاصطناعي تؤدي لمزيد من تشويه الوعي؟

- يستطيع رواد الثقافة التمييز بسهولة بين المنتج الثقافي الإبداعي والمهجن أو الدخيل، غير أن التحديات التي يفرضها الواقع الرقمي يتمثل في تشويه الإبداع الثقافي بين أفراد المجتمع، وفي رأيي فإن الوسائل الذكية أتاحت لبعض المدعين مجالات للظهور لكنها لا تزيد على فترة محدودة. فالثقافة والإبداع مسألتان تراكميتان وموهبتان لا يمكن اقتحامهما بسهولة، ونسعى بحرص إلى الاستفادة من البنية الرقمية الرائدة للدولة في إطلاق مبادرات ذكية وتعزيز استخدام الذكاء الاصطناعي لنشر المحتوى الثقافي الحقيقي الذي يمثل هويتنا وحضارتنا.

> كيف يمكن لحركة الترجمة أن تتجنب التحيّز الثقافي وتقدم نصوصاً دقيقة وموضوعية؟

- الترجمة رافد مهم من روافد الثقافة الإنسانية، ومثل أي مهنة أخرى، تخضع مهنة الترجمة لمجموعة من الأخلاقيات التي ينبغي الالتزام بها. والكفاءة اللغوية والقدرة على ترجمة النص ليستا المعيار الوحيد في عملية الترجمة من لغة إلى لغة، فالابتعاد عن التحيز الثقافي والفكري واحترام الاختلافات الفكرية والثقافية، وفهم السياقات الثقافية المختلفة للغة المصدر وللغة المترجم إليها من الأمور الحيوية والمهمة في تقديم ترجمات رصينة وخالية من التشوهات. وبهذا يتحقق الهدف الأسمى للترجمة وهو تقريب الشقة بين الثقافات والحضارات.ويتم اختيار الإصدارات الخاصة بالترجمة بناء على أهميتها العالمية وما تقدمه من قيمة مضافة للقراء توسع مداركهم، وتعزز رؤيتهم للمستقبل، من خلال لجنة متنوعة ومتخصصة تعزز الموضوعية وسياقات الحوكمة واحترام حقوق الملكية الفكرية وغيرها من معايير وقيم عليا.