انطلقت في جدة الدورة الثانية من معرض «21.39» الذي يقيمه المجلس الفني السعودي الأسبوع الماضي وسط زحام شديد وحضور كثيف من مختلف أطياف المجتمع. المعرض اختار هذا العام أن يقدم نظرة شاملة لتطور الفن السعودي منذ بدايات البعثات الدراسية التي شهدت سفر فنانين شباب للخارج لدراسة الفن في الستينات من القرن الماضي وحتى الوقت الحالي الذي يشهد فيه المشهد الفني حركة دائبة نشطة.
الجولة داخل المعرض مختلفة عن المعتاد في المعارض السابقة، التركيز هنا على التوثيق وعلى وجود الصور الفوتوغرافية التي تؤرخ لمواقف وشخصيات مؤثرة في المشهد الفني السعودي. وعبر القاعات الممتدة يمكننا رؤية أعمال لفنانين من جيل الستينات والسبعينات، تلتها أعمال لفنانين معاصرين. بشار الشروقي، منسق المعرض، يشير إلى أن المعرض يعد بمثابة «مشروع بحثي»، ويضيف: «أستطيع القول إنه يعد بداية للبحث في تاريخ الفنون في السعودية، منذ التأسيس مرورا بالبنية التحتية». المعرض يحمل عنوان «التقدم السريع» وهو ما يبدو إشارة إلى الانطباع الموجود حاليا حول الفن السعودي المعاصر الذي بدا وكأنه منبعث من فراغ، يقول الشروقي: «لماذا التقدم السريع؟ عندما نتحدث عن قصة الفن في السعودية يعتقد المتلقي أننا نقصد الحركة الفنية ما بعد عام 2008، ولكن ما نحاول أن نحققه هنا هو القول بأن هناك الكثير من الأحداث قبل ذلك التاريخ ومثلت الأساسات للحركة المعاصرة».
قد تثير فكرة التأريخ للحركة الفنية المخاوف بأن يكون المعرض جافا وأكاديميا وهو ما ينفيه الشروقي بقوله: «لا نكتب تاريخا هنا وإنما نكتب قصة من شأنها إثارة التساؤلات وبداية حوار. المشكلة أمامنا هنا أن هناك فراغات في قصة الفن السعودي، فعلى سبيل المثال الكثيرون يتحدثون عن قرية المفتاحة في أبها وتأثيرها على جيل كامل من الفنانين المعاصرين، ولكن مهما بحثت لن تجدي معلومات مكتوبة أو على الإنترنت حول تلك القرية. كل ما نعرفه عنها يتمثل في جملة التقى الفنان البريطاني ستيفن ستابلتون مع الفنان أحمد ماطر والفنان عبد الناصر الغارم في قرية المفتاحة وشكلوا سويا مبادرة (إدج أوف آرابيا) للفن السعودي المعاصر التي قدمت عددا من المعارض العالمية في لندن وبرلين وفينيسيا.
وبهذه الخلفية نحمل معنا فكرا وتطلعا لمعرفة مراحل أولية من تاريخ الفن السعودي نبدأها مع الشروقي في عام 1960 حيث انطلقت بدايات البعثات الدراسية لمصر وإيطاليا وحملت شبابا سعوديا يحلم بدراسة الفنون». يشير الشروقي إلى أن الهدف من إرسال هؤلاء الشباب للدراسة هو الاستفادة منهم في تعليم الفنون للأجيال القادمة بعد عودتهم. في الصالة الأولى نرى أعمال عدد من أوائل خريجي البعثات منهم الفنان ضياء عزيز ضياء الذي درس في أكاديمية الفنون بروما في عام 1969، تعرض بعض أعمال الفنان ضياء في دواليب عرض مخصصة للوثائق، نرى فيها شهادات دراسية وصورا فوتوغرافية للفنان وأيضا بعضا من اللوحات (البورتريه) التي رسم فيها زوجته وشهادة الجائزة التي حصل عليها وصورة له مع زوجته وهو يحمل الجائزة. نعرف من الشروقي أن الوثائق المعروضة هنا كلها نسخ أصلية من أرشيف الفنان الذي حرص على الاحتفاظ بكل أوراقه ورسوماته في أرشيف منظم ودقيق.
