تأتي لحظة فارقة وكاشفة خلال «يوميات غوانتانامو» التي كتبها محمدو ولد صلاحي، عندما يتم تعيين محقق جديد لاستجوابه. حتى هذه اللحظة، كان صلاحي قد اعتاد مواجهة الأسئلة ذاتها وتقديم الإجابات نفسها لسنوات. إلا أن المحققة العسكرية الجديدة، وهي سيدة وصفها بـ«الهادئة والمهذبة»، فاجأته باتباعها أسلوبا جديدا في الاستجواب بخصوص سفر إرهابي آخر مشتبه به إلى العراق عام 2003.
وأوضح صلاحي بلطف للمحققة أن المشكلة تكمن في أنه محتجز منذ عام 2001، وانتقل للسجن العسكري في غوانتانامو بكوبا منذ عام 2002، وبالتالي ليس هناك أدنى إمكانية لأن تتوافر لديه مثل هذه المعلومات. وهنا، ابتسمت المحققة وشرحت أنها طرحت هذا السؤال على أي حال لأنه «طُلب مني طرحه من قبل رؤسائي».
وكما هو متوقع، خصص صلاحي جزءا كبيرا من يومياته في شرح معاناته في ظل «التحقيق الخاص» الذي استمر شهورا عام 2003 وتمت الموافقة عليه شخصيا من جانب دونالد إتش. رامسفيلد، وزير الدفاع حينها. وتبعا لرواية صلاحي المدعومة بكثير من التحقيقات الحكومية، فإن المعاملة التي تعرض لها تضمنت الحرمان من النوم لفترات طويلة، وتعريضه لموسيقى عالية الصوت، وتقييده لأيام داخل زنزانة شديدة البرودة، وتغطيسه في مياه مثلجة، والضرب والتهديد بأنه يمكن جعله يختفي بلا أثر، وإمكانية القبض على والدته وتعريضها لاغتصاب جماعي.
ومع ذلك، فإن أحد الانطباعات الكبرى التي يحملها الكتاب، الذي جاء نشره بعد معركة قانونية استمرت 7 سنوات ومع حذف أجزاء كبيرة منه على أيدي مراقبين عسكريين، هو افتقار بعض الجهود الحكومية الرامية لجعل البلاد آمنة ضد الإرهاب، للكفاءة بصورة بالغة. وفي ما يتعلق بالوكالات العسكرية والاستخباراتية، فإن السرية تجعل من الأيسر بكثير إخفاء الإخفاقات.
على سبيل المثال، نجد أن أساليب التعذيب التي تمت الموافقة على اتباعها مع صلاحي تحاكي الأساليب التي استخدمها الخصوم الشيوعيون لأميركا خلال الحرب الباردة، التي اشتهرت بإفرازها اعترافات زائفة. وكما هو متوقع، أشار صلاحي إلى كيف أنه في ذروة رغبته لوقف المعاملة الوحشية التي يتعرض لها، قرر أن يخبر المحققين أي شيء يرى أنهم يودون سماعه، مما جعله يختلق خططا ويورط آخرين في جرائم لا وجود لها. إلا أن بعض المحققين تشككوا في اعترافاته وطلبوا عرضه على جهاز كشف الكذب. وخلال عرضه على الجهاز نفى صلاحي تخطيطه لأعمال إرهابية، وانتماءه لتنظيم القاعدة، وتنوعت نتائج الاختبار بين «لا خداع» و«لا رأي»، مما قوض اعترافاته المزعومة.
حتى الأجزاء التي حذفتها الحكومة من الكتاب أكدت على إخفاقها المستمر، حيث جرت الاستعانة بالحبر الأسود للحيلولة دون معرفة القراء حقيقة أن بعض المحققين الذين تعاملوا مع صلاحي في غوانتانامو من النساء. ولا أحد يدري سبب حرص الحكومة على الإبقاء على نوع المحققين سرا. ومع ذلك، فقد أغفل مسؤولو الرقابة عددا كافيا من الضمائر المؤنثة جعلت جهودهم في إخفاء النوع بلا قيمة تذكر.
وقد استفزت إحدى الكلمات المحذوفة والمشكوك في جدوى حذفها، لاري سيمز، الذي تولى تحرير الكتاب ووضع مقدمته وملحوظات أسفل الصفحات، ودفعته لكتابة تعليق ساخر داخل الكتاب. ويدور الموقف حول أنه عندما أخبره أحد الحراس بألا يقلق لأنه سيعود قريبا لوطنه وأسرته، كتب صلاحي: «لم أتمالك نفسي وانفجرت في (هذا الجزء محذوف)». وهنا يعلق سيمز في ملحوظة أسفل الصفحة، قائلا: «يبدو محتملا، وإن كان أمرا عصيا على التصديق، أن الحكومة الأميركية حذفت من هناك كلمة (البكاء(».
