الحقيبة الثقافية

الحقيبة الثقافية
TT

الحقيبة الثقافية

الحقيبة الثقافية

* «كتاب الهلال» يصدر رسائل من الحرب العالمية الأولى
* القاهرة: داليا عاصم
صدر عن سلسلة روايات الهلال كتاب «رسائل من الحرب العالمية الأولى» التي كتبها الجندي البريطاني كونينجسبي داوسن (1883 - 1959)، الرسائل-الكتاب الذي نشر عام 1917 بعنوان «داوم على المراسلة في زمن الحرب» صدرت ترجمته العربية الأولى أمس في عدد (نوفمبر /تشرين الثاني 2014) بترجمة الشاعر والمترجم المصري الحسين خضيري.
ما بين رعب الموت وأهواله وبهجة الحياة والعودة إليها، تجعلك الرسائل تعايش لحظات الفناء والحياة حيث ينتمي الكتاب إلى أدب الحرب، كتب داوسن هذه الرسائل من ساحة الحرب العالمية الأولى، في أوج المعمعة وبتصفح تلك الرسائل ستجد أن الكتابة كانت وسيلته للحياة ودافعا للبقاء، فتبدو معها كقصيدة طويلة تتغنى بالحياة. من وجهة نظر جندي عاشق لا تصير الحرب حربا، ولكنها حدث إنساني استثنائي يفجر طاقاته، ويمنحه بصيرة فيرى الأشياء على نحو مختلف، ويصير فيلسوفا يكتسب من الأدب قوة البيان.
وتعد «رسائل من الحرب العالمية الأولى» أقرب إلى الشعر من كونها نصا سرديا، وتمثل سجلا لمشاعر الحب والكراهية والشجاعة والخوف، سجلا عابرا للزمن، يلخص مأساة الإنسان في زماننا أيضا. ولم تكن هذه الخطابات لتنشر من قِبل هؤلاء الذين أُرسلت إليهم، لولا شعورهم أن روح الكاتب وطباعه من الممكن أن تسهم في تقوية أمثاله ممن يُدعَون إلى تقديم تضحياتٍ عظيمة لأجل واجبات رسمية.
ويقول أحمد شامخ مدير تحرير سلسلة «روايات الهلال» إن قيمة هذه الخطابات ليست في هذه الحقائق التي تضمنتها، وإنما في كيفية تأثير هذه الحقائق البطولية المروعة على العقل الذي تمرس طويلا على الأخلاق والمثالية الرومانسية، وتلك العمليات التي بها يكيف العقل نفسه مع الظروف غير المتوقعة التي لا تُصدق والأفعال والواجبات المرعبة، والتي لا تكون رهيبة بفضل فعالية الجهد الروحي الذي يستحضرونه. ففي اللحظة الفارقة بين الحياة والموت يقف الإنسان على حد السكين، وتتنازع عقله وقلبه عواطف متناقضة.
ومع ذلك، فإن قلب الكاتب لم يقس رغم تعامله اليومي مع الموت، لقد طهرته الشفقة والأهوال، والبطولة والتضحية، من أجل واجبات جليلة، كما تكمن أهمية الكتاب أيضا في كيفية تأثير الحقائق الحربية المرعبة والبطولية في آن، على العقل المرهف في مواجهة واجباتٍ ترقد إلى جوار الرعب، ويتم إنقاذها من كونها مروعة بواسطة فعالية المجهود الروحي الذي يتم استحضاره.
في فحوى رسائل داوسن التي خطها في أوج المعارك كراهية للحرب، ومع ذلك فإن قلب الكاتب لم يقس إثر علاقاته اليومية بالموت؛ لقد هذبته الشفقة والرعب، والبطولة والتضحية، حتى بدت الطبيعة الكاملة عذبة صلبة في أدق مقدرة.
إن الطبيعة الحميمية لهذه الخطابات ترتبط بروح الكاتب الذي امتلك مزاجا رومانسيا ومثاليا، فمن كندا يكتب لأسرته مندهشا: «كيف أخط إليكم رسائل حب، ثم أستدير موجها إلى صدور الرجال رسائل صلب (رصاصات قاتلة)».
تلك المأساة، وذلك التناقض، بين موقعه في ساحة المعارك ومثاليات يؤمن بها جعلت كونينجسبي داوسن يتحول من شاب صارم، إلى رجل غير مبالٍ نسبيا بمنح الحياة، رغم أن ذلك لم يقلل من بهجته القوية في الحياة. لقد كان فنه هو همه الرئيسي، فتحول من محارب إلى روائي.