الفنانون العائدون اتخذوا مواقعهم لدى عودتهم في معهد المعلمين (أسس عام 1965) لتدريب جيل آخر من المعلمين، وحسب الشروقي فقد نتج عن تلك الخطوة المهمة تخريج 10 دفعات من المعهد قبل أن يغلق أبوابه. من مقتنيات خريجي المعهد نرى الدبلوم الذي حصل عليه الفنان محمد الرصيص، هناك أيضا قائمة الدرجات التي نرى من خلالها التخصصات التي درسها الطلاب في المعهد وتضم التصوير الفوتوغرافي والنجارة والنحت والتخطيط المعماري وغيرها. مع تخريج أول دفعة من المعهد في عام 1969 تم إرسال أول مجموعة من مدرسي الفنون للتدريس في دبي.
مع عودة الفنانين من بعثاتهم بدأت نتائج الدراسة الفنية وأثر الاحتكاك بثقافة مختلفة يظهر، وبدأت المعارض الفنية في مدينة جدة، ففي عام 1965 أقام الفنان عبد الحليم رضوي معرضه الأول في نادي البحر الأحمر بجدة، لم يشهد المعرض إقبالا من الجمهور، فحسب روايات الكثيرين لم يحضر سوى 10 أشخاص، ولكن مع انتقال المعرض للعرض في شركة «أرامكو» بالمنطقة الشرقية حقق المعرض نجاحه المنتظر وأصبح مثلا يحتذى لكل الفنانين.
في عام 1968 حدثت قفزة أخرى في عالم الفن إذ أقامت الفنانتان صفية بن زقر ومنيرة موصلي معرضهما الفني الأول، حيث قدما دليلا للمعرض باللغتين العربية والإنجليزية وحظي المعرض برعاية ملكية من الأمير مشعل بن عبد العزيز الذي حضر الافتتاح، ونرى أمامنا دليل المعرض وصورا فوتوغرافية للافتتاح ونماذج من الأعمال الفنية التي عرضت فيه. هناك أيضا دفتر الزوار وقصاصة من صحيفة «المدينة» تحمل مقالا للكاتب علي حافظ حول المعرض.
ولئلا ننسى الغرض الرئيسي من المعرض يشدد الشروقي على رؤيته «هذا ليس معرضا للفنانين وأعمالهم بل هو يقدم أحداثا وتاريخا وما ترينه حولك من أعمال فنية تعرض ليست بصفتها كإبداع فني وإنما هي أمثلة على تلك الأحداث والمحطات».
تتوالى المحطات بعد ذلك فنرى صور للفنان رضوي وهو يرسم في أحد شوارع مدريد، يشير الشروقي إلى أن رضوي عاد إلى مدريد في عام 1974 بعد أن أغلق المعهد الذي أقامه وتخرج فيه الفنانون ضياء عزيز ضياء وطه صبان، وأثناء إقامته في مدريد للدراسة العليا حصل رضوي على جائزة في بينالي إسبانيا.
يمر المعرض على مراحل مهمة في تاريخ الفن السعودي ومع عام 1972 نرى دور محمد سعيد فارسي أمين مدينة جدة الذي أولى اهتماما خاصا بالفنون ما زلنا نرى أثره في شوارع جدة وميادينها، دور د. فارسي كان مهما لإثبات دور الرعاية الفنية، يقول الشروقي ويشير إلى صورة للفنان العالمي سيزار مع د. فارسي، مضيفا أن خطة فارسي في وضع منحوتات لفنانين عالميين إلى جانب أعمال لفنانين سعوديين في كورنيش وميادين جدة كان لها أثر عميق في دعم الفن السعودي.