يذكر أن صلاحي ولد في موريتانيا، وانضم لـ«القاعدة» عام 1990 لمحاربة الحكومة الشيوعية الأفغانية، بجانب أسامة بن لادن. كما أن ابن عمه وزوج شقيقته كان من مساعدي بن لادن. وفي ألمانيا، التقي صلاحي رمزي بن الشيبة، الذي خطط لاحقا لهجمات 11 سبتمبر (أيلول) 2001. كما عاش صلاحي في مونتريال وارتاد المسجد نفسه الذي كان يرتاده أحمد رسام، الذي قبض عليه عام 1999 بناء على اتهامات بمحاولته إدخال متفجرات إلى الولايات المتحدة لتنفيذ «مخطط الألفية» الذي تم إحباطه.
وبناء على هذا التاريخ، خلصت الحكومة إلى أن صلاحي «من كبار مسؤولي التجنيد» لحساب «القاعدة»، ووضعته لفترة على قائمة أخطر الإرهابيين المحتجزين في غوانتانامو.
من جهته، يقول صلاحي إنه انفصل عن «القاعدة» عام 1992، قبل بدء استهدافها أميركا بفترة طويلة. وأضاف أن لقاءه مع بن الشيبة استمر لمساء يوم واحد ولم يتطرق لأي مخططات معادية للولايات المتحدة. أما رسام فغادر مونتريال قبل وصول صلاحي إلى هناك، وأكد أنهما لم يلتقيا قط.
يذكر أن القاضي الفيدرالي جيمس روبرتسون، راجع التماسا تقدم به صلاحي عام 2010 وخلص إلى أن الأدلة التي قدمتها الحكومة «ضعيفة أو مشوهة بالقمع وسوء المعاملة، أو سرية للغاية لدرجة أنها لا تصلح حجة لإجراء تحقيق جنائي»، وأضاف القاضي أن مخاوف الحكومة من إمكانية انضمام صلاحي لـ«القاعدة» مجددا «قد يكون لها أساس صائب»، لكنها لا تبرر استمرار حبسه. إلا أن محكمة استئناف أسقطت قرار إطلاق سراحه، ولا يزال صلاحي، 44 عاما، قابعا في غوانتانامو، حيث ظل محتجزا من دون محاكمة لأكثر من 12 عاما.
تظهر شخصية صلاحي عبر اليوميات التي كتبها عام 2005 كشخص فضولي وكريم وذكي ومتدين، وبعيد كل البعد عن التعصب. ومن خلال إنجليزية ركيكة لكنها مفعمة بالحياة التي تعلمها كلغة رابعة خلال احتجازه في غوانتانامو، كتب بحماس عن قراءته للإنجيل عدة مرات، وكيف أنه بدأ ينظر لغوانتانامو والعاملين فيه باعتبارهم «وطنه وأسرته الجديدين»، وكيف أنه نمى بالفعل صداقات مع كثير من الحراس والمحققين ودخل معهم في مناقشات حول الأديان ولعبوا الشطرنج وشاهدوا أفلاما معا. وعبر عن تعاطفه حتى مع بعض من تورطوا في تعذيبه، مشيرا إلى أن «الكثير من الأفراد الملتحقين بالجيش يأتون من أسر فقيرة، لهذا يوكل إليهم الجيش أحيانا أقذر الأعمال».
ورغم أن هذه اليوميات كتبت منذ عقد مضى، فإن نشرها يأتي في توقيت مناسب، ذلك أنه خلال خطاب «حالة الاتحاد» الذي ألقاه الأسبوع الماضي، جدد الرئيس أوباما تعهده بإغلاق سجن غوانتانامو قبل رحيله عن منصبه. بيد أن الهجمات التي شهدتها باريس وعمليات قطع الرؤوس التي يرتكبها مسلحون في سوريا، أثارت من جديد المخاوف التي جعلت هذا السجن مفتوحا حتى الآن.
والملاحظ أن هذا الكتاب يجبرنا على التفكير في السبب وراء تخلي الولايات المتحدة عن إيمانها بأن المحاكمة التي تعقد في توقيت مناسب هي السبيل الأمثل لتحديد من يستحق السجن.
* خدمة «نيويورك تايمز»