أوكرانيا.. صعوبات السلام

بعد أن وضعت الحرب أوزارها.. على السياسيين معالجة الاختلافات العرقية والدينية والتداخلات الخارجية

أوكرانيا.. صعوبات السلام
TT

أوكرانيا.. صعوبات السلام

أوكرانيا.. صعوبات السلام

الأزمة الأوكرانية معقدة متشابكة يكتنف الغموض عددا من جوانبها، والأسباب متباينة، بقدر تباين طبيعة ديموغرافية أوكرانيا وجغرافيتها وكذلك تاريخ الدولة والمنطقة. وعلى الرغم من كل الجهود الرامية إلى تسوية الخلافات القائمة، فإن الهوة لا تزال واسعة تفصلها عن السلام المنشود الذي يظل مرهونا بأمور تبقى في معظمها خارج إرادة الداخل الأوكراني.
بعيدا عن تعرجات التاريخ، ومنها ما يتعلق بأن القديم منه لا يعرف وجودا لدولة أوكرانية، بل وعلى العكس يكشف عن أن كييف العاصمة الحالية للدولة الأوكرانية المعاصرة كانت مركزا للدولة الروسية القديمة تحت اسم «روسيا الكييفية»، يمكن القول إن التركيبة السكانية الحديثة لأوكرانيا تحمل في طياتها بذور شقاق ثمة من يعتبره حجر عثرة يحول دون سرعة تحقيق الاستقرار والسلام في الفترة القريبة المقبلة.
والشقاق هنا يتعلق بتباين الطبيعة الديموغرافية للدولة الأوكرانية في شرقها وغربها، وتعدد الانتماءات العرقية لسكانها من الأوكرانيين والروس والبولنديين والمجريين وغيرهم من القوميات، إلى جانب الانتماءات الدينية، حيث الأرثوذكسية شرقا والكاثوليكية غربا، والتي يضاف إليها اليوم العنصر الخارجي الذي يتمثل في مخططات واشنطن التوسعية.
ورغم أن الاتحاد السوفياتي كان من أهم العوامل التي ساهمت في تذويب الفوارق والانتماءات، وحقق لها الكثير من المكاسب والتوسعات شرقا من خلال ضم شبه جزيرة القرم وأراض شاسعة في جنوب شرقي أوكرانيا، وغربا من خلال ضم أراض شاسعة كانت تابعة لبولندا والمجر ورومانيا، فقد كانت أوكرانيا ولسخرية القدر أيضا من أهم معاول انهياره بعد أن وقع رئيسها الأسبق ليونيد كرافتشوك مع نظيره الروسي بوريس يلتسين والبيلاروسي فياتشيسلاف كرافتشوك وثيقة «بيلوفجسكايا بوشا» في 8 ديسمبر (كانون الأول) 1991 حول إعلان إنهاء الدولة الاتحادية.
وقد جاءت الأزمة الأوكرانية، بكل تفاصيلها التي تناولتها «الشرق الأوسط» في أكثر من تقرير على مدار العام، لتكشف عما سبق وأعلنته الولايات المتحدة من مخططات تستهدف فرض هيمنتها ليس فقط على أوكرانيا، بل وعلى كل المناطق الواقعة على مقربة مباشرة من الدولة الروسية منذ تسعينات القرن الماضي، وهو ما لم تكن موسكو بغافلة عنه. ولذا فإنها تظل في صدارة أصحاب المصلحة المباشرة في العثور على الحلول المناسبة للخروج من الأزمة الراهنة، وإنهاء الاقتتال الدائر على تخوم حدودها الجنوبية، ليس فقط من أجل إنقاذ أوكرانيا ووحدة أراضيها، بل وكذلك المنطقة والعالم ومعهما الشرعية الدولية ومبادئ الأمم المتحدة، وهو ما استطاع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وبالتعاون مع نظيره الأوكراني بيترو بوروشينكو التمهيد له من خلال خطة سلام، سباعية النقاط طرحها بوتين وقَبِلَها بوروشينكو مع بعض التعديلات الطفيفة. وكان بوتين أكد أكثر من مرة أن هناك من صنع الأزمة الأوكرانية لخدمة مآرب ذاتية، ويحاول تأجيج نيرانها تصفية لحسابات جديدة وتنفيذ مخططات قديمة، في إشارة لا تخلو من مغزى إلى الولايات المتحدة التي طالما كشفت عن مطامعها في المنطقة منذ تسعينات القرن الماضي، فيما عادت لتشعل نيران «الثورات الملونة» التي اجتاحت المناطق المجاورة لروسيا في جورجيا وأوكرانيا وقرغيزيا خلال السنوات الخمس الأولى من القرن الحالي.
ولذا لم يكن غريبا أن يعلن سيرغي لافروف وزير الخارجية الروسية من على منصة الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها الأخيرة أن «كييف وقعت ضحية لسياسات الغرب»، وإن حرص على إبداء حسن النوايا والتفاؤل حين قال إنه «لا تزال هناك فرصة لحل الأزمة الأوكرانية سلميا من خلال ما جرى التوصل إليه من اتفاقات». لكن وزير الخارجية الروسية بدا أكثر صراحة حين أشار إلى حقيقة ما يضمره الغرب من دسائس، ويحيكه من مخططات تعتمد على الانقلابات سبيلا إلى تحقيق ما تضمره من «نوايا شريرة». وقال لافروف: «إن الوقت قد حان للتخلي عن محاولات الضغط غير المشروع من جانب دول بعينها على الدول الأخرى».
وأضاف أن «الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي أيدا الانقلاب في أوكرانيا، وبررا كل ما قامت به السلطة الأوكرانية الجديدة المعلنة من جانب واحد في كييف من قمع وتعسف وانتهاك لحقوق بعض طوائف الشعب الأوكراني. وكان هؤلاء الأوكرانيون يرفضون محاولات فرض نظام غير دستوري في البلاد، ويريدون الدفاع عن حقهم في لغتهم الأم وثقافاتهم وتاريخهم». فيما خلص الوزير الروسي إلى «ضرورة أن تتبنى الأمم المتحدة بيانا ترفض فيه التدخل في الشؤون الداخلية للدول، وعدم الاعتراف بالانقلابات كوسيلة لتغيير السلطة».
ولم يكن خافيا على أحد أن الولايات المتحدة تقف وراء كل القلاقل والاضطرابات التي تموج بها كثير من مناطق العالم، وفي مقدمتها اليوم بلدان الفضاء السوفياتي السابق وما يجاورها من مناطق وفي مقدمتها الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. كما يدرك أبعاد المخططات الغربية كثير من صانعي القرار في الكرملين والأوساط السياسية الروسية ومنهم يفجيني بريماكوف وزير الخارجية ورئيس الحكومة الروسية الأسبق، الذي قال في حديث إلى التلفزيون الروسي يوم السبت الماضي: «إن روسيا كان يمكن أن تقدم خدمة جليلة إلى الولايات المتحدة لو كانت تدخلت في النزاع الجاري في جنوب شرقي أوكرانيا». وأضاف بريماكوف ضرورة الاعتراف بأن الولايات المتحدة نجحت عمليا في إخضاع أوروبا واستمالتها إلى كثير من مخططاتها بما في ذلك في أوكرانيا.
وأشار إلى أن أوروبا كان من الممكن أن ترزح تحت وطأة النفوذ الأميركي لما يزيد على مائة عام لو كانت روسيا أخطأت ودفعت بقواتها إلى أوكرانيا. ونذكر بهذا الصدد أن مجلس الاتحاد كان أقر مرسوم السماح للرئيس بوتين باستخدام القوات المسلحة خارج الحدود الروسية في مطلع مارس (آذار) الماضي وهو ما كان يعني الإذن له بإعلان قرار الحرب! على أن المجلس الفيدرالي الروسي سرعان ما أعلن عن إلغاء قراره بعد أن استجاب الرئيس الأوكراني بوروشينكو وأعلن عن سحب قواته المسلحة من جنوب شرقي أوكرانيا لمدة أسبوع.
وذلك كله يعني أن روسيا لم تكن بعيدة عن متابعة ما يدور على مقربة من حدودها بالكثير من الاهتمام الذي بلغ حد التدخل غير المباشر، من خلال متطوعيها الذين تقاطروا عبر الحدود المشتركة للالتحاق بفصائل الحرس الشعبي في مقاطعتي لوغانسك ودونيتسك اللتين أعلنتا انفصالهما من جانب واحد عن أوكرانيا، وهو ما كان في مقدمة الأسباب التي استندت إليها واشنطن وبلدان الاتحاد الأوروبي لفرض العقوبات الاقتصادية والسياسية.