يشير الشروقي أيضا إلى إنشاء أول مبنى مخصص للمعارض في السعودية وهو مبنى الحارثي (جدة دوم) حيث أقام الفنان عبد الحليم رضوي معرضا لأعماله.
قصة الرعاية الفنية تدخل فصلا جديدا مع قيام الخطوط العربية السعودية بإقامة مسابقة «ملون» في عام 1992 التي تطورت فيما بعد لتصبح بينالي جدة الذي قدم في عمره القصير برامج مهمة ومحاضرات وفعاليات. ولكن بعد توقف البينالي في عام 2003 أصبح هناك تساؤل عن الفراغ الذي تركه والذي يجب ملؤه.
نرى حولنا أعمالا مبكرة للفنان أيمن يسري والفنانة شادية عالم ضمن معرض أقامه بيت التشكيليين في عام 1993. اللوحات المعروضة أعارتها مؤسسة المنصورية للأميرة جواهر بنت ماجد للمعرض.
من أهم المنشآت المؤثرة في الفن السعودي، دارة صفية بن زقر، والتي تعد من أهم المتاحف في المملكة ومحطة يتوقف عندها زوار البلاد. وتمثل دارة صفية بن زقر ومؤسسة المنصورية أمثلة على المجهودات الفردية التي يحتاجها العالم الفني. تقدم المنصورية الدعم والرعاية للفنانين وتقوم بطباعة الكتب وهو أمر مهم في عملية التأريخ كما يؤكد الشروقي. وكمثال على المجهود الذي تقوم به المؤسسة يشير إلى صفحات مكبرة من كتاب «جنيات لار» للأختين شادية ورجاء عالم.
في رحلة الفن السعودي يجب التوقف أيضا عند الدور الذي لعبته قرية المفتاحة في أبها والتي أنشأها الأمير خالد الفيصل عندما كان أميرا لمنطقة عسير. من تلك القرية ظهرت عدة أسماء لمعت في سماء الفن السعودي المعاصر ومنهم أحمد ماطر وعبد الناصر الغارم وإبراهيم أبو مسمار وأروى النعيمي. نرى صورا فوتوغرافية وأعمالا فنية نفذت في أستوديوهات الفنانين في المفتاحة. يشير الشروقي إلى أن القرية كانت مركز فنيا شهدت إلى جانب المعارض الفنية والعروض المسرحية أيضا محاضرات لكبار الفنانين منهم محمد السليم والرضوي وأحمد باقر من البحرين.
ومن المعارض التي أقامتها «إدج أوف آرابيا» نرى أعمالا لأحمد ماطر «مغناطيسية» والختم الضخم لعبد الناصر الغارم والفنانة منال الضويان «إذا نسيتك لا تنساني»، بعد ذلك تتوالى المحطات من إنشاء «أثر غاليري» في عام 2009 وتمثيله للفن السعودي في عدد من أسواق الفن العالمي إلى الجناح السعودي في أكسبو شنغهاي حيث أقيم معرض «نبط» وصولا للعمل العملاق «الفلك الأسود» للأختين عالم الذي مثل السعودية في بينالي البندقية في عام 2011.
المعرض ضخم ومليء بالمعلومات والأعمال، يخرج منه الزائر بصورة شاملة وعميقة وواضحة لتاريخ الفن السعودي وأهم الوجوه في فضائه، المجهود خلف المعرض ضخم جدا ولكنه مجهود لقي ترحيبا وتقديرا من الزوار في يومه الأول وسيلقى المزيد.
معرض «التقدم السريع».. محطات وأسماء لمعت في سماء الفن السعودي
فعالية «21.39» الفنية تعود لجدة في دورتها الثانية
معرض «التقدم السريع».. محطات وأسماء لمعت في سماء الفن السعودي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة