هل بدأت جائزة نوبل تخرج عن تحيزها السياسي؟

بعد فوز الروائي الفرنسي باتريك موديانو بها هذا العام

باتريك موديانو
باتريك موديانو
TT

هل بدأت جائزة نوبل تخرج عن تحيزها السياسي؟

باتريك موديانو
باتريك موديانو

دعوني أعترف لكم في البداية بأنني سعيد لحصول باتريك موديانو على جائزة نوبل في الأدب لهذا العام. في الحقيقة ربما يكون اختيار موديانو إشارة إلى أن أكاديمية نوبل بدأت تخرج من ضباب التحيز السياسي الذي أثر على قراراتها منذ عقود.
منذ التسعينات على الأقل كانت جائزة نوبل غالبا ما تذهب إلى كتاب وشعراء ذوي انتماءات سياسية معينة. كان عليهم أن يكونوا على الأقل من اليسار المعتدل، ومعادين للولايات المتحدة بوضوح، ومعروفين بين نخبة من المتخصصين وليس الجمهور بأسره. وفيما عدا استثناءات قليلة، كانت تلك الشروط تنطبق على جميع الفائزين، ومن بينهم جان ماري غوستاف لوكليزو، آخر كاتب فرنسي يفوز بالجائزة في عام 2008.
في المقابل، لا يتسم موديانو بأي من تلك الأمور؛ فهو كاتب أولا وأخيرا. وفي ظل ابتعاده عن السياسة السائدة، لا يمكن تصنيفه بأنه ينتمي إلى «اليمين» أو «اليسار». كذلك لا يمكن الشك في أنه معاد للولايات المتحدة، على الأقل لأنه ذكي بما يكفي لمعرفة أن المرء لا يستطيع أن يكون مع أو ضد دولة ما طول الوقت في جميع القضايا. ولعل الأهم من ذلك هو أن موديانو الذي يحظى بتقدير النقاد، ومن بينهم النخبة الباريسية، من أصحاب أفضل الكتب مبيعا منذ أكثر من 3 عقود.
يستحق كاتب حقيقي تحقق كتبه أعلى مبيعات أن يتم الاحتفاء به تماما كما فعلت أكاديمية نوبل مع موديانو.
تعرفت على موديانو لأول مرة في عام 1978 عندما صدرت روايته «شارع المتاجر المظلمة» المترجم بالإنجليزية بعنوان «شخص مفقود». في ذلك الوقت كان هناك إجماع في الأوساط الأدبية في باريس على أن الرواية الفرنسية، والرواية في العموم، انتهت على الأقل في صورتها الكلاسيكية. وبدا أن كُتابا مثل فرنسوا مورياك وأندري جيد وحتى ألبير كامو، وجميعهم حازوا جائزة نوبل في الأدب، ينتمون إلى عصر منصرم. في ذلك الوقت كان السائد هو «الرواية الفرنسية الجديدة»، وهي سلسلة من الأعمال التي تنشرها دار «إديسيون دي مينوي» في باريس. وهنا تكمن الفكرة في الابتعاد عن سرد أي قصة على الإطلاق، بل التركيز على تحليل التجربة الإنسانية من خلال اللعب باللغة. وكان أكبر ما يميز «الرواية الجديدة» هو أن القارئ يجب أن لا يفهمها مع الادعاء بأن بها عمقا يفوق الاستيعاب البشري.
من بين منتجي «الرواية الجديدة»، الذين اعترض على وصفهم بالروائيين، ألان روب غرييه النابض بالحيوية، وملكة الغرابة نتالي ساروتي، وعلى مستوى أعلى ميشال بوتور وكلود سيمون، الذين اقتربوا من كونهم كُتابا جادين.
وكان هناك موديانو الشاب الخجول في ذلك الوقت، الذي ولد في عام 1945، في ضاحية بولون بيلانكور الصناعية في باريس، والذي كان من الواضح أنه يسبح ضد التيار الأدبي السائد.
في البداية، أراد موديانو أن يروي قصة تحمل تحولات ومنعطفات مما يحولها في بعض الأحيان إلى قصة تشويق. في هذه القصة كان غاي رولاند الذي يعمل في وكالة تحقيقات خاصة، يحاول جمع خيوط قصة حياة دفنت تحت أنقاض الزمن. وكان العمل يبعث على التشويق لدى القارئ الذي لا يتوقف عن ترديد السؤال السحري: ماذا حدث بعد ذلك؟ لم تكن هذه الرواية مثل كتب روب غرييه التي يمكن أن يتركها القارئ أو يكمل قراءتها في أي وقت وفي أي مرحلة من دون أن تكون لديه أدنى نزعة لمعرفة ماذا سيحدث بعد ذلك، لأنه لا يوجد شيء يحدث مطلقا.
كان أسلوب موديانو غير نمطي لسبب آخر. كان يكتب نصا فرنسيا كلاسيكيا منضبطا يبتعد تماما عن التلاعب السائد بالكلمات في ذلك العصر مع تجنب التجريب اللغوي الذي مارسه مؤلفون مثل أنطوان بلوندين في «قرد في الشتاء». كان هناك عنصر ثالث في شخصية موديانو كمؤلف. كان كاتبا بدوام كامل. فلا تراه في حفلات أدبية أو في التلفزيون أو عضو هيئة تحكيم في مهرجانات للسينما. حتى عندما تدعوه إلى الغداء يتردد في قبول الدعوة التزاما بالقول المأثور: «إما أن تخرج لتناول الغداء أو تكتب الأدب».
رغم أن كثيرا من النقاد الفرنسيين قرروا تجاهل موديانو ببساطة، فإن «شخص مفقود» استطاعت الحصول على جائزة غونكور، أكبر جائزة مرموقة في الأدب الفرنسي.
أكد بعض النقاد على أنه سيكون مؤلف الرواية الواحدة، وسريعا ما سيطويه النسيان. ولكن خشي آخرون من أنه تحت أضواء الشهرة والثروة سوف يستغل ذلك بإنتاج روايات بسرعة ترضي الناشرين. وتم تجاهل حقيقة أن «شخص مفقود» هي رواية موديانو السادسة، مما يعني أنه اختار طريقه بالفعل. وثبت أنهم على خطأ. وعلى مدار العقود الثلاثة الماضية، كان موديانو يخرج من شرنقته برواية جديدة كل عامين أو ثلاثة، وكانت كل رواية يكتبها بمثابة خطوة نحو نضوج بطيء ولكنه مستمر في فكره وأسلوبه.
من ناحية الموسيقى، يمكن وصف أعمال موديانو بأنها موسيقى الغرفة. لا يعد أسلوبه ملحميا، بل هو في الحقيقة يبتعد عن الموضوعات التي تحمل مبالغة، كما أنه يهتم بالتفاصيل التي لا تحصى ولا تعد في تشكيل الوجود البشري على مدار أعوام أو عقود. وإذا كان موسيقيا فيمكنه أن يكون كوريلي، وليس فاغنر بالتأكيد.
تتعلق فكرة موديانو الرئيسة بالهوية المفقودة والمكتشفة والمفقودة من جديد.
وفي روايته 1996 «بعيدا عن النسيان» (التي ترجمت بالإنجليزية إلى «خارج من الظلام») يتذكر الراوي قصة حب قصيرة حدثت قبل 30 عاما أعادت تشكيل حياته بأسرها. وبعد 15 عاما من انفصاله عن حبيبته الغامضة جاكلين، يتقابل الاثنان مرة أخرى.
ولكن في هذه المرة أنكرت جاكلين حتى أنها تعرفه. وفيما يشبه الحلم، يتساءل الراوي ما إذا كان هو الشخص الذي يفكر في أنه هو، وما إذا كانت جاكلين موجودة من الأصل.
ولكن فكرة رئيسة أخرى في أعمال موديانو هي الاعتقاد بأن الشيء الذي تم لا يمكن الرجوع فيه، وأننا جميعا، والوجود ككل، جزء من قصة تروى وتعاد روايتها. يقترب موديانو من مفهوم نيتشه عن «العودة الأبدية» الذي يقول بأن ما يحدث يتكرر حدوثه إلى ما لا نهاية.
ربما تكون هذه هي الروح التي كتب بها موديانو روايته الأولى «ميدان النجم» التي رسم فيها الشخصية المحورية على نمط والده اليهودي الإيطالي الذي يزعم تعاونه مع النازيين أثناء الاحتلال الألماني لباريس. أثار الكتاب غضب والد موديانو إلى درجة أنه حاول شراء جميع النسخ البالغ عددها 500 نسخة، لمنع أي شخص من قراءتها. وفي مرحلة ما، اتصل موديانو الأب بالشرطة وطلب منهم اعتقال ابنه. ولكن من حسن الحظ أن ذلك لم يحدث.
تقتصر لوحات موديانو عمدا على باريس، المدينة التي أصبحت موقعا لجميع روايته، رغم أنها أيضا تستخدم قاعدة انطلاق في السفر، الذي دائما ما يكون بحثا عن الهوية، إلى كثير من الأماكن الأخرى من روما إلى بنسلفانيا. يفضل موديانو أن يقول: «من دون باريس لم أكن لأصبح كاتبا. أي شخص يعيش في هذه المدينة بالفعل في طريقه لأن يصبح كاتبا!».
ومع ذلك، كانت باريس، التي يتحدث عنها موديانو، محدودة بصورة أكبر في بعض الأحيان، حيث يركز على الجانب الأيسر من نهر السين، حيث كان يقيم بالقرب من كنيسة سان سولبيس، التي كانت موقعا لرواية دان براون «شفرة دافنشي»، في قلب الحي اللاتيني.
يقول موديانو إنه يدين بالفضل في ارتباطه باللغة الفرنسية الكلاسيكية إلى ريمون كينو المؤلف الشهير أيضا، الذي كان مدرسا للرياضيات في مدرسة موديانو الثانوية. أخبر كينو موديانو أنه لن يصبح عالم رياضيات جيدا، ولكنه يملك إمكانية لأن يصبح كاتبا عظيما.
يقول موديانو إنه كان متأثرا على الدوام بطفولته المضطربة التي مرت بفترة طويلة من اختفاء والده، ووفاة شقيقه روبي في عمر 10 أعوام، ومعاناة والدته البلجيكية، وهي القصة التي رواها في «مسألة نسب»، وهي نوع من المذكرات التي نشرت في عام 2005.
يشار إلى أن موديانو حاول أيضا كتابة سيناريوهات أفلام، وإن لاقت نجاحا محدودا. بيد أنه اكتشف ذاته ككاتب تحقيقات قوي في عمله الذي يجمع بين كونه رواية وتحقيقا «دورا برودر» الذي صدر في عام 1977. وفيها يحقق في حادث اختفاء فتاة يهودية في برلين في عام 1941 كما ورد في إعلان صغير في إحدى الصحف. أين ذهبت المراهقة دورا؟ ماذا حدث لها؟ ويبدأ الراوي في تحقيق مفصل يستخدم فيه قدرا ضئيلا للغاية من المعلومات. وبهذا يتصالح مع «سنواته الضائعة». فما الذي يحدث؟ وما الذي سيحدث بعد ذلك؟
حسنا، ينبغي عليك أن تقرأ لموديانو.



«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين
TT

«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين

كان أحدهم قد أطلق العبارة التالية: كيركيغارد فيلسوف كبير على بلد صغير الحجم. بمعنى أنه أكبر من البلد الذي أنجبه. وبالفعل، فإن شهرته أكبر من الدنمارك، التي لا يتجاوز عدد سكانها 5 ملايين نسمة، وبالطبع أكبر من اللغة الدنماركية المحدودة الانتشار جداً قياساً إلى لغات كبرى كالفرنسية والإنجليزية والألمانية والإسبانية، ناهيك بالعربية. ولكن مؤلفاته أصبحت مترجمة إلى شتى لغات العالم. وبالتالي، لم تعد محصورة داخل جدران لغته الأصلية الصغيرة. لقد أصبحت ملكاً للعالم أجمع. هنا تكمن عظمة الترجمة وفائدتها. لا حضارة عظيمة من دون ترجمة عظيمة. والحضارة العربية التنويرية قادمة لا ريب، على أكتاف الترجمة والإبداع الذاتي في آنٍ معاً.

سورين كيركيغارد (1813 - 1855) هو مؤسس الفلسفة الوجودية المعاصرة، قبل هيدغر وسارتر بزمن طويل. إنه الممثل الأكبر للتيار الوجودي المسيحي المؤمن، لا المادي الملحد. كان كيركيغارد أحد كبار فلاسفة الدين في المسيحية، إضافة إلى برغسون وبول ريكور، مثلما أن ابن رشد وطه حسين ومحمد أركون هم من كبار فلاسفة الدين في الإسلام.

سورين كيركيغارد

لكن ليس عن هذا سأتحدث الآن، وإنما عن قصة حب كبيرة، وربما أكبر قصة حبّ ظهرت في الغرب، ولكن لا أحد يتحدث عنها أو يسمع بها في العالم العربي. سوف أتحدث عن قصة كيركيغارد مع الآنسة ريجين أولسين. كيف حصلت الأمور؟ كيف اشتعلت شرارة الحب، تلك الشرارة الخالدة التي تخترق العصور والأزمان وتنعش الحضارات؟ بكل بساطة، كان مدعواً إلى حفلة اجتماعية عند أحد الأصدقاء، وصادف أنها كانت مدعوة أيضاً. كانت صغيرة بريئة في الخامسة عشرة فقط، وهو في الخامسة والعشرين. فوقع في حبها على الفور من أول نظرة، وبالضربة القاضية. إنه الحب الصاعق الماحق الذي لا يسمح لك بأن تتنفس. ويبدو أنه كان شعوراً متبادلاً. وبعد 3 سنوات من اللقاءات والمراسلات المتبادلة، طلب يدها رسمياً فوافقت العائلة.

ولكنه صبيحة اليوم التالي استفاق على أمر عظيم. استفاق، مشوشاً مبلبلاً مرعوباً. راح ينتف شعر رأسه ويقول: يا إلهي، ماذا فعلت بنفسي؟ ماذا فعلت؟ لقد شعر بأنه ارتكب خطيئة لا تغتفر. فهو لم يخلق للزواج والإنجاب وتأسيس عائلة ومسؤوليات. إنه مشغول بأشياء أخرى، وينخر فيه قلق وجودي رهيب يكاد يكتسحه من الداخل اكتساحاً... فكيف يمكن له أن يرتكب حماقة كهذه؟ هذه جريمة بحقّ الأطفال الذين سوف يولدون وبحقّها هي أيضاً. ولذلك، فسخ الخطوبة قائلاً لها: أرجوك، إني عاجز عن القيام بواجبات الزوجية. أرجوك اعذريني.

ثم أردف قائلاً بينه وبين نفسه: لا يحق لي وأنا في مثل هذه الحالة أن أخرب حياة خطيبتي المفعمة بحب الحياة والأمل والمحبة، التي لا تعاني من أي مشكلة شخصية أو عقدة نفسية أو تساؤلات وجودية حارقة. وإنما هي إنسانة طبيعية كبقية البشر. أما أنا فإنسان مريض في العمق، ومرضي من النوع المستفحل العضال الذي لا علاج له ولا شفاء منه. وبالتالي، فواجب الشرف والأمانة يقتضي مني أن أدوس على قلبي وأنفصل عنها وكأني أنفصل عن روحي.

لكن عندما سمع بأنها تزوجت من شخص آخر جنّ جنونه وتقطعت نياط قلبه وهاجت عليه الذكريات. بل هرب من الدنمارك كلها لكيلا يسمع بالتفاصيل والتحضيرات وليلة العرس. هذا أكبر من طاقته على التحمل. وأصبح كالمجنون الهائم على وجهه في البراري والقفار. كيف يمكن أن يتخيلها مع رجل آخر؟ هل انطبقت السماء على الأرض؟ مجنون ليلى ما تعذب مثلنا.

الشيء المؤثر في هذه القصة هو أن خطيبته التي عاشت بعده 50 سنة تقريباً طلبت أن تدفن إلى جواره، لا إلى جوار زوجها الشرعي! فاجأ الخبر كثيرين. وكانت بذلك تريد أن تقول ما معناه: إذا كان القدر قد فرقني عنه في هذه الحياة الدنيا، فإني سألتحق به حتماً في الحياة الأخرى، حياة الأبدية والخلود. وكانت تعتبر نفسها «زوجته» برغم كل ما حصل. وبالفعل، عندما كان الناس يتذكرونها كانوا يقولون: خطيبة كيركيغارد، لا زوجة فريدريك شليجيل. وقالت: إذا لم يكن زوجي هنا على هذه الأرض، فسوف يكون زوجي هناك في أعالي السماء. موعدنا: جنة الخلد! هل هناك حب أقوى من هذا الحب؟ حب أقوى من الموت، حب فيما وراء القبر، فيما وراء العمر... الحب والإيمان. أين هو انتصارك يا موت؟

قصة حب تجمع بين كيركيغارد، مؤسس الفلسفة الوجودية، وفتاة شابة جميلة تصغره بعشر سنوات، لكن الفلسفة تقف حجر عثرة بينهما، فينفصل عنها وتظل صورتها تطارده طيلة حياته

اللقاء الأخير

كيف يمكن أن نفهم موقف كيركيغارد من حبيبته إن لم نقل معبودته ريجين أولسين؟ للوهلة الأولى يبدو أنه لا يوجد أي تفسير منطقي له. فقد قطع معها في أوج العلاقة الغرامية، دون أي سبب واضح أو مقنع. ويبدو أنها حاولت أن تراه لآخر مرة قبيل سفرها مع زوجها إلى بلاد بعيدة. أن تراه في الشارع كما لو عن طريق الصدفة. وعندما اصطدمت به، قالت له: «ليباركك الله، وليكن كل شيء كما ترغب». وهذا يعني أنها استسلمت للأمر الواقع نهائياً، وأنه لا عودة بعد اليوم إلى ما كان. تراجع كيركيغارد خطوة إلى الوراء عندما رآها حتى لكأنه جفل. ثم حياها دون أن ينبس بكلمة واحدة. لم يستطع أن يرد. اختنق الكلام في صدره. لكأنه يقول بينه وبين نفسه: هل يحق لمن يقف على الخطوط الأمامية لجبهة الفكر، لجبهة النار المشتعلة، أن يتزوج؟ هل يحق لمن يشعر بأن حياته مهددة أن ينجب الأطفال؟ أطفاله هم مؤلفاته فقط. هل يحق لمن يصارع كوابيس الظلام أن يؤسس حياة عائلية طبيعية؟ ما انفك كيركيغارد يحاول تبرير موقفه، بعد أن شعر بفداحة ما فعل مع ريجين. لقد اعتقد أنه انفصل عنها، وانتهى الأمر، فإذا بها تلاحقه إلى أبد الآبدين. ما انفك يلوم نفسه ويتحسر ويتعذب. لكأنه عرف أن ما فعله جريمة لا تغتفر. نعم، لقد ارتكب جريمة قتل لحب بريء، حب فتاة غضة في أول الشباب. من يستطيع أن يقتل العاطفة في أولها، في بداية انطلاقتها، في عنفوانها؟ طيلة حياته كلها لم يقم كيركيغارد من تلك الضربة: ضربة الخيانة والغدر. وربما لم يصبح كاتباً وفيلسوفاً شهيراً إلا من أجل تبريرها. لقد لاحقه الإحساس القاتل بالخطيئة والذنب حتى آخر لحظة من حياته. إذا لم نأخذ هذه النقطة بعين الاعتبار فإننا لن نفهم شيئاً من فلسفة كيركيغارد. لقد أصبحت قصته إحدى أشهر قصص الحب على مدار التاريخ، بالإضافة إلى قصة دانتي وبياتريس، وروميو وجولييت، وأبيلار وهيلويز. ويمكن أن نضيف: مجنون ليلي، وجميل بثينة، وكثير عزة، وعروة وعفراء، وذا الرمة ومي... إلخ. العرب هم الذين دشنوا هذا الحب العذري السماوي الملائكي قبل دانتي وشكسبير بزمن طويل. ولماذا تنسون عنتر وعبلة؟ بأي حق؟

ولقد ذكرتك والرماح نواهلٌ

مني وبيض الهند تقطر من دمي

فوددت تقبيل السيوف لأنها

لمعت كبارق ثغرك المتبسم

بعد أن تجاوز فيلسوف الدنمارك تلك التجربة العاصفة، شعر وكأنه ولد من جديد، أصبح إنساناً جديداً. لقد انزاح عن كاهله عبء ثقيل: لا عائلة ولا أطفال ولا زواج بعد اليوم، وإنما معارك فكرية فقط. لقد طهره حب ريجين أولسين من الداخل. كشف له عن أعماقه الدفينة، وأوضح له هويته ومشروعه في الحياة. الحب الذي يفشل يحرقك من الداخل حرقاً ويطهرك تطهيراً. بهذا المعنى، فالحب الفاشل أفضل من الحب الناجح بألف مرة. اسألوا أكبر عاشق فاشل في العالم العربي. بعدها أصبح كيركيغارد ذلك الفيلسوف والكاتب الكبير الذي نعرفه. بالمعنى الأدبي للكلمة، وليس مفكراً فيلسوفاً فقط، بالمعنى النثري العويص الجاف. من ثم هناك تشابه كبير بينه وبين نيتشه مع الفارق، الأول مؤمن، والثاني ملحد. وأخيراً، لم ينفك كيركيغارد يحلل أعماقه النفسية على ضوء ذلك الحب الخالد الذي جمعه يوماً ما بفتاة في عزّ الشباب، تدعى ريجين أولسين. عبقريته تفتحت على أنقاض ذلك الحب الحارق أو المحروق. كان ينبغي أن تحصل الكارثة لكي يستشعر ذاته، ينجلي الأفق، يعرف من هو بالضبط. من كثرة ما أحبها تركها. لقد قطع معها لكي تظل - وهي العزيزة الغائبة - أشد حضوراً من كل حضور!