من التاريخ: الحرب الأهلية الأميركية

من التاريخ: الحرب الأهلية الأميركية
TT

من التاريخ: الحرب الأهلية الأميركية

من التاريخ: الحرب الأهلية الأميركية

تكاد كل دولة بعد بنائها أن تتعرض لحرب أهلية داخلية ويكون ذلك عندما تلجأ الفرق السياسية أو الدينية المختلفة فيها إلى الصراع المسلح من أجل فرض أهدافها فيكون الحوار قد نفد ويبقى العنف هو الحل الأخير أمام هذه الفرق، وقد تعرضت الكثير من الدول لهذه الأزمات في مراحل تكوينها الأساسية عبر تاريخها، وعادة ما تكون أسباب هذه الحروب الأهلية مرتبطة بشكل مباشر بالتركيبة الاجتماعية والسياسية والثقافية مجتمعة وعندئذ تكون حدة الصراع المسلح كبيرة للغاية بسبب عدم تجانس هذا المجتمع، ويكون الهدف من هذه الحروب إما السلطة والسيطرة السياسية، أو محاولة فرض طابع اجتماعي - ثقافي جديد على الدولة ككل أو الإبقاء على هذا النظام أمام الفرق المطالبة بالتغيير، وفي أغلبية الأحوال لا يكون العامل الاقتصادي وحده سببا في مثل هذه الحروب، وتشير الكثير من حالات الحروب الأهلية عبر التاريخ الحديث إلى أن الحروب الأهلية تكون مرتبطة بشكل مباشر بعملية تكوين الدولة وبمحاولة فرض مفاهيم الشرعية بداخلها، ولذلك فقد يربطها البعض بمراحل نشأة الدولة، ولكن هذه ليست قاعدة فقد تنشب مثل هذه الحروب عندما يكون هناك عملية تغيير لمفهوم الشرعية داخل الدولة الراسخة، والأمثلة على ذلك كثيرة للغاية مثل إنجلترا خلال القرن السابع عشر، وفرنسا بعد الثورة الفرنسية، والكثير من دول أوروبا في مرحلة الربيع الأوروبي عام 1848، وهنا فإن هذه الحروب لا تكون بسبب النشأة ولكن لعوامل التغيير.
وفي هذا الإطار فإن الولايات المتحدة الأميركية لم تكن استثناء من هذه القاعدة، فلقد تكاملت الولايات الـ13 وواجهت بجيشها الوليد والموحد الجيش البريطاني العتيد بهدف الاستقلال حتى نالته بعد إعلان الاستقلال بأعوام قليلة، وقد تمت صياغة الدستور الأميركي بشكل يضمن نوعا من التوازن الدقيق بين الولايات المختلفة آخذا في الاعتبار أحجامها المختلفة بشكل مثّل سابقة فريدة من نوعها في الأنظمة السياسية التي كانت سائدة في العالم الحديث، وقد تغلبت هذه الدولة الوليدة على كافة المصاعب بمرور الوقت، ولكنها لم تستطع وقاية نفسها من شرور الحرب الأهلية التي اندلعت عام 1861 والتي كانت حربا مختلفة بعض الشيء، فهي لم تكن مرتبطة بمحاولة ولاية أو أخرى تغيير النظام السياسي للدولة أو عملية إعادة توازن أو توزيع للقوة، بل كانت لأسباب اقتصادية اجتماعية في الأساس.
لا يختلف أغلبية المؤرخين في اعتبار العبودية السبب الأساسي وراء اندلاع هذه الحرب الأهلية، ولولاها لما اندلعت هذه الحرب، فلقد كانت التركيبة الاقتصادية والاجتماعية الأميركية تختلف عن مثيلاتها في العالم، فولايات الشمال القوية كانت تعتمد في الأساس على القاعدة الصناعية وبدرجة أقل الزراعة، وهو ما ساهم بشكل مباشر في خلق بيئة اجتماعية وثقافية مختلفة عن ولايات الجنوب التي اعتمدت على الاقتصاديات الزراعية في الأساس، فلقد أدى هذا النمط من التطور والتنمية في الشمال إلى خلق بيئة فكرية وثقافية وطريقة حياة مختلفة بشكل كبير عن الجنوب الذي لم يستطع بدوره أن يطور من نفسه بالشكل المطلوب، فلقد كانت اقتصاديات الولايات الجنوبية تعتمد في الأساس على الزراعة، خاصة زراعة القطن والسكر والتبغ وغيرها من السلع التي كانت تدر عائدا ماديا عاليا Cash Crops، وقد نتج عن ذلك اعتماد مباشر على العمالة التي لم تكن متوفرة بيسر بين أبناء طبقة ملاك الأراضي، وبالتالي ظهر توجه للاعتماد على الرق لزراعة الأراضي، فهذه الزراعات تحتاج إلى عمالة كثيفة Labor Intensive، وكلما توسعت دول الجنوب في التطور الاقتصادي الزراعي زادت الحاجة لمزيد من الرق، وتشير بعض الإحصاءات التاريخية إلى أن حجم العبيد الأميركي عند الاستقلال لم يتخط السبعمائة ألف، ولكن هذا الرقم قفز بشكل مباشر إلى ما يقرب من مليونين بحلول عام 1830. ثم قفز مرة أخرى إلى قرابة 4 ملايين بحلول عام 1860.
ورغم ذلك فإن ولايات الجنوب الأميركي لم تسع في أي مرحلة من مراحل تطورها لإدخال الصناعة لتخفف من حدة اعتمادها على الزراعة أو تُحدث تنويعا مطلوبا، وقد تعددت الآراء في السبب وراء هذا التكاسل الصناعي فمنها الآراء التي أرجعته إلى عدم ملاءمة البيئة الجنوبية لمثل هذه الحداثة، كما أن العبيد لم يكن من الممكن الاعتماد عليهم لمحاولة إقامة هذا النظام الاقتصادي، وبالتالي انحصرت القاعدة الصناعية في الجنوب على الصناعات المرتبطة بالزراعة مثل المنسوجات وغيرها، وقد أدى هذا إلى تطور اجتماعي للجنوب يختلف تماما عن الشمال، حيث انزلق هذا المجتمع في توجهاته الاجتماعية ومن ثم الثقافية المختلفة، فأصبح مجتمعا محافظا مبنيا على أشكال تشابه أنماط التطور في القرون الوسطى الأوروبية بتركيبة اجتماعية مختلفة تماما عن ولايات الشمال، وهو ما جعل الهوة تتسع بين الأهداف والمصالح في الشمال مقارنة بالجنوب.
حقيقة الأمر أن بذور الحرب الأهلية بدأت منذ تأسيس الولايات المتحدة الأميركية، فالتركيبة السياسية والاجتماعية دفعت الكثير من المفكرين ورجال الكنيسة والساسة لمحاولة القضاء على ظاهرة الرق وهو ما نظرت إليه ولايات الجنوب باعتباره سببا مباشرا في ضرب بيئتها الاقتصادية والاجتماعية، وقد بدأت الأصوات المنادية بالقضاء على العبودية، وكان منهم بطبيعة الحال ساسة ومفكرون ممن ساهموا مباشرة في صياغة وثيقة الاستقلال وعلى رأسهم «جيمس ماديسون Madison» و«جون آدمز Adams»، ولكن هذه الحركة لم تخرج عن نطاق النداءات المجردة لتحرير الرق وتحريمه، ولم يكن من المستغرب أن تندلع هذه الحركة تدريجيا من ولاية «ماساشوستس» التي كانت مصدر حرب الاستقلال وأكثر الولايات تحضرا وثقافة، ولكن هذه الحركة سرعان ما بدأت تنتشر في الولايات الأخرى، ثم في ولايات الجنوب ذاتها، وبدأت حركة اجتماعية واسعة تطالب بضرورة التحرير، وسرعان ما اندلعت نيران التحرير إلى الجنوب أيضا، فبدأت تظهر الأصوات المنادية بإنهاء العبودية، ولكن المقاومة الجنوبية بدأت تظهر، حتى إن كثيرا من الكنائس في الجنوب بدأت تسعى من أجل وضع التبرير المناسب لهذه الظاهرة الاجتماعية على أسس دينية، مستندة إلى أن الرق وارد في العهد القديم والجديد على حد سواء دون التحريم، وأن السيد المسيح لم ينه العبودية، كما أن الحركات السياسية المناهضة لم تتأخر أيضا في هذا الاتجاه، وبحلول العقد الرابع من القرن الـ18 بدأت المناوشات السياسية داخل الكونغرس حيث سعى الكثير من الساسة لمحاولة استصدار تعديلاتهم الدستورية من أجل إلغاء الرق في الجنوب وهو ما واجهه ممثلو الجنوب بحروب كلامية وسياسية كبيرة للغاية في الكونغرس.
حقيقة الأمر أن هذه الحرب اندلعت في الكونغرس الأميركي قبل ساحات المعارك المختلفة على مدار 4 سنوات تلت ذلك، فبحلول عام 1818 صارت هناك 22 ولاية نصفها يجيز الرق والنصف الآخر يرفضه، وقد تم التوصل إلى حالات كثيرة من التوافق السياسي لمعالجة هذه الأزمة، منها «توافق ميزوري» الذي أجاز العبودية في ولاية «ميزوري» ومنعها في ولاية «ميين Maine» ثم تفجرت الأزمات بعد ذلك عندما توسعت الولايات المتحدة على حساب المكسيك، فماذا سيكون مصير الرق في هذه الولايات؟، وقد دخلت الولايات المتحدة في شبح الحرب بحلول خمسينات القرن التاسع عشر، وكان الحل هو مزيد من المواءمة والتوازن داخل الكونغرس وفي هذه الولايات حيث قرر الكونغرس أن يترك لهذه الولايات تحديد موقفها من مسألة الرق، خاصة ولايتي نيومكسيكو ويوتاه، وقد عُرف ذلك فيما بعد بالمواءمة 1850، خاصة بعدما تقرر أن تنضم ولاية كاليفورنيا إلى الولايات المتحدة على أساس أنها ولاية مستقلة لها حق إجازة الرق من عدمه في إطار ما عُرف «بالسيادة الشعبية»، بينما تقرر على صعيد آخر تغليظ عقوبة العبيد الهاربين. وعلى مدار حقبة الخمسينات بدأ الحوار حول الرق يأخذ طابع التوترات السياسية إلى أن تحول في إحدى المناسبات للتطاول بالأيدي داخل الكونغرس، وهو ما كان يُنذر بأن انتشار العنف في الولايات أصبح مسألة وقت لا غير، وكانت ولاية كانساس هي المرشحة لتشهد ساحات من العنف جراء هذا النقاش المحتدم.
وهكذا أصبح القتال هو الحل الوحيد عندما تحول المشهد السياسي إلى خلاف بين الشمال والجنوب حول الرق خلافا سياسيا ممتدا إلى طريقة الحياة الجديدة التي ستنتهجها الولايات المتحدة، وهذا كان لب الأمر، فالحرب الأهلية أصبحت هنا أداة لتغيير طريقة ونمط الحياة وأسلوبها بين الشمال والجنوب كما سنرى.



موسكو تترقّب إدارة ترمب... وتركيزها على سوريا والعلاقة مع إيران

لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)
لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)
TT

موسكو تترقّب إدارة ترمب... وتركيزها على سوريا والعلاقة مع إيران

لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)
لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)

لم تُخفِ موسكو ارتياحها للهزيمة القاسية التي مُنيت بها الإدارة الديمقراطية في الولايات المتحدة. إذ في عهد الرئيس جو بايدن تدهورت العلاقات بين البلدين إلى أسوأ مستوياتها منذ تفكّك الاتحاد السوفياتي السابق، وجرى تقويض كل قنوات الاتصال السياسية والدبلوماسية والأمنية. وحتى «الخط الساخن» الذي طالما عوّل عليه البلدان لمواجهة الظروف الطارئة وتجنّب الانزلاق إلى احتكاكات مقصودة أو غير مقصودة، جرى تجميده كلياً. كانت تلك، وفقاً لمسؤولين روس، أسوأ أربع سنوات في العلاقات، ولقد تحوّلت فيها الولايات المتحدة إلى خصم مباشر، و«شريك رئيس في الحرب الهجينة ضد روسيا». ولم ينعكس التدهور فقط في ملفات أوكرانيا والأمن الاستراتيجي والوضع في أوروبا - وهي القضايا المركزية التي تشغل بال الكرملين - بل أيضاً امتد في تأثيره بعيداً عن الجغرافيا الحيوية لروسيا... ليصل إلى الملفات الإقليمية الساخنة في الشرق الأوسط التي شهدت تصعيداً متواصلاً فاقم تأجيج الأزمة في العلاقات.

بمجرد اتضاح نتائج الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة، بدأ محللون روس في وضع «سيناريوهات» للتقارب مع الإدارة الجمهورية الجديدة في واشنطن. ولطالما كان ينظر في موسكو للرئيس المنتخب دونالد ترمب على أنه «قادر على إعادة تشغيل العلاقات مع موسكو»، والتوصل إلى تسويات أو «صفقات» حول القضايا الأكثر خلافية.

بيد أن الكرملين كان قد خاض تجربة مريرة مع ولاية ترمب الأولى، عندما بدا الرئيس - المتهم بالتعاون سرّاً مع روسيا - عاجزاً عن مواجهة تركة باراك أوباما الثقيلة في العلاقة مع موسكو. لذلك لم ينجح التفاؤل الروسي في حينه، ولا الخطوات المحدودة التي انتهجها ترمب في تحسين العلاقات جدياً، ووضع «سيناريوهات» للتعاون في ملفات دولية أو إقليمية. بل بالعكس من ذلك، فقد واجهت روسيا في ولاية ترمب السابقة أضخم رُزم عقوبات فرضتها واشنطن. ومن ناحية ثانية، فشل الطرفان أيضاً في تحسين شروط التعاون حيال ملفات إقليمية مهمة، فتدهور الوضع حول إيران بعد انسحاب ترمب من الاتفاقية النووية، وتراجع الأخير عن تنفيذ تعهد الانسحاب من سوريا.

ثلاثة أفخاخ

بناءً عليه، بدت موسكو أكثر حذراً هذه المرة وهي تستقبل أنباء فوز ترمب الساحق. وحقاً، تجنّبت تعليق آمال جدية، بانتظار ما ستقدم عليه الإدارة الجديدة من خطوات عملية فور تسلم الرئيس منصبه رسمياً في يناير (كانون الثاني) المقبل.

لكن هذا لم يمنع التوقّعات المتشائمة، التي غلبت على العلاقة، من البروز بشكل مباشر أو غير مباشر. والحال أن موسكو تبدو حالياً ضعيفة الثقة بقدرة «ترمب الجديد» على تجاوز التغيّرات الكبرى التي شهدتها الأوضاع الإقليمية والدولية خلال السنوات الأخيرة. وفي هذا الإطار، أجمل أليكسي بوشكوف، عضو مجلس الشيوخ الروسي وأحد خبراء السياسة المقربين من الرئيس فلاديمير بوتين، المأزق الذي يواجه ترمب بأنه يشتمل على «ثلاثة أفخاخ صعبة».

الفخ الأول، بطبيعة الحال، هو ملف أوكرانيا: فلقد استثمرت الولايات المتحدة بالفعل الكثير في أوكرانيا لدرجة أنها ما عادت تعرف كيفية الخروج من هذه الأزمة. وهنا لا تتوقف موسكو كثيراً عند الوعود الانتخابية لترمب بإنهاء الحرب في 24 ساعة. ويتساءل بوشكوف: «هل ستتخلى واشنطن عنها مثل أفغانستان؟ لم يعد يمكنها ذلك». أو تكمل ما بدأته الإدارة الديمقراطية؟ عندها... وكما حذّر ترمب بحق، فإن هذا قد يؤدي إلى صراع نووي مع روسيا. تدرك موسكو حجم الصعوبات التي تواجه ترمب في هذا الملف.

أما الفخ الثاني، فهو شرق أوسطي. وهنا - حسب بوشكوف - «لا يمكن لترمب التراجع عن دعم إسرائيل بسبب وجود لوبي قوي جدّاً مؤيد لإسرائيل في الولايات المتحدة. لكنه لا يستطيع دعم رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو علناً في كل ما يفعله، لأن هذا يضرّ بمكانة الولايات المتحدة في العالم العربي (...) ولأن المخطط الأميركي لمصالحة إسرائيل مع جيرانها ما زال موضع شك. لقد حاولت الولايات المتحدة إخراج إسرائيل من عزلتها في المنطقة... لكن هذا المدخل لم يعد يعمل. وعلاوة على ذلك: يُصرّ العالم العربي على إقامة الدولة الفلسطينية، وهو ما ترفضه إسرائيل بشكل قاطع. إذن فهذا أيضًاً فخ».

وأما الفخ الثالث فهو تايوان. ووفقاً لبوشكوف: «من الممكن أن تصبح قضية تايوان فخاً كبيراً للولايات المتحدة. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل ستدعم أوروبا الأميركيين إذا دخلت الولايات المتحدة في صراع مع الصين؟ لقد قوّضت أوروبا نفسها اقتصادياً بشدة بالفعل بسبب انفصالها عن روسيا. وإذا فتحت أيضاً معركة مع الصين، التي يبلغ حجم تجارة الاتحاد الأوروبي معها تريليون دولار أميركي، فمن المرجح أن ينهار الاقتصاد الأوروبي ببساطة».

قنابل موقوتة

السياسي الروسي يرى أن «الأفخاخ الثلاثة» تمثل قنابل موقوتة بالنسبة إلى دونالد ترمب... مهما كانت طبيعة التركيبة النهائية لفريقه الرئاسي، أو خطواته الأولى على صعيد السياسة الخارجية.

فضلاً عن ذلك، يرى بوشكوف، أن ترمب الذي تعهد بإيلاء القدر الأكبر من الاهتمام للإصلاح الداخلي، سيواجه صعوبة كبرى في إيجاد توازن بين الانكفاء إلى الداخل من أجل تحسين الأداء الاقتصادي ومواجهة الهجرة و«إعادة أميركا عظيمة» بقدراتها واقتصادها ومستوى المعيشة لشعبها، وبين العمل بسرعة لتنفيذ وعود انتخابية بإنهاء حروب وتقليص التوتر في أزمات خارجية. ويضيف متسائلاً: «كيف يمكن أن تكون أميركا عظيمة مجدّداً... وهي تنكفئ في السياسة الدولية؟».

تبدو موسكو حالياً ضعيفة الثقة بقدرة «ترمب الجديد» على تجاوز

التغيّرات الكبرى التي شهدتها الأوضاع الإقليمية والدولية خلال السنوات الأخيرة

تباين حيال التسوية في الشرق الأوسط

لا يبدو أن موسكو تثق كثيراً بقدرة ترمب على لعب دور نشط لإنهاء الحرب على غزة ولبنان، ودفع الإسرائيليين إلى التوصّل لحلول سياسية تعيد الهدوء - ولو نسبياً - إلى الشرق الأوسط.

وهنا، يذكر خبراء أن المدخل الأميركي السابق قام على أساس تعزيز اتفاقات تطبيع وفرض سلام من نوع خاص، لا يؤدي إلى تسوية سياسية حقيقية تنهي العنف في المنطقة وتنزع ذرائعه.

وترمب نفسه أعرب خلال فترة ولايته الرئاسية الأولى عن نيته التوسط في حل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، لكنه أظهر لاحقاً التقارب مع إسرائيل من أجل كسب دعم المانحين الرئيسيين والناخبين الرئيسيين، وخاصة الصهاينة المسيحيين الإيفانجيليين.

بحسب خبراء، هذا الموقف يتوافق مع النهج القائل: «أميركا تفعل ما تريد، وبالتالي أصدقاء أميركا يفعلون ما يريدون». مع الإشارة هنا إلى أن هذا النهج المائل إلى عقد «صفقات» ينصّ على «امتيازات خاصة للحلفاء كدفعة مقابل الأمن». غير أن موسكو ليست مقتنعة بأن هذا المدخل سيعزّز طريق الحلول النهائية للمنطقة.

ومقابل القناعة الروسية بالعودة إلى الآليات التي توافر عليها نوعٌ من الإجماع الدولي، كإحياء «الرباعية الدولية» وتوسيعها بضم بعض الأطراف الإقليمية المهمة (المملكة العربية السعودية ومصر وجامعة الدول العربية)، وأيضاً العودة إلى مبادئ التسوية القائمة على أساس رفض التوسّع الجغرافي للاحتلال، وإعلاء «مبدأ حل الدولتين» ووضع خرائط طريق جديدة بينها «المبادرة العربية للسلام»، فإن مدخل ترمب يقوم على عقد صفقات سريعة للتهدئة، وترك المناطق أمام «برميل بارود» قابل للانفجار مجدداً في أي وقت.

في هذا الإطار لا يتوقّع خبراء روس أن تكون التسوية في الشرق الأوسط بين أولويات الحوار المنتظر مع الإدارة الأميركية الجديدة، بالنظر إلى أن هذا الموضوع فيه تباعد واسع في وجهات النظر، ولا يدخل ضمن الملفات التي قد يكون بوسع الطرفين التوصل إلى صفقات حولها.

وفي الوقت ذاته، ترى موسكو - وفقاً لتحركات محدَّدة برزت في سوريا، ومن خلال حوارات مكثفة أجريت غالباً خلف أبواب مغلقة مع الجانب الإسرائيلي - أن بوسعها لعب دور أساسي في تأكيد دورها بضمان أمن إسرائيل من جهة سوريا وإيران مستقبلاً. وهو ما يعني أن هذا الموضوع قد يكون جزئياً على طاولة حوار روسي - أميركي في وقت لاحق.

تأهب للحوار حول سوريا

في هذه الأثناء، لدى الأوساط الروسية نظرة إيجابية، ولكن حذرة، بشأن احتمالات سحب ترمب القوات الأميركية من سوريا إبان ولاية ترمب الجديدة.

موسكو تتذكر الإرادة الأميركية في الانسحاب من سوريا إبان ولاية ترمب السابقة، لكن يومذاك كان التهديد الإرهابي ما زال نشطاً، والخطوط الفاصلة ومناطق النفوذ لم تكن قد تبلورت بشكل شبه نهائي. لذا يرى خبراء روس أن ترمب عندما يتكلّم عن سحب القوات حالياً فهو ينطلق من واقع ميداني وسياسي جديد. وبالتالي، سيكون حذراً للغاية عند مناقشة هذه المشكلة مجدداً.

أيضاً، ونظراً لوعود ترمب الانتخابية المتكررة، يُرجح أن ترغب واشنطن في سحب قواتها من سوريا، لكن لا يبدو لموسكو أن هذه القضية ستكون مُدرجة على جدول الأعمال ضمن أولويات التحرك الأميركي حالياً.

لقد قوبلت خطط ترمب لسحب القوات في السابق بمقاومة مفتوحة، خاصة من «القيادة الوسطى» الأميركية وشخصيات، مثل بريت ماكغورك، الذي عمل مبعوثاً خاصاً لمكافحة «داعش» حتى أواخر عام 2018، واستقال قبل شهرين من انتهاء فترة ولايته، مباشرة بعد قرار إدارة ترمب سحب القوات من سوريا في 19 ديسمبر (كانون الأول) 2018. بعدها عيّن جو بايدن، الرئيس الأميركي المنتخب، عام 2020، ماكغورك منسقاً لمجلس الأمن القومي الأميركي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، واكتسبت سياسة واشنطن في سوريا لدعم حزب العمال الكردستاني «وحدات حماية الشعب» زخماً.

حالياً يعود الملف إلى دائرة النقاش، ولقد برز بشكل واضح خلال اجتماعات «جولة آستانة للحوار» التي انعقدت أخيراً. وأكد المبعوث الرئاسي الروسي ألكسندر لافرنتييف إلى سوريا في ختام الاجتماعات أن موسكو منفتحة على الحوار مع الإدارة الأميركية الجديدة فور تشكيلها، لبحث الملفات المتعلقة بسوريا. وقال الدبلوماسي الروسي: «إذا كانت هناك مقترحات، فإن الجانب الروسي منفتح، ونحن على استعداد لمواصلة الاتصالات مع الأميركيين».

وفي هذا المجال، تنطلق موسكو من قناعة بأنه لا يمكن التوصل إلى بعض الحلول الوسط إلا من خلال المفاوضات المباشرة. وهي هنا مستعدة للاستماع إلى وجهات النظر الأخرى، وربما تقديم بعض الضمانات التي تحتاج إليها واشنطن لتسريع عملية الانسحاب ودعم التسوية في سوريا برعاية روسية تضمن مصالح الأخيرة.