* الجزء الثالث من «يوليسيس» بالعربية
* لندن: «الشرق الأوسط»
صدر ببيروت عن دار المدى الجزء الثالث من رواية يوليسيس للكاتب الآيرلندي جيمس جويس وترجمة الشاعر العراقي المغترب صلاح نيازي. ضم هذا الجزء الحلقات 13 و14 و15، وبلغ عدد صفحاتها نحو 430 صفحة من القطع الكبير، وهي مزوّدة كما في الجزأين السابقين بشروح وافية تعين القارئ على ما استغلق وغمض، إلى حدّ ما. جاء في توطئة هذا الجزء:
كان الشرك الحقيقي في الحلقة الـ15. إنها بنظر الكثيرين من النقاد الجويسيين أصعب الحلقات طرّا. وبها تبدأ الرواية. كذا ظنّ بعض النقّاد.
يقينا، إنّها تأليف جسيم، مرهوب، أقفاله تفوق بالكثير، مفاتيحه. معميّات دونها معميّات إلى أن ينقطع النفس. هنا لا تُمتحن الترجمة بالنجاح أو الفشل، وإنما بالنجاة لأنّها مخاطرة متجهمة تقتات على الأعصاب وعضلات العين. كذلك، التشنج في الرقبة.
كلّ مرحلة تعقّد المرحلة التي تليها، كتطور الجنين الذي ساواه جويس بتطور اللغة. ليس عبثا إذن أنْ تبدأ هذه الحلقة بمستشفى للولادة، وليس اعتباطا أنْ حاكى جويس في هذه الحلقة أكثر من دزينة من الأساليب النثرية، بدأها بالمؤرخين اللاتين من أمثال سالسوت وتاسبتوس من دون أن يجعل محاكاته إنجليزية.
ثم حاكى المؤرخين اللاتين في العصور الوسطى وجعلها تشبه نفسها، أي لا علاقة لها بالإنجليزية.
انتقل بعد ذلك، إلى الأنجلو ساكسونية، فالنثر الإنجليزي في العصور الوسطى، فأشهر الكتاب الإنجليز من مختلف العصور، إلى جون رسكن، وتوماس كارلايل.
هذه عقبة أقل ما توصف به كأداء. كيف تترجم هذه الأساليب إلى لغة أخرى تخلو منها كاللغة العربية على غناها الفذّ؟
* الحيلة الوحيدة في اليد، هي محاكاة جويس في محاكاته.
احتوت بوتقة جويس اللغوية هنا، اللغات السنسكريتية والعبرية و«الغاليّة» والألمانية والإيطالية والفرنسية، والإسبانية والكلمات المهجورة، في العامية الآيرلندية والأميركية والفرنسية وعاميّة شرقي لندن المعروفة باسم «الكوكني» cockney، بالإضافة إلى منحوتاته، حتى إنّه صاغ من الحروف أصواتا موسيقية لتصوير 3 مساقط مائية وفي كل مرة تختلف الموسيقى باختلاف توزيع الحروف وكأنها نوتات موسيقية.
في الحلقة الـ15. وهي أطول حلقة في الرواية، ينهض جويس بالعبقرية إلى تخوم جنونية لم أقرأ عمقا أكثر حكمة وثقافة مثلها، في أي كتاب آخر. وكأنْ انفلت الذهن من عقاله، فلا فرق بين الرواية والمسرحية. بالفعل أصبحت الرواية مسرحية نطّق فيها جويس شتى الجمادات والحيوانات. القنفذ، شجر الطقسوس، المعزاة، القلنسوة، الأساور، حتى الصابونة تتحاور.
في هذه الحلقة نرى أمامنا على المسرح كيف يُمسخ الإنسان. رجل يستحيل إلى امرأة، امرأة تصبح رجلا. فنتازيا من الجينات الدفينة أكثر واقعية من الواقع. واقع لا يشبه حتى نفسه. أسهل ما في هذه الحلقة هو الدخول إليها، وأصعب ما فيها الخروج منها. تيّار الوعي الجويسي في أقصى جموحه ينتقل بعفوية من البوذية والتوراة والإنجيل، من الفلسفة الإغريقية، من الماخور، من علم الفلك، من التنجيم، من الأوبرا والشعر والمسرح، من علم الطبابة وسباقات الخيول من علم الأجنة، والقابلات، والمومسات والسفلس ومجلس النواب، وأغلفة المطاط لمنع الحمل من... من... إلى... وبلمح البصر تجوز أزمنة وبقاعا مواتا عادت ممرعة كأنهار جافة تدفقت من جديد.
ومن المؤمل أن ينتهي المترجم من إكمال الحلقات المتبقية الـ3 قريبا.

* مثقفون عرب في مبادرة لدعم أطفال الحرب بالعراق وسوريا
* لندن: «الشرق الأوسط»
أطلق عدد من الكتاب والفنانين العرب المقيمين بلندن مبادرة للتضامن مع أطفال العراق وسوريا، عبر تنظيم أمسيات ثقافية ومزادات فنية يخصص ريعها للأطفال اللاجئين داخل البلدين أو في مخيمات اللجوء بالبلدان المجاورة. ويأمل القائمون على المبادرة، التي أطلق عليها اسم «رسالة حب من لندن»، أن تعمم في المستقبل لتشمل بلدانا عربية وأجنبية لتحفيز المثقفين العرب على التحرك للعب دور إيجابي في التضامن مع ضحايا الحروب، وخصوصا الأطفال.
أول نشاط للمبادرة سيكون أمسية شعرية - فنية تضم كلا من الشاعرة اللبنانية مريم مشتاوي، والشاعر العراقي فاضل السلطاني، والفنان التشكيلي العراقي فيصل لعيبي، وعازف العود والمؤلف الموسيقي العراقي أحمد مختار، والخطاط المصري الفنان مصطفى حسن، وسيساهم في الأمسية المترجم البريطاني جيك غوردن.
تستضيف الأمسية الأولى للمبادرة مدرسة الدراسات الشرقية والأفريقية (سواس)، التابعة لجامعة لندن، في مقر فرنن سكوير، وذلك في الرابع من ديسمبر (كانون الأول) المقبل، في تمام الساعة السابعة مساء.



«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين
TT

«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين

كان أحدهم قد أطلق العبارة التالية: كيركيغارد فيلسوف كبير على بلد صغير الحجم. بمعنى أنه أكبر من البلد الذي أنجبه. وبالفعل، فإن شهرته أكبر من الدنمارك، التي لا يتجاوز عدد سكانها 5 ملايين نسمة، وبالطبع أكبر من اللغة الدنماركية المحدودة الانتشار جداً قياساً إلى لغات كبرى كالفرنسية والإنجليزية والألمانية والإسبانية، ناهيك بالعربية. ولكن مؤلفاته أصبحت مترجمة إلى شتى لغات العالم. وبالتالي، لم تعد محصورة داخل جدران لغته الأصلية الصغيرة. لقد أصبحت ملكاً للعالم أجمع. هنا تكمن عظمة الترجمة وفائدتها. لا حضارة عظيمة من دون ترجمة عظيمة. والحضارة العربية التنويرية قادمة لا ريب، على أكتاف الترجمة والإبداع الذاتي في آنٍ معاً.

سورين كيركيغارد (1813 - 1855) هو مؤسس الفلسفة الوجودية المعاصرة، قبل هيدغر وسارتر بزمن طويل. إنه الممثل الأكبر للتيار الوجودي المسيحي المؤمن، لا المادي الملحد. كان كيركيغارد أحد كبار فلاسفة الدين في المسيحية، إضافة إلى برغسون وبول ريكور، مثلما أن ابن رشد وطه حسين ومحمد أركون هم من كبار فلاسفة الدين في الإسلام.

سورين كيركيغارد

لكن ليس عن هذا سأتحدث الآن، وإنما عن قصة حب كبيرة، وربما أكبر قصة حبّ ظهرت في الغرب، ولكن لا أحد يتحدث عنها أو يسمع بها في العالم العربي. سوف أتحدث عن قصة كيركيغارد مع الآنسة ريجين أولسين. كيف حصلت الأمور؟ كيف اشتعلت شرارة الحب، تلك الشرارة الخالدة التي تخترق العصور والأزمان وتنعش الحضارات؟ بكل بساطة، كان مدعواً إلى حفلة اجتماعية عند أحد الأصدقاء، وصادف أنها كانت مدعوة أيضاً. كانت صغيرة بريئة في الخامسة عشرة فقط، وهو في الخامسة والعشرين. فوقع في حبها على الفور من أول نظرة، وبالضربة القاضية. إنه الحب الصاعق الماحق الذي لا يسمح لك بأن تتنفس. ويبدو أنه كان شعوراً متبادلاً. وبعد 3 سنوات من اللقاءات والمراسلات المتبادلة، طلب يدها رسمياً فوافقت العائلة.

ولكنه صبيحة اليوم التالي استفاق على أمر عظيم. استفاق، مشوشاً مبلبلاً مرعوباً. راح ينتف شعر رأسه ويقول: يا إلهي، ماذا فعلت بنفسي؟ ماذا فعلت؟ لقد شعر بأنه ارتكب خطيئة لا تغتفر. فهو لم يخلق للزواج والإنجاب وتأسيس عائلة ومسؤوليات. إنه مشغول بأشياء أخرى، وينخر فيه قلق وجودي رهيب يكاد يكتسحه من الداخل اكتساحاً... فكيف يمكن له أن يرتكب حماقة كهذه؟ هذه جريمة بحقّ الأطفال الذين سوف يولدون وبحقّها هي أيضاً. ولذلك، فسخ الخطوبة قائلاً لها: أرجوك، إني عاجز عن القيام بواجبات الزوجية. أرجوك اعذريني.

ثم أردف قائلاً بينه وبين نفسه: لا يحق لي وأنا في مثل هذه الحالة أن أخرب حياة خطيبتي المفعمة بحب الحياة والأمل والمحبة، التي لا تعاني من أي مشكلة شخصية أو عقدة نفسية أو تساؤلات وجودية حارقة. وإنما هي إنسانة طبيعية كبقية البشر. أما أنا فإنسان مريض في العمق، ومرضي من النوع المستفحل العضال الذي لا علاج له ولا شفاء منه. وبالتالي، فواجب الشرف والأمانة يقتضي مني أن أدوس على قلبي وأنفصل عنها وكأني أنفصل عن روحي.

لكن عندما سمع بأنها تزوجت من شخص آخر جنّ جنونه وتقطعت نياط قلبه وهاجت عليه الذكريات. بل هرب من الدنمارك كلها لكيلا يسمع بالتفاصيل والتحضيرات وليلة العرس. هذا أكبر من طاقته على التحمل. وأصبح كالمجنون الهائم على وجهه في البراري والقفار. كيف يمكن أن يتخيلها مع رجل آخر؟ هل انطبقت السماء على الأرض؟ مجنون ليلى ما تعذب مثلنا.

الشيء المؤثر في هذه القصة هو أن خطيبته التي عاشت بعده 50 سنة تقريباً طلبت أن تدفن إلى جواره، لا إلى جوار زوجها الشرعي! فاجأ الخبر كثيرين. وكانت بذلك تريد أن تقول ما معناه: إذا كان القدر قد فرقني عنه في هذه الحياة الدنيا، فإني سألتحق به حتماً في الحياة الأخرى، حياة الأبدية والخلود. وكانت تعتبر نفسها «زوجته» برغم كل ما حصل. وبالفعل، عندما كان الناس يتذكرونها كانوا يقولون: خطيبة كيركيغارد، لا زوجة فريدريك شليجيل. وقالت: إذا لم يكن زوجي هنا على هذه الأرض، فسوف يكون زوجي هناك في أعالي السماء. موعدنا: جنة الخلد! هل هناك حب أقوى من هذا الحب؟ حب أقوى من الموت، حب فيما وراء القبر، فيما وراء العمر... الحب والإيمان. أين هو انتصارك يا موت؟

قصة حب تجمع بين كيركيغارد، مؤسس الفلسفة الوجودية، وفتاة شابة جميلة تصغره بعشر سنوات، لكن الفلسفة تقف حجر عثرة بينهما، فينفصل عنها وتظل صورتها تطارده طيلة حياته

اللقاء الأخير

كيف يمكن أن نفهم موقف كيركيغارد من حبيبته إن لم نقل معبودته ريجين أولسين؟ للوهلة الأولى يبدو أنه لا يوجد أي تفسير منطقي له. فقد قطع معها في أوج العلاقة الغرامية، دون أي سبب واضح أو مقنع. ويبدو أنها حاولت أن تراه لآخر مرة قبيل سفرها مع زوجها إلى بلاد بعيدة. أن تراه في الشارع كما لو عن طريق الصدفة. وعندما اصطدمت به، قالت له: «ليباركك الله، وليكن كل شيء كما ترغب». وهذا يعني أنها استسلمت للأمر الواقع نهائياً، وأنه لا عودة بعد اليوم إلى ما كان. تراجع كيركيغارد خطوة إلى الوراء عندما رآها حتى لكأنه جفل. ثم حياها دون أن ينبس بكلمة واحدة. لم يستطع أن يرد. اختنق الكلام في صدره. لكأنه يقول بينه وبين نفسه: هل يحق لمن يقف على الخطوط الأمامية لجبهة الفكر، لجبهة النار المشتعلة، أن يتزوج؟ هل يحق لمن يشعر بأن حياته مهددة أن ينجب الأطفال؟ أطفاله هم مؤلفاته فقط. هل يحق لمن يصارع كوابيس الظلام أن يؤسس حياة عائلية طبيعية؟ ما انفك كيركيغارد يحاول تبرير موقفه، بعد أن شعر بفداحة ما فعل مع ريجين. لقد اعتقد أنه انفصل عنها، وانتهى الأمر، فإذا بها تلاحقه إلى أبد الآبدين. ما انفك يلوم نفسه ويتحسر ويتعذب. لكأنه عرف أن ما فعله جريمة لا تغتفر. نعم، لقد ارتكب جريمة قتل لحب بريء، حب فتاة غضة في أول الشباب. من يستطيع أن يقتل العاطفة في أولها، في بداية انطلاقتها، في عنفوانها؟ طيلة حياته كلها لم يقم كيركيغارد من تلك الضربة: ضربة الخيانة والغدر. وربما لم يصبح كاتباً وفيلسوفاً شهيراً إلا من أجل تبريرها. لقد لاحقه الإحساس القاتل بالخطيئة والذنب حتى آخر لحظة من حياته. إذا لم نأخذ هذه النقطة بعين الاعتبار فإننا لن نفهم شيئاً من فلسفة كيركيغارد. لقد أصبحت قصته إحدى أشهر قصص الحب على مدار التاريخ، بالإضافة إلى قصة دانتي وبياتريس، وروميو وجولييت، وأبيلار وهيلويز. ويمكن أن نضيف: مجنون ليلي، وجميل بثينة، وكثير عزة، وعروة وعفراء، وذا الرمة ومي... إلخ. العرب هم الذين دشنوا هذا الحب العذري السماوي الملائكي قبل دانتي وشكسبير بزمن طويل. ولماذا تنسون عنتر وعبلة؟ بأي حق؟

ولقد ذكرتك والرماح نواهلٌ

مني وبيض الهند تقطر من دمي

فوددت تقبيل السيوف لأنها

لمعت كبارق ثغرك المتبسم

بعد أن تجاوز فيلسوف الدنمارك تلك التجربة العاصفة، شعر وكأنه ولد من جديد، أصبح إنساناً جديداً. لقد انزاح عن كاهله عبء ثقيل: لا عائلة ولا أطفال ولا زواج بعد اليوم، وإنما معارك فكرية فقط. لقد طهره حب ريجين أولسين من الداخل. كشف له عن أعماقه الدفينة، وأوضح له هويته ومشروعه في الحياة. الحب الذي يفشل يحرقك من الداخل حرقاً ويطهرك تطهيراً. بهذا المعنى، فالحب الفاشل أفضل من الحب الناجح بألف مرة. اسألوا أكبر عاشق فاشل في العالم العربي. بعدها أصبح كيركيغارد ذلك الفيلسوف والكاتب الكبير الذي نعرفه. بالمعنى الأدبي للكلمة، وليس مفكراً فيلسوفاً فقط، بالمعنى النثري العويص الجاف. من ثم هناك تشابه كبير بينه وبين نيتشه مع الفارق، الأول مؤمن، والثاني ملحد. وأخيراً، لم ينفك كيركيغارد يحلل أعماقه النفسية على ضوء ذلك الحب الخالد الذي جمعه يوماً ما بفتاة في عزّ الشباب، تدعى ريجين أولسين. عبقريته تفتحت على أنقاض ذلك الحب الحارق أو المحروق. كان ينبغي أن تحصل الكارثة لكي يستشعر ذاته، ينجلي الأفق، يعرف من هو بالضبط. من كثرة ما أحبها تركها. لقد قطع معها لكي تظل - وهي العزيزة الغائبة - أشد حضوراً من كل حضور!