وبغض النظر عن نتائج هذه العقوبات، فإن موسكو لم تتوقف عن محاولاتها من أجل احتواء الموقف، وتحقيق أكبر قدر من المكاسب بعد إعلانها عن الاستجابة لطلب سكان شبه جزيرة القرم حول العودة إلى الوطن الأم بعد غياب طال لما يقرب من 60 عاما وهو ما أشرنا إليه في أكثر من تقرير من موسكو. وقد كشفت تطورات الأحداث في أوكرانيا وما حولها عن أن كييف لا تملك قرارها، وأن الأمور تُدار من أروقة السياسة فيما وراء المحيط. كما أن الجدل الذي كان ولا يزال يحتدم بين ممثلي مختلف الأوساط السياسية الأوكرانية، يؤكد أن الخلافات الداخلية تظل أعمق مما يتصور كثير من المراقبين، وثمة من يتوقع أن تعصف بالكثير من مساحات الاتفاق المرحلي الذي كانت فصائل الساحة السياسية الأوكرانية توصلت إليه حين نجحت في الإطاحة بالرئيس فيكتور يانوكوفيتش في فبراير (شباط) الماضي.
من هذا المنظور يتوقع كثير من المراقبين ومنهم سيرغي ماركوف مدير معهد الدراسات الاستراتيجية في موسكو الذي قال في تصريحاته لـ«الشرق الأوسط» إن الفترة القريبة المقبلة لا بد أن تشهد انفراط عقد هذه الأوساط واحتدام الخلافات التي من المتوقع أن تنعكس نتائجها السلبية على مجمل الأوضاع في الداخل الأوكراني. وأضاف ماركوف أن «أوكرانيا نفسها تظل معرضة للزوال ولا أحد يمكن أن يصدق ما يقوله زعماؤها حول مستقبل لدولة أوكرانية». وأشار إلى ما قاله الرئيس بوروشينكو في مؤتمره الصحافي الأخير حول الانتخابات البرلمانية في أكتوبر (تشرين الأول) المقبل، مؤكدا أن هذه الانتخابات بالذات لا بد أن تكشف كثيرا من خلافاته مع رئيس حكومته ارسيني ياتسينيوك ورئيس البرلمان الحالي ألكسندر تورتشينوف، ومعهما ارسين اوفاكوف وزير الداخلية متعهد طواغيت المال ممن يمولون كل العمليات القتالية في جنوب شرقي أوكرانيا. وإذا أضفنا إلى كل ذلك، الخلافات التي تتصاعد الآن مع ممثلي الجبهة الشعبية التي تشكلت من حزب باتكفشينا (الوطن) بزعامة «أميرة الثورة البرتقالية» يوليا تيموشينكو وكذلك رموز الأحزاب القومية المتشددة ومنها أوليج تياجنيبوك زعيم حزب سفوبودا (الحرية)، وديمتري ياروش زعيم حركة «القطاع الأيمن»، ممن يتزعمون محاولات إرغام الرئيس بوروشينكو على التراجع عن قرار حول منح الحكم الذاتي للانفصاليين في إطار الدولة الأوكرانية، فإننا سنكون أمام صورة بالغة القتامة تنذر بصراعات يمكن أن تقوض ما تحقق من استقرار هش، بعد توقيع اتفاقات مينسك حول وقف إطلاق النار والتحرك صوب التسوية السياسية مع جنوب شرقي أوكرانيا. وبهذه المناسبة قال ماركوف أيضا إن بوروشينكو يحاول الحديث مع كل من الأطراف المعنية باللغة التي تتسق مع توجهاته، وهو ما لا بد أن يسفر في نهاية المطاف عن انفجار الخلافات، ومنها ما يتعلق بما قد ينجم عن محاولة تطبيق ما أعلنه حول «التطهير السياسي» و«مكافحة الفساد». وبهذه المناسبة يبدو ما يشبه الإجماع حول صعوبة تطبيق قانون «التطهير الحكومي» وإبعاد كل من كان يعمل مع النظام السابق، نظرا لأن الجميع تقريبا خرجوا من معطف هذا النظام وفي مقدمتهم الرئيس بوروشينكو ورئيس حكومته ياتسينيوك. وكان الجدل قد اشتعل في أوكرانيا حول احتمالات تطبيق قانون التطهير في المؤسسات الحكومية الذي أعلن عنه بوروشينكو في مؤتمره الصحافي من منظور أنه يجب أن يشمل كثيرا من العاملين في الرئاسة والحكومة منذ تسعينات القرن الماضي. وفي تصريحاته إلى «الشرق الأوسط» انتقد سيرغي ماركوف عضو مجلس الدوما السابق ومدير معهد الدراسات الاستراتيجية ما طرحه بوروشينكو تحت عنوان «استراتيجية 2020» التي تستهدف صياغة عقد اجتماعي جديد بين المجتمع والسلطة ورجال الأعمال. وقال إن الخلافات حول التهدئة التي أعلنها بوروشينكو ستعصف بكثير من أركان هذه الاستراتيجية، مما قد يسفر عن الحاجة إلى انتخابات رئاسية جديدة. وبهذه المناسبة لم يستبعد الرئيس الأوكراني في مؤتمره الصحافي احتمالات خروج الجماهير إلى الشارع في مظاهرات جديدة قال إنه يأمل أن تكون «إيجابية» مؤيدة لتوجهاته، وهو ما يكتنفه غموض كثير. على أن هناك من المؤشرات ما يقول أيضا إن الانتخابات البرلمانية المقبلة تحمل في طياتها كثيرا من مقدمات الفرقة والتي تمثلها الشعارات المتطرفة التي يرفعها خصوم الرئيس بوروشينكو من رفاق الماضي في حزب باتكفشينا وفصائل القوميين المتطرفين ممن وقفوا إلى جواره إبان رحلة الانقلاب على الرئيس السابق يانوكوفيتش. ومن اللافت أن هذه الشعارات تنادي بإلغاء ما اتخذه بوروشينكو من قرارات تستهدف تحقيق التهدئة ووقف إطلاق النار في جنوب شرقي أوكرانيا والاستجابة لبعض طموحات سكان هذه المناطق في الحكم الذاتي واستخدام اللغة القومية.
وكان الرئيس السوفياتي السابق ميخائيل غورباتشوف أعرب أيضا عن مخاوفه من احتمالات اشتعال «حرب باردة جديدة» في الوقت الذي يتابع العالم الكثير من فصولها. وأعاد غورباتشوف إلى الأذهان ما فعله الغرب معه حين خدعه بوعود كانت تقضي بعدم تقدم الناتو إلى أبعد من الحدود الشرقية لألمانيا الغربية، مما يؤكد الحذر والحرص تجاه كل ما تقوله الولايات المتحدة على حد قوله.
وقد أصاب فرانك شتاينماير وزير خارجية ألمانيا حين قال صراحة إن «الحل السياسي للأزمة الأوكرانية لا يزال وشأنه في السابق بعيد المنال، ولا أوهام تراودنا حول ذلك». ويذكر الجميع أن الأوضاع كانت حتى الأمس القريب قاب قوسين أو أدنى من اندلاع حرب «ضروس» ثمة من كان يتوق شوقا لأن تنجرف إليها روسيا المجاورة، كما سبق وأشار يفجيني بريماكوف. لكن موسكو وبدلا من أن تقدم على ارتكاب «خطأ العمر»، نجحت في نزع فتيل المواجهة بما قدمته من أفكار التف حولها وزراء خارجية روسيا وألمانيا وفرنسا والاتحاد الأوروبي في برلين، وبما سمح لاحقا ببدء اجتماعات مجموعة الاتصال الثلاثية في مينسك في 5 و9 سبتمبر (أيلول) الماضي بمشاركة ممثلي روسيا والاتحاد الأوروبي ممن نجحوا في تقريب مواقف الأطراف المتنازعة من كييف وجنوب شرقي أوكرانيا.
وإذا كان لافروف وزير الخارجية الروسية أعلن صراحة أن «أوكرانيا تبدو ضحية لسياسات الغرب»، فإنه عاد وأشار إليها على نحو أكثر صراحة ووضوحا، حين قال في معرض تعليقه على خطاب الرئيس الأميركي باراك أوباما والذي تضمن تصنيفه لروسيا بوصفها من أهم الأخطار التي تهدد العالم ووضعها في مرتبة سابقة للإرهاب الدولي: «إن هذا الخطاب يعكس رؤية أميركية للعالم شدد فيها مرارا على استثنائيته هو وبلاده.. رؤية بلاد سجلت في عقيدتها للأمن القومي حقها في استخدام القوة حسب هواها، بغض النظر عن القرارات الصادرة عن مجلس الأمن والقوانين الدولية الأخرى»



الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
TT

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)

شأن معظم دول المنطقة والإقليم، تسببت الأزمة السورية المتصاعدة في تراجع الاهتمام الرسمي والشعبي العراقي بالحرب التي تشنّها إسرائيل على غزة ولبنان، بعد أن كانت تحظى بأولوية قصوى، خصوصاً بعد التهديدات الإسرائيلية بتوجيه ضربات عسكرية ضد الفصائل المسلحة العراقية التي استهدفتها بأكثر من 200 هجمة صاروخية خلال الأشهر الماضية. وأظهر رئيس الوزراء محمد شيّاع السوداني، موقفاً داعماً للحكومة السورية في ظروفها الحالية منذ اليوم الأول للهجوم الذي شنَّته الفصائل السورية المسلحة وتمكّنت من السيطرة على محافظة حلب ومدن أخرى، إذ أجرى اتصالاً بالرئيس السوري بشار الأسد وكذلك الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، وأكد دعمه لدمشق.

أعلن رئيس الحكومة العراقي محمد شيّاع السوداني، يوم الثلاثاء الماضي، موقفاً أكثر وضوحاً بالنسبة لدعم نظام دمشق، وذلك خلال اتصال - مماثل لاتصاليه مع القيادتين السورية والإيرانية - أجراه مع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان.

ومما قاله السوداني إن «العراق لن يقف متفرجاً على التداعيات الخطيرة الحاصلة في سوريا، خصوصاً عمليات التطهير العرقي للمكوّنات والمذاهب هناك»، طبقاً لبيان حكومي.

كذلك شدّد الزعيم العراقي على أنه سبق لبلاده أن «تضرّرت من الإرهاب ونتائج سيطرة التنظيمات المتطرّفة على مناطق في سوريا، ولن يُسمَح بتكرار ذلك»، مؤكداً «أهمية احترام وحدة سوريا وسيادتها، وأن العراق سيبذل كل الجهود من أجل الحفاظ على أمنه وأمن سوريا».

محمد شياع السوداني (آ ف ب)

السوداني كان قد انهمك بسلسلة اتصالات خلال الأيام القليلة الماضية مع عدد من قادة الدول، بخصوص الوضع في سوريا؛ من «أجل دعم الاستقرار في المنطقة، وعدم حصول أي تداعيات فيها، خصوصاً مع ما تشهده من حرب إجرامية صهيونية مستمرة منذ أكثر من عام» بحسب بيان حكومي.

وأظهرت قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية موقفاً مماثلاً وداعماً لحكومة السوداني في مواقفها حيال سوريا، لكنها أعربت خلال اجتماع، الثلاثاء الماضي أيضاً، عن قلقها جراء الأوضاع في سوريا بعد «احتلال الإرهابيين مناطق مهمة» طبقاً لبيان صدر عن الاجتماع. وعدّت «أمن سوريا امتداداً للأمن القومي العراقي للجوار الجغرافي بين البلدين، والامتدادات المختلفة لذلك الجوار».

الحدود المشتركة مؤمّنة

للعلم، مع الشرارة الأولى لاندلاع الأزمة السورية، اتخذت السلطات العراقية على المستوى الأمني إجراءات عديدة «لتأمين» حدودها الممتدة لأكثر من 600 كيلومتر مع سوريا. وصدرت بيانات كثيرة حول جاهزية القوات العراقية وقدرتها على التصدّي لأي محاولة توغّل داخل الأراضي العراقية من قبل الفصائل المسلحة من الجانب السوري، مثلما حدث صيف عام 2014، حين تمكَّنت تلك الجماعات من كسر الحدود المشتركة والسيطرة على مساحات واسعة من العراق.

اللواء يحيى رسول، الناطق باسم القائد العام للقوات المسلحة العراقية، أوضح (الثلاثاء) أبرز الإجراءات المُتَّخذة لتحصين الحدود مع سوريا. وقال في تصريحات صحافية إن «الحدود مؤمَنة ومُحكمة بشكل كبير من تحكيمات وتحصينات، وهناك وجود لقوات الحدود على خط الصفر الذي يربطنا مع الجارة سوريا مدعومة بالأسلحة الساندة والجهد الفني، المتمثل بالكاميرات الحرارية وأبراج المراقبة المحصّنة». وأضاف رسول: «لا خوف على الحدود العراقية، فهي مؤمّنة ومحكمة ومحصّنة، وأبطالنا منتشرون على طولها»، مشيراً إلى أنه «تم تعزيز الحدود بقطاعات من الألوية المدرعة وهي موجودة أيضاً عند الحدود».

أيضاً، وصل وفد أمني برئاسة الفريق أول قوات خاصة الركن عبد الأمير رشيد يارالله، رئيس أركان الجيش، يوم الأربعاء، إلى الشريط الحدودي العراقي - السوري. وذكر بيان عسكري أن «هدف الزيارة جاء لمتابعة انتشار القطعات الأمنية وانفتاح خطوط الصد».

غموض في الموقف

إلا أنه حتى مع المواقف الحكومية الداعمة لدمشق في أزمتها الراهنة، يبدو جلياً «الالتباس» بالنسبة لكثرة من المراقبين، وبالأخص لجهة شكل ذلك الدعم وطبيعته، وما إذا كانت السلطات الحكومية العراقية ستنخرط بقوة لمساعدة نظام الأسد عسكرياً، أم أنها ستبقى عند منطقة الدعم السياسي والدبلوماسي، تاركة أمر الانخراط والمساعدة الميدانية للفصائل المسلحة.

وهنا يلاحظ إياد العنبر، أستاذ العلوم السياسية في جامعة بغداد، وجود «التباس واضح حيال الموقف من الحدث السوري، وهذا الالتباس نختبره منذ سنوات، وليس هناك تمييز واضح بين العراق الرسمي وغير الرسمي». وتابع العنبر لـ«الشرق الأوسط» أن «مستويات تفعيل المساهمة العراقية في الحرب غير واضحة، وإذا ما قررت الحكومة البقاء على المستوى الدبلوماسي بالنسبة لقضة دعم سوريا، أم أن هناك مشاركة عسكرية».

غير أن إحسان الشمري، أستاذ الدراسات الاستراتيجية والدولية في جامعة بغداد، يعتقد بأن «العراق الرسمي عبَر عتبة التردّد، وبات منخرطاً في الأزمة السورية». وفي لقاء مع «الشرق الأوسط» بنى الشمري فرضيته على مجمل المواقف الرسمية التي صدرت عن رئيس الوزراء، والناطق الرسمي، وزعماء «الإطار التنسيقي»، وشرح قائلاً إن «هذه المواقف بمجملها كسرت مبدأ الحياد وعدم التدخل في شؤون الدول الأخرى الذي يتمسّك به العراق، إلى جانب كونها انخراطاً رسمياً عراقياً بالأزمة السورية».

نتنياهو غير مضمون

ولكن، بعيداً عن الانشغال الراهن بالأزمة السورية، ما زالت التهديدات الإسرائيلية بين أهم القضايا التي تشغل الرأي العام ببعدَيه السياسي والشعبي. وحتى مع الترحيب العراقي بقرار وقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حزب الله»، ما زالت مخاوف البلاد من ضربة إسرائيلية محتملة قائمةً.

ولقد قال الناطق باسم الحكومة باسم العوادي، الأربعاء قبل الماضي، في تصريحات صحافية، إنه «مع عملية وقف إطلاق النار في لبنان، نحن أنهينا الجزء الأسهل، فالمعركة انتهت والحرب لم تنتهِ، فالأصعب أنك ستدخل بالمخططات غير المعلومة. ونحن (العراق) واقعون في المنطقة الحرام، لكن السياسة العقلانية المتوازنة استطاعت أن تجنبنا الضرر».

وأجاب، من ثم، عن طبيعة الرد العراقي إذا ما هاجمت إسرائيل أراضيه، بالقول: «إلى حد أيام قليلة كانت تأتي نتائج جيدة من المعادلات التي اشتغل عليها رئيس الوزراء، لكن رغم ذلك فلا أحد يضمن ما الذي يدور في بال حكومة نتنياهو، وما هو القادم مع الإدارة الأميركية الجديدة، وكيف سيتصرف نتنياهو».

وتابع العوادي، أن «الإسرائيليين عملوا على تفكيك الساحات، وتوجيه ضربات إلى اليمن وسوريا، لكن الطرف العراقي هو الوحيد الذي لم يستطيعوا الوصول إليه بفضل المعادلة... وقد يكونون وضعونا للحظات الأخيرة أو الأيام الأخيرة بنوع ما، وهذا وارد جداً، وتتعامل الحكومة العراقية مع ذلك».

شبح هجوم إسرائيلي

وحقاً، لا يزال شبح هجوم إسرائيلي واسع يخيم على بغداد، إذ تناقلت أوساط حزبية تحذيرات جدية من شنِّ ضربات جوية على العراق. وفي وقت سابق، قال مصدر مقرّب من قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، لـ«الشرق الأوسط»، إنَّ «مخاوف الأحزاب الشيعية من جدية التهديد دفعتها إلى مطالبة رئيس الحكومة للقيام بما يلزم لمنع الهجمات». وأكَّد المصدر أنَّ «فصائل عراقية مسلّحة لجأت أخيراً إلى التحرك في أجواء من التكتم والسرية، وقد جرى بشكل مؤكد إبدال معظم المواقع العسكرية التابعة لها».

وفي سياق متصل، تتحدَّث مصادر صحافية عمَّا وصفتها بـ«التقديرات الحكومية» التي تشير إلى إمكانية تعرّض البلاد لـ«300 هجوم إسرائيلي». وفي مطلع الأسبوع الماضي، شدَّدت وزارة الخارجية العراقية، في رسالة إلى مجلس الأمن، على أهمية «تدخل المجتمع الدولي لوقف هذه السلوكيات العدوانية لإسرائيل».

كما أنَّه حيال التهديدات الجدية والخشية الحقيقية من عمل عسكري إسرائيل ضد البلاد، اهتدت بعض الشخصيات والأجواء المقرّبة من الحكومة والفصائل إلى «رمي الكرة» في الملعب الأميركي، مستندين بذلك إلى اتفاقية «الإطار الاستراتيجي» المُوقَّعة منذ عام 2011، بين بغداد وواشنطن، وهو العام الذي خرجت فيه القوات الأميركية من العراق.

التهديدات الإسرائيلية من أهم القضايا التي تشغل الرأي العام العراقي

هادي العامري (رووداو)

العامري يلوم واشنطن

أيضاً، وجد هادي العامري، زعيم منظمة «بدر»، بنهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، الفرصة ليحمّل واشنطن مسؤولية حماية الأجواء العراقية، بعدما شنَّت إسرائيل هجوماً عسكرياً ضد إيران، مستخدمةً الأجواء العراقية في هجماتها. ويومذاك، حمّل العامري الجانب الأميركي «المسؤولية الكاملة» على انتهاك إسرائيل سيادة الأجواء العراقية في طريقها لضرب إيران. وقال، إن «الجانب الأميركي أثبت مجدّداً إصراره على الهيمنة على الأجواء العراقية، وعمله بالضد من مصالح العراق وشعبه وسيادته، بل سعيه لخدمة الكيان الصهيوني وإمداده بكل ما يحتاج إليه لممارسة أساليبه العدوانية، وتهديده للسلام والاستقرار في المنطقة».

وأضاف العامري: «لهذا باتت الحاجة ماسة أكثر من أي وقت مضى لإنهاء الوجود العسكري الأميركي في العراق بأشكاله كافة». وللعلم، فإن منظمة «بدر» - التي يقودها العامري - وردت ضمن لائحة المنظمات التي اتهمتها إسرائيل بشنِّ هجمات ضدها خلال الشكوى التي قدمتها إلى مجلس الأمن في 18 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.

وبناءً على تصريحات العامري السالفة، وتصريحات أخرى لشخصيات مقرّبة من الفصائل المسلحة وقوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، تبلورت خلال الأسبوع الأخير، قناعة داخل أوساط هذه القوى مفادها، بأن واشنطن «ملزمة وبشكل مباشر بحماية الأجواء العراقية» من أي هجوم محتمل من إسرائيل أو غيرها، أخذاً في الاعتبار الاتفاقية الاستراتيجية الموقعة و«سيطرتها على الأجواء العراقية».

وبالتوازي، سبق أن حمّل فادي الشمري، المستشار السياسي لرئيس الوزراء، الولايات المتحدة، أيضاً وفقاً لـ«اتفاقية الإطار الاستراتيجي والاتفاقية الأمنية»، مسؤولية «الردع، والرد على أي هجمات خارجية تمسّ الأمن الداخلي العراقي».

الرد الأميركي قاطع

في المقابل، تخلي واشنطن مسؤوليتها حيال هذا الأمر. ورداً على المزاعم العراقية المتعلقة بـ«الحماية الأميركية»، قالت ألينا رومانوسكي، السفيرة الأميركية في بغداد، صراحةً إن بلادها غير معنية بذلك. وأردفت رومانوسكي، خلال مقابلة تلفزيونية سابقة، أن التحالف الدولي دُعي إلى العراق لـ«محاربة (داعش) قبل 10 سنوات، وقد حققنا إنجازات على مستوى هزيمة هذا التنظيم، لكنه ما زال يمثل بعض التهديد، ودعوة الحكومة العراقية لنا تتعلق بهذا الجانب حصراً. أما اتفاقية الإطار الاستراتيجي فتلزمنا ببناء القدرات العسكرية العراقية، لكنها لا تتطرق لمسألة حماية الأجواء والدفاع بالنيابة». ونفت السفيرة أن تكون بلادها قد «فرضت سيطرتها على سماء العراق».

والاثنين قبل الماضي، قالت رومانوسكي، خلال لقاء «طاولة مستديرة» لعدد من وسائل الإعلام: «أود أن أكون واضحة جداً، ومنذ البداية، بأن الإسرائيليين وجّهوا تحذيرات ردع للميليشيات المدعومة إيرانياً والموجودة هنا في العراق، التي تعتدي على إسرائيل». وأضافت: «هذه الميليشيات هي التي بدأت الاعتداء على إسرائيل. ولأكون واضحة جداً في هذه النقطة، فإن الإسرائيليين حذّروا حكومة العراق بأن يوقف هذه الميليشيات عن اعتداءاتها المتكررة والمستمرة على إسرائيل... إن رسالتنا إلى حكومة العراق هي أن تسيطر على هذه الميليشيات المنفلتة، والتي لا تعتد بأوامر الحكومة وأوامر القائد العام للقوات المسلحة رئيس الوزراء. إن إسرائيل دولة لها سيادتها، وهي سترد على أي اعتداء من أي مكان ضدها».

جدعون ساعر (آ ف ب)

 

حقائق

قلق عراقي جدّي من التهديدات الإسرائيلية مع مطالبة واشنطن بالتدخّل

خلال الأسبوع قبل الماضي، بعث وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر رسالةً إلى مجلس الأمن تكلّم فيها عمّا أسماه بـ«حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها»، وحمّل فيها الحكومة العراقية المسؤولية عن الهجمات التي تشنها الفصائل العراقية عليها، داعياً مجلس الأمن للتحرك والتأكد من أن الحكومة العراقية تفي بالتزاماتها. ساعر اتّهم بالتحديد «عصائب أهل الحق» و«كتائب حزب الله» و«ألوية بدر» وحركة «النُّجباء» و«أنصار الله الأوفياء» و«كتائب سيد الشهداء»، بمهاجمة إسرائيل، ومعظم هذه الفصائل مشاركة في الحكومة العراقية الحالية ولها نفوذ كبير داخلها. هنا، تجدر الإشارة إلى أنه سبق لرئاسة الوزراء العراقية توجيه وزارة الخارجية لمتابعة ملف التهديدات الإسرائيلية في المحافل الأممية والدولية وأمام هيئات منظمة الأمم المتحدة، واتخاذ كل الخطوات اللازمة، وفق مبادئ القانون الدولي، لحفظ حقوق العراق وردع تهديدات إسرائيل العدوانية. كذلك طالبت رئاسة الوزراء بـ«دعوة جامعة الدول العربية إلى اتخاذ موقف حازم وموحّد ضد تهديدات سلطات الكيان المحتل، يتضمن إجراءات عملية تستند إلى وحدة المصير والدفاع المشترك». وهذا بجانب «مطالبة مجلس الأمن الدولي بالنظر في الشكاوى المقدمة من جمهورية العراق ضد سلطات الكيان المحتل، واتخاذ إجراءات رادعة تكفل تحقيق الاستقرار والسِّلم الإقليمي والدولي»، وباتخاذ الولايات المتحدة مع العراق، من خلال الحوارات الأمنية والعسكرية ضمن إطار القسم الثالث من «اتفاقية الإطار الاستراتيجي»، خطوات فعالة «لردع سلطات الكيان المحتل» مع دعوة «التحالف الدولي والدول الأعضاء فيه إلى كبح هذه التهديدات والحدّ من اتساع رقعة الحرب».