الحادث الإرهابي الآثم الذي وقع في مقر الأسبوعية الباريسية «شارلي إيبدو» فرض نفسه على الخريطة الإعلامية في روسيا طيلة الأيام الأخيرة، ليس فقط لأنه احتل صدارة كل النشرات والبرامج الإخبارية الروسية، بل وأيضا لأنه كشف عن حقيقة توجهات عدد من الشخصيات العامة ممن كانوا حتى الأمس القريب ملء السمع والبصر. كما أن هذا الحادث أماط اللثام كذلك عن كثير من الحقائق، وإن كانت تتسم بأكبر من البداهة فإنها تؤكد مدى زيف مواقف الغرب تجاه مكافحة الإرهاب ومعاييره المزدوجة بعد أن انقلب السحر على الساحر.
وبعيدا عن تفاصيل هذا الحادث المأساوي الكارثي التي غدت تفاصيله في متناول الجميع خلال الأيام الأخيرة، نتوقف بالمزيد من غيرها، عند ما عادت وسائل الإعلام الروسية لتقوله حول مسؤولية الغرب تحديدا تجاه وقوع مثل هذه الأحداث، وهو الذي سبق ووقف وراء ظهور التيارات والتنظيمات الإرهابية لتصفية حسابات سياسية مع كل من اتخذ منه، ومن توجهاته ومخططاته موقف العداء. ولعله يكون من المناسب هنا الإشارة إلى تركيز المعلقين والمراقبين في موسكو ممن انبروا لتحليل أبعاد وخلفيات الحادث الإرهابي الأخير، على الدور المريب الذي تلعبه الأجهزة الغربية في مغازلة ودعم هذه التنظيمات الإرهابية الإجرامية التي تحرص على تشكيلها ورعايتها لتنفيذ مآرب ذاتية.
قال هؤلاء بالمسؤولية المباشرة للغرب وحكوماته التي كانت أول من ساهم في تشكيل وتدريب المجموعات والتنظيمات الإرهابية تحت ستار ما سمي آنذاك بمواجهة الغزو السوفياتي في أفغانستان. وأعاد هؤلاء إلى الأذهان افتتاح معسكرات تدريب «المتطرفين» في عدد من البلدان العربية وتسليحها بأسلحة سوفياتية؛ مما سبق وأمدت موسكو بها بلدانا عربية بعينها كانت تربطها معها «علاقات استراتيجية طيبة»، وعلى أيدي مدربين عسكريين أميركيين وغربيين للدفع بها إلى أفغانستان عبر الحدود الباكستانية منذ مطلع ثمانينات القرن الماضي، بتمويل مباشر من بعض البلدان العربية والإسلامية، وطبعا الغربية.
وأشار هؤلاء المراقبون إلى ظهور طالبان و«القاعدة»، ولم يستثنوا من ذلك حماس التي قالوا إنها ظهرت لضرب منظمة التحرير الفلسطينية والتصدي لنفوذ حركة فتح في الأراضي الفلسطينية المحتلة. ومضى هؤلاء أيضا لتذكير المشاهدين والمستمعين بما فعل «رفاق الأمس» في الشيشان وشمال القوقاز حين قاموا بتمويل كتائب المتطرفين للدفع بها إلى جنوب روسيا للإجهاز على ما بقي من وحدة أراضي الاتحاد السوفياتي السابق في تسعينات القرن الماضي تحت شعارات «مواجهة الكافرين». وانتقل هؤلاء إلى الماضي القريب الذي شهد انحياز الغرب إلى «الإخوان المسلمين» في مصر والشام، ومناصبة النظام الجديد في مصر العداء، ووقوفه وراء دعم وتسليح تنظيمات «جبهة النصرة» و«داعش».
إذن المسألة هنا لم تكن دفاعا عن مبدأ أو عقيدة، ولم تكن إعلاء لقيم حرية الكلمة وحق الإنسان في التعبير عن معتقداته وآرائه. قالت موسكو إن المسألة وباختصار تكمن في البحث عمن يتولى أعباء «تنفيذ السياسات والمخططات»، الرامية إلى إثارة الاضطرابات والفرقة في بلدان الشرق الأوسط الكبير بعد تبدي بوادر فشل «ثورات الربيع العربي» في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وأشارت أيضا إلى أن الكثيرين من مواطني البلدان الغربية، وخصوصا من فرنسا وبريطانيا، كانوا سارعوا بالانضمام إلى «داعش» عبر الأراضي التركية تحت سمع وبصر حكومات تلك البلدان، ودون اعتبار لقيم أو مبادئ أو تقدير لما سوف يكون الحال عليه في المستقبل، أو لما سبق وعاشته المنطقة بعد خروج السوفيات من أفغانستان.
ومن اللافت أن كثيرا من المراقبين والإعلاميين ورجال السياسة في موسكو بدوا أكثر انحيازا لعدالة ما تقوم به إسرائيل لمواجهة الإرهاب من خلال ملاحقة ذوي المتهمين بالتورط في أي عمليات إرهابية وتدمير منازلهم واعتقالهم ومحاسبتهم على ما ارتكبه أبناؤهم من جرائم أو عمليات إرهابية.
ورغم اعتراف الجميع بأن ذلك من الصعب تطبيقه في أوروبا؛ حيث تسود أكثر مبادئ العدالة وإعلاء حقوق الإنسان، فإنهم يظلون عند إعجابهم وتقديرهم لـ«الممارسات الإسرائيلية» ضد الإرهابيين والتخريبيين، على حد قولهم.
وبغض النظر عن المسؤولية الأخلاقية والقانونية لحكومات الدول الغربية تجاه ظهور مثل هذه التنظيمات والأفكار الإرهابية، فإن ما جرى في باريس في مقر مجلة «شارلي إيبدو» لا يمكن أن يكون مبررا لتجاوز هنا أو هناك من جانب صحافيين أو إعلاميين سمحوا لأنفسهم باستخدام حقهم في التعبير دون اعتبار لمشاعر آخرين. هكذا يقول بعض المتعقلين من ممثلي الأوساط الدينية في العاصمة الروسية وفي عدد من أرجاء المناطق ذات الأغلبية السكانية الإسلامية ومنها الشيشان وشمال القوقاز. ولذا كان طبيعيا أن يحتدم الجدل حول ما نقلته الصحافة الروسية عن ميخائيل خودوركوفسكي الملياردير اليهودي صاحب شركة «يوكوس» النفطية الذي أفرج عنه الرئيس فلاديمير بوتين في ديسمبر (كانون الأول) من العام قبل الماضي، بعد قضائه ما يربو على 10 سنوات في السجون الروسية. فقد ناشد خودوركوفسكي الصحافيين والإعلاميين نشر المزيد من الصور المسيئة للرسول، ونقلت عنه وكالة «ريا نوفوستي» قوله: «إنه إذا كان الصحافيون يستحقون الاحترام، فلن نرى غدا صحيفة واحدة دون الرسوم المسيئة للنبي».
وما أن نشرت المواقع الروسية هذه التصريحات التي نسبتها إلى خودوركوفسكي ودعوته حول نشر المزيد من الصور المسيئة للرسول، حتى بادر الرئيس الشيشاني رمضان قادروف إلى الرد عليه بقوله: «إن خودوركوفسكي يعلن بذلك نفسه عدوا لكل العالم الإسلامي، وبالتالي لي شخصيا».
ومضى قادروف ليقول إنه على يقين من أنه يوجد في سويسرا الآلاف من المواطنين الملتزمين بالقانون القادرون على محاسبة «المجرم الهارب» بموجب القانون، مؤكدا أن الحساب سوف يكون عسيرا. وحول الموضوع نفسه نقلت مصادر المركز الصحافي للبرلمان الشيشاني عن دوكوفاخا عبد الرحمنوف قوله: «إن خودوركوفسكي وعلى ما يبدو كان لا يزال ثملا، أو لم يفق بعد من نومه حين راح ينصب نفسه عدوا لمليار ونصف المليار من المسلمين»، وهو ما اعتبرته بعض الأوساط السياسية دعوة مباشرة إلى النيل من خودوركوفسكي، ومحاسبته جزاء ما يروج له من أفكار، سرعان ما وجدت طريقها إلى التنفيذ، وإن لم يكن ذلك استجابة مباشرة لما دعا إليه خودوركوفسكي.
ومن اللافت أن إذاعة «صدى موسكو» المعروفة بميولها الليبرالية، بل والموالية لإسرائيل والغرب، أعلنت عن استطلاع رأي مستمعيها حول مشروعية الرسوم المسيئة للرسول، وهو ما سارع الرئيس الشيشاني قادروف بالرد عليه، مؤكدا عدم عقلانية مثل هذا السلوك من جانب رئيس تحرير الإذاعة ألكسي فينيديكتوف، واعتبار ذلك إهانة لمسلمي روسيا. وقال قادروف إن ذلك يمكن أن يبث الفرقة والفوضى والاضطرابات في روسيا، مشيرا إلى أن فينيديكتوف حوّل إذاعة «صدى موسكو» إلى «بوق معاد للإسلام» وأن مسلمي روسيا يلاحظون ذلك منذ أمد بعيد، وأن مجموعة من الصحافيين متخصصين في مثل هذا الموضوع لا شيء يربطهم بروسيا. ومضى الرئيس الشيشاني ليطالب السلطات الروسية بالقيام بدورها وإلا «فإن مسلمي روسيا ممن هم مهمومون بمصير الوطن لن يقفوا مكتوفي الأيدي أمام تصرفت فينيديكتوف وإذاعته». وذلك تهديد صريح لا لبس فيه، لمجموعة من الإعلاميين الذين يتخندقون في إذاعة «صدى موسكو» التي سبق ووقعت في شرك «معاداة مسلمي روسيا».
وكان موقع «صوت روسيا» الناطق بالعربية أشار، في معرض تعليقه على ما شهدته بعض المساجد وأماكن العبادة في فرنسا من هجمات متفرقة، إلى أن «الاعتداءات التي يعتقد بأنها من فعل متطرفين يمينيين ردا على الهجوم على مجلة (شارلي إيبدو)، تظهر حالة التوتر التي تشهدها فرنسا، والخلط الذي يقوم به اليمين المتطرف بين الإسلام والمسلمين وبين المتطرفين الذين نفذوا الهجوم الإرهابي. وكان الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند قد حذر من هذا الخلط، ودعا إلى توحد الفرنسيين، وهو الموقف الذي عبرت عنه غالبية الأحزاب الفرنسية».
ومن اللافت أن الكرملين كان أول من أعرب عن احتجاجه ومواساته تجاه ذلك الحادث الإرهابي، حيث قال دميتري بيسكوف الناطق الرسمي باسمه، إن «الرئيس فلاديمير بوتين بادر بالاتصال بنظيره الفرنسي فرنسوا هولاند ليعرب له عن تعازيه لذوي وأقارب ضحايا الهجوم الإرهابي». وقال بيسكوف: «إن بوتين يندد بشدة بأي شكل من أشكال الإرهاب»، مضيفا أن «الإرهاب لا يملك أي تبريرات»، بينما نقل عنه قوله «إن محاربة الإرهاب تتطلب التعاون المتعدد الأوجه بين كل دول العالم»، مشيرا إلى أنه «لا تستطيع أي دولة وحدها قتال هذا الشر». ومن جانبه سارع سيرغي لافروف وزير الخارجية الروسية إلى الاتصال بنظيره الفرنسي لوران فابيو ليؤكد له موقف موسكو من ضرورة التعاون في مجال مكافحة الإرهاب.
على أن ذلك كله لم يمنع وجود ذوي الرأي الآخر من «النشطاء الأرثوذكس» في موسكو ممن خرجوا للتظاهر أمام سفارة فرنسا في موسكو يحملون اللافتات التي تدعو إلى محاسبة المطبوعة الباريسية الساخرة. وقال هؤلاء إن رسامي وصحافيي «شارلي إيبدو» لم يكتفوا بإهانة مشاعر المسلمين بل سبق وقاموا بنشر الصور المسيئة للسيد المسيح وغيره من الرموز المقدسة الأخرى. ونقل موقع «نيوز رو» الإلكتروني في موسكو ما قاله دميتري أنتيو زعيم منظمة «إرادة الرب» حول أنه «يجب إنزال أقسى صنوف العقاب بهؤلاء، لكن بموجب القانون». وقال أنتيو إنه «على يقين من أن كل من يتطاول على إهانة الرموز الدينية سواء كانت المسيحية أو الإسلامية لا بد أن يحاسب فورا، وبكل الصرامة والقوة».
«شارلي إيبدو» وإسرائيل و«الحق الذي يراد به باطل» في الإعلام الروسي
تركيز على دور الغرب في مغازلة المنظمات الإرهابية منذ الغزو السوفياتي لأفغانستان
«شارلي إيبدو» وإسرائيل و«الحق الذي يراد به باطل» في الإعلام الروسي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة