لم تخرج دورة هذه السنة من المعرض الدولي للنشر والكتاب بالدّار البيضاء عن سعي تواصل على مدى الدورات العشرين السابقة، لـ«تقوية المكانة الثقافية للمغرب كأرض للحوار والتلاقح الحضاريين» و«إخصاب الإنتاجية الفكرية الوطنية»، بشكل يجعل التظاهرة «فعالية سنوية للكتاب الموجه إلى الطفل واليافع، وموعدا منتظما مكرسا للتحفيز على القراءة التي تعتبر رافعة أساسية ومرتكزا متينا للتنمية الثقافية المستدامة»، كما قال محمد الأمين الصبيحي، وزير الثقافة.
ولأنها خاصة بالنشر والكتاب، فقد كان طبيعيا أن تجعل التظاهرة من الناشرين والكتاب محركا للبرنامج العام الذي روعي فيه أن ينفتح على مختلف الاختيارات والحساسيات، بشكل يعكس تنوع وتعدد الممارسة الثقافية وتباين القناعات الفكرية للمبدعين، ويلبي انتظارات واختيارات القراء.
وسجل عدد من المهتمين بالفعل الثقافي بالمغرب أن التظاهرة، التي اختتمت أمس (الأحد)، والتي توقع لها منظموها أن تتجاوز رقم 300 ألف زائر بعد أن تواصلت على مدى 11 يوما، إقبالا على الكتاب الديني واهتماما بالأطفال، بشكل خاص، وتميزا على صعيد مواضيع الندوات والأنشطة المبرمجة ونوعية وتنوع المتدخلين، الشيء الذي منح هذا الموعد الثقافي السنوي قدرة على ملامسة أهم الانشغالات الفكرية الراهنة، وطنيا ودوليا.
وفسر البعض الإقبال الكبير لرواد المعرض على الكتب الدينية بالهوية الإسلامية للمغاربة، في وقت راهن فيه المنظمون على الطفولة للرفع من المقروئية، مستقبلا؛ فيما لم يكن الاحتفاء الكبير بالضيف الفلسطيني شيئا مفاجئا أو مستغربا، نظرا للمكانة الخاصة التي ظل يوليها الشعب المغربي للقضية الفلسطينية.
التظاهرة، التي أريد لها أن تحتفي بالنشر والكتاب، توزعت محاورها عناوين أخرجت الكتاب من خاصيته الإبداعية نحو مضمون ينفتح على انشغالات تجمع الأدبي بالسياسي والاجتماعي، فيما تحتفي بالكتاب، من قبيل «تجارب في الكتابة»، و«ساعة مع كاتب»، و«ذاكرة»، و«أصوات جديدة في الكتابة»، و«لحظة شعرية»، و«تقديم كتب». من بين هذه الفقرات شكلت «ساعة مع كاتب» فرصة للقاء المباشر مع كتاب ومبدعين مغاربة وعرب وأجانب، للاقتراب أكثر من عوالمهم وانشغالاتهم وهواجسهم، عبر نقاش مباشر، تناول مواضيع وقضايا مرتبطة بفعل الكتابة وتفاعلات الحياة. ومن بين «الساعات»، التي عرفت حضورا نوعيا ونقاشا مهما، شكل اللقاء مع عبد اللطيف اللعبي فرصة للاستماع إلى أفكار هذا المبدع الذي راكم كثيرا من التجارب ورصيدا من الكتابات المتميزة، موزعة على أكثر من جنس أدبي.
يصرّ اللعبي، الذي ولد بفاس عام 1942، وأشرف على إدارة مجلة «أنفاس» التي أسسها عام 1966، واعتقل في 1972 بسبب مواقفه السياسية اليسارية ولم يطلق سراحه إلا في 1980، على أن يرفع صوته، بين الحين والآخر، مثيرا الانتباه إلى خطر تراجع دور المثقف وتقلص مجال الفعل الثقافي، بعد ضمور الحقل الثقافي وتهميش المثقف وتراجع تأثيره وإشعاعه وفعاليته، وانسحاب المثقفين من القيادة الفكرية للبلاد، ولجوء بعضهم إلى توظيف فعالياتهم في مجالات لا تستفيد منها البلاد بالضرورة.
مع اللعبي تتأكد الحاجة إلى المثقف، لأخذ وجهة نظره بصدد مختلف القضايا التي تهم الشأن العام، خصوصا أن الواقع الذي يتم فيه الدفع بالرياضيين والسياسيين إلى الواجهة، يبقى، حسب رأيه، أشبه بصنع طاولة برجلين: لن تقوم لها قائمة، أبدا.
يشدد اللعبي على أن «الثقافة ليست ترفا»، ويلاحظ أن «الكتب ليست غالية في المغرب، خصوصا بالنسبة لمن يفضل شراء علبة سجائر أميركية، تعادل ثمن رواية أو ديوان شعر»، مشيرا إلى أن هناك أقلية صغيرة، فقط، في المغرب ما زالت تواصل وتواظب على القراءة.
في معرض الدار البيضاء كان اللعبي، الذي أكد حضوره في المشهد الثقافي المغربي والعربي والدولي وفاز بعدد من الجوائز الأدبية آخرها وأشهرها جائزة «غونكور» الفرنسية، وفيا لقناعاته واختياراته في الحياة وفي الأدب، فرأى أن الهجوم على صحيفة «شارلي إيبدو» الفرنسية ولد لحظة صعبة جدا للبشرية، سيكون لها تأثير كبير على المعنويات والمخيلات، مشددا على أن الرد يجب أن يكون عبر التمسك بأحلام الحرية والعدالة والمساواة، كما دعا إلى الحفاظ على العمق العربي للمغرب، مسجلا تراجع دور الرموز الثقافية في المغرب، الشيء الذي سيكون له، كما قال، انعكاس على المجتمع ككل، مؤكدا أن الجيل الحالي ما زال محتاجا لمثقفين من طراز الرموز السابقة.
وشكلت فقرة «تقديم كتب» مناسبة للاطلاع على جديد عالم النشر والكتاب، واللقاء المباشر مع الكتاب، واقتناء ما تقدمه دور النشر العارضة، سواء المغربية أو العربية أو الدولية، من إصدارات. ومن بين الكتب التي تم تقديمها كان هناك مؤلف «فلسطين.. ذاكرة مغربية»، الذي جاء متزامنا مع الاحتفاء بدولة فلسطين، كـ«ضيف شرف» في دورة هذه السنة، متضمنا قصائد وشهادات شعراء ومسرحيين ونقاد وإعلاميين ومفكرين مغاربة، عرب وغربيين. أما رواية «لماذا جئت إلى فرنسا يا أبي؟»، ليوسف شهاب، الأكاديمي الفرنسي من أصل مغربي، فقال كاتبها إن «الجرح الذي يحمل أسماء الهجرة والمنفى والرحيل عن الوطن يشكل تمزقا على مستوى الهوية وشعورا قويا بالذنب بشأن قدرة المهاجر على نقل الذاكرة والطابع المغربي والإسلامي والروابط المقدسة الذي تجمعه ببلد أسلافه المغرب»، مبرزا أن «الرواية تقفت آثار المهاجرين المغاربة الذين وصلوا إلى فرنسا في أربعينات القرن الماضي للمشاركة في تحريرها من الاحتلال النازي، فضلا عن موجات المهاجرين في عقود الستينات والسبعينات للمشاركة في تشييد البنيات التحتية الفرنسية ونهوضها الاقتصادي، فضلا عن هجرة الطلبة»، لينتهي إلى أن «السؤال الحقيقي المطروح بالرواية لا يتعلق بالدافع وراء الهجرة إلى فرنسا، وإنما بالدافع الذي وقف وراء مغادرة المغرب»، منتهيا إلى أن «الجواب على السؤالين لن يكون نفسه».
كما كان الجمهور على موعد مع «إسبانيا الأخرى»، لمحمد العربي المساري، الصحافي والدبلوماسي والوزير السابق، وهو الكتاب الذي استعرض فيه صاحبه «تطورات النظام السياسي في مرحلة ما بعد فرانكو ومسار الانتقال الديمقراطي الإسباني، ثم تدبير العلاقة مع الجار المغربي». ورأى الكاتب حسن أوريد أن كتاب المساري «يكتسي أهمية استثنائية من حيث تحليل أوضاع إسبانيا وطبيعة التوازنات السياسية في مرحلة حاسمة من تاريخها، من جهة، وتفكيك خلفيات السياسة الإسبانية تجاه المغرب»، ليخلص إلى أن «مجهودات فكرية وتأملية من جنس كتاب (إسبانيا الأخرى) تُسائل النخب في البلدين لتجاوز عقد التاريخ وعداواته، والتوجه إلى بناء المستقبل المشترك، من خلال تجاوز الأفكار المسبقة والقطع مع بعض المواقف الإسبانية الماضوية».
وشكلت الأروقة محركا أساسيا ضمن فعاليات التظاهرة. وقد عرف رواق فلسطين إقبالا كبيرا من طرف رواد المعرض. كما كان لافتا للانتباه أن يضع معرض رواق «دار أميركا»، في مدخله، مجسما كرتونيا للرئيس الأميركي باراك أوباما. وفيما تمحورت أنشطة رواق «مجلس الجالية المغربية بالخارج» حول موضوع «هجرة، تنوع، مواطنة: تحدي العيش المشترك»، عرض رواق «المديرية العامة للأمن الوطني» أهم إبداعات رجال الأمن، خاصة في الرواية والقصة والشعر والرسم.
ويضم سلك الأمن في المغرب عددا من المبدعين الذين أكدوا حضورهم وطنيا وعربيا، بينهم القاص والروائي لحسن باكور، الذي يشتغل بمراكش، والذي سبق أن فاز بـ«جائزة دبي الثقافية» و«جائزة الشارقة للإبداع» (مرتين)، عن أعماله القصصية والروائية، مراكما عددا من الإبداعات الجميلة، بينها «رجل الكراسي» و«شريط منعرج من الضوء» و«البرزخ».
ويحتفظ سعدي يوسف، الشاعر العراقي، الذي شارك في معرض الدار البيضاء، بذكرى جميلة مع لحسن باكور، حيث يذكر كيف أن أول مفاجأة حقيقية عاشها، حين هبطت به الطائرة في مطار مراكش في إحدى زياراته للمغرب، للمشاركة في لقاء ثقافي، كانت مع شرطي مغربي (يتعلق الأمر، هنا، بلحسن باكور): «سألني شرطي: أأنت فلان؟ أجبتُ: نعم. قال: أأنت الشاعر نفسه؟ أجبتُ: نعم. وهكذا، بدأ بيننا حديثٌ عن الشعر وأهله، وعن معارفَ مشترَكين»، قبل أن يضيف، ملخصا للحدث وللحديث، مستحضرا علاقة رجال الأمن بالمبدعين بشكل خاص، في بلده: «علاقةٌ مختلفةٌ، أكيدا، بين الشرطي والشعر».
يبقى لباكور رأيه في هذه «المفاجأة»، التي عاشها سعدي يوسف وهو يكتشف في شرطي مغربي شغفه بالأدب وصداقة الأدباء، حيث تساءل: «لماذا نتقبل أن يكون رجال ونساء التعليم، ورجال القانون والطب والهندسة، شعراء وروائيين، في حين يتم تناول علاقة رجال الشرطة والسلطة مع الإبداع بحساسية كبيرة، وكأننا ننكر ذلك عليهم؟!».
يتمنى باكور، في قرارة نفسه، أن تزول الحدود الوهمية التي يقيمها البعض بين الإبداع ومختلف المهن، لذلك يقول: «إذا كان لدى البعض اعتقاد بأن مهنة الشرطي ضد الكتابة الأدبية أو أنها نقيض لممارسة نشاط إبداعي من أي نوع، فهم مخطئون، بالتأكيد، وأنا أتحدث، هنا، من موقع التجربة».
معرض الدار البيضاء للكتاب يواصل رحلة التحفيز على القراءة
إقبال على الكتاب الديني واحتفاء بإبداعات رجال الأمن.. وتوقيع آخر الإصدارات
معرض الدار البيضاء للكتاب يواصل رحلة التحفيز على القراءة
